[ ص: 475 ] المسألة الثانية عشرة
إن
nindex.php?page=treesubj&link=28747الشريعة كما أنها عامة في جميع المكلفين ، وجارية على مختلفات أحوالهم ; فهي عامة أيضا بالنسبة إلى عالم الغيب وعالم الشهادة من جهة كل مكلف ; فإليها نرد كل ما جاءنا من جهة الباطن ، كما نرد إليها كل ما في الظاهر ، والدليل على ذلك أشياء :
منها : ما تقدم في المسألة قبلها من ترك اعتبار الخوارق إلا مع موافقة ظاهر الشريعة .
والثاني : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28747الشريعة حاكمة لا محكوم عليها ، فلو كان ما يقع من الخوارق والأمور الغيبية حاكما عليها بتخصيص عموم ، أو تقييد إطلاق ، أو تأويل ظاهر ، أو ما أشبه ذلك ; لكان غيرها حاكما عليها ، وصارت هي محكوما عليها بغيرها ، وذلك باطل باتفاق ; فكذلك ما يلزم عنه .
والثالث : أن
nindex.php?page=treesubj&link=28747مخالفة الخوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها ، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات وليست كذلك ، بل أعمالا من أعمال الشيطان ; كما حكى
عياض عن الفقيه
أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة بمحرابه يصلي ويدعو ويتضرع ، وقد وجد رقة ، فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم ، ثم بدا له وجه كالقمر ، وقال له : " تملأ من وجهي يا
أبا ميسرة ; فأنا ربك الأعلى " ; فبصق فيه وقال له : " اذهب يا لعين عليك لعنة الله " .
وكما يحكى عن
عبد القادر الكيلاني أنه عطش عطشا شديدا ; فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب ، ثم نودي من سحابة : " يا
[ ص: 476 ] فلان ! أنا ربك وقد أحللت لك المحرمات " . فقال له : اذهب يا لعين . فاضمحلت السحابة ، وقيل له : بم عرفت أنه إبليس ؟ قال : بقوله : قد أحللت لك المحرمات " .
هذا وأشباهه لو لم يكن الشرع حكما فيها لما عرف أنها شيطانية .
وقد نزعت إلى هذا المنزع في ابتداء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=showalam&ids=10640خديجة بنت خويلد زوجه رضي الله عنها ; فإنها قالت له :
أي ابن عم ! أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم . قالت : فإذا جاءك فأخبرني به . فلما جاء أخبرها ; فقالت : قم يا بن عم ; فاجلس على فخذي اليسرى . فجلس ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : نعم . ثم حولته إلى فخذها اليمنى ، ثم إلى حجرها ، وفي كل ذلك تقول : هل تراه ؟ فيقول : نعم . قال الراوي : فتحسرت ، وألقت خمارها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : لا . وفي رواية : أنها أدخلته بينها وبين درعها ; فذهب عند ذلك . فقالت : يا ابن عم ! اثبت وأبشر ; فوالله إنه لملك ، ما هذا بشيطان .
[ ص: 477 ] ولا يقال : إن ثم مدارك أخر يختص بها الولي ، لا يفتقر بها إلى النظر الشرعي ; لأنا نقول : إن كان كما قلت على فرض تسليمه ; فتلك المدارك من جملة الكرامات والخوارق ; إذ لا يختص بها إلا من كان وليا لله ، فلا فرق بينها وبين غيرها من الخوارق المشاهدة ، فلا بد إذا من حكم يحكم بصحتها ، وشاهد يشهد لها ; وإذ ذاك يلزم التسلسل ، وهو محال ، ولا يكتفى في ذلك بدعوى الوجدان ، فإن الوجدان من حيث هو وجدان لا دليل فيه على صحته ولا فساده ; لأن الآلام واللذات من المواجد التي لا تنكر ولا يدل ذلك على صحتها أو فسادها شرعا ، وكذلك سائر الأمور التي لا يقدر الإنسان على الانفكاك عنها ، فالغضب مثلا إذا هاج بالإنسان أمر لا ينكر كالمواجد من غير فرق ، وقد يكون محمودا إذا كان غضبا لله ، ومذموما إذا كان لغير الله ، ولا يفرق بينها إلا النظر الشرعي ; إذ لا يصح أن يقال : هذا الغضب قد أدرك صاحبه أنه محمود لا مذموم من غير نظر شرعي ; لأن الحمد والذم راجعان إلى الشرع لا إلى العقل ، فمن أين أدرك أنه محمود شرعا ، فلا يمكن أن يدركه كذلك بغير الشرع أصلا ، ولا يصح أيضا أن ينسب تمييزه إلى المربي والمعلم ; لأن البحث جار فيه أيضا .
وإنما الذي يشكل في المسألة أن
nindex.php?page=treesubj&link=28807الخوارق لا قدرة للإنسان على كسبها ولا على دفعها ; إذ هي مواهب من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده ،
[ ص: 478 ] فإذا وردت على صاحبها ; فلا حكم فيها للشرع وإن فرضنا أنها غير موافقة له ; كورود الآلام والأوجاع على الإنسان بغتة ، أو ورود الأفراح عليه كذلك من غير اكتساب ، فكما لا توصف هذه الأشياء بحسن ولا قبح شرعا ، ولا يتعلق بها حكم شرعي ; كذلك في مسألتنا ، بل أشبه شيء بها الإغماء أو الجنون أو ما أشبهه ، فلا حكم يتعلق به وإن فرضنا لحوق الضرر به على الغير كما إذا أتلف المجنون مالا أو قتل نفسا أو شرب خمرا في حال جنونه ، ألا ترى ما يحكى عن جملة منهم في استغراقهم في الأحوال حتى تمضي عليهم أوقات الصلوات وهم لا يشعرون ، ويقع منهم الوعد فيؤخذون عن أنفسهم في المكاشفات والمنازلات ; فلا يفون ، ويكاشفون بأحوال الخلق بحيث يطلعون على عوراتهم إلى ما أشبه ذلك ; فهذا وما كان مثله إذا كان واقعا منهم ومنقولا عنهم ، وهو داخل عليهم شاءوا أم أبوا ، فكيف ينكر في نفسه أو يعد مما يدخل تحت أحكام الشريعة ؟
والجواب أن ما تقدم من الأدلة كاف في إثبات أصل المسألة ، وما اعترض به لا اعتراض به ; فإن الخوارق وإن كانت لا قدرة للإنسان في كسبها ولا دفعها ; فلقدرته تعلق بأسباب هذه المسببات . وقد مر أن الأسباب هي التي خوطب
[ ص: 479 ] [ ص: 480 ] المكلف بها أمرا أو نهيا ، ومسبباتها خلق لله ; فالخوارق من جملتها .
وتقدم أيضا أن ما نشأ عن الأسباب من المسببات ; فمنسوب إلى المكلف حكمه من جهة التسبب ; لأجل أن عادة الله في المسببات أن تكون على وزان الأسباب في الاستقامة والاعوجاج ، والاعتدال والانحراف ; فالخوارق مسببات عن الأسباب التكليفية ، فبقدر اتباع السنة في الأعمال وتصفيتها من شوائب الأكدار وغيوم الأهواء تكون الخارقة المترتبة ; فكما أنه يعرف من نتائج الأعمال العادية صواب تلك الأعمال أو عدم صوابها ; كذلك ما نحن فيه ، وقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=16إنما تجزون ما كنتم تعملون [ الطور : 16 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=52هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون [ يونس : 52 ] .
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337419إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها .
[ ص: 481 ] وهو عام في الجزاء الدنيوي والأخروي ، وفروع الفقه في المعاملات شاهدة هنا كشهادة العادات ; فالموضوع مقطوع به في الجملة .
وإذا ثبت هذا ; فما ظهر في الخارقة من استقامة أو اعوجاج ; فمنسوب إلى الرياضة المتقدمة ، والنتائج تتبع المقدمات بلا شك ; فصار الحكم التكليفي متعلقا بالخوارق من جهة مقدماتها ، فلا تسلم لصاحبها ، وإذ ذاك لا تخرج عن النظر الشرعي بخلاف المرض والجنون وأشباههما مما لا سبب له من جهة المكلف ; فإنه لا يتعلق به حكم تكليفي ، ولو فرضنا أن المكلف تسبب في تحصيله ; لكان منسوبا إليه ولتوجه التكليف إليه ; كالشكر ونحوه ; فحصل من هذا التقرير أن الشرع حاكم على الخوارق وغيرها ، لا يخرج عن حكمه شيء منها ، والله أعلم .
[ ص: 475 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ
إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28747الشَّرِيعَةَ كَمَا أَنَّهَا عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَجَارِيَةٌ عَلَى مُخْتَلِفَاتِ أَحْوَالِهِمْ ; فَهِيَ عَامَّةٌ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ وَعَالَمِ الشَّهَادَةِ مِنْ جِهَةِ كُلِّ مُكَلَّفٍ ; فَإِلَيْهَا نَرُدُّ كُلَّ مَا جَاءَنَا مِنْ جِهَةِ الْبَاطِنِ ، كَمَا نَرُدُّ إِلَيْهَا كُلَّ مَا فِي الظَّاهِرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءُ :
مِنْهَا : مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا مِنْ تَرْكِ اعْتِبَارِ الْخَوَارِقِ إِلَّا مَعَ مُوَافَقَةِ ظَاهِرِ الشَّرِيعَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28747الشَّرِيعَةَ حَاكِمَةٌ لَا مَحْكُومٌ عَلَيْهَا ، فَلَوْ كَانَ مَا يَقَعُ مِنَ الْخَوَارِقِ وَالْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ حَاكِمًا عَلَيْهَا بِتَخْصِيصِ عُمُومٍ ، أَوْ تَقْيِيدِ إِطْلَاقٍ ، أَوْ تَأْوِيلِ ظَاهِرٍ ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; لَكَانَ غَيْرُهَا حَاكِمًا عَلَيْهَا ، وَصَارَتْ هِيَ مَحْكُومًا عَلَيْهَا بِغَيْرِهَا ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ ; فَكَذَلِكَ مَا يَلْزَمُ عَنْهُ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28747مُخَالَفَةَ الْخَوَارِقِ لِلشَّرِيعَةِ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِهَا فِي نَفْسِهَا ، وَذَلِكَ أَنَّهَا قَدْ تَكُونُ فِي ظَوَاهِرِهَا كَالْكَرَامَاتِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ ، بَلْ أَعْمَالًا مِنْ أَعْمَالِ الشَّيْطَانِ ; كَمَا حَكَى
عِيَاضٌ عَنِ الْفَقِيهِ
أَبِي مَيْسَرَةِ الْمَالِكِيِّ أَنَّهُ كَانَ لَيْلَةً بِمِحْرَابِهِ يُصَلِّي وَيَدْعُو وَيَتَضَرَّعُ ، وَقَدْ وَجَدَ رِقَّةً ، فَإِذَا الْمِحْرَابُ قَدْ انْشَقَّ وَخَرَجَ مِنْهُ نُورٌ عَظِيمٌ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ وَجْهٌ كَالْقَمَرِ ، وَقَالَ لَهُ : " تَمَلَّأْ مِنْ وَجْهِي يَا
أَبَا مَيْسَرَةَ ; فَأَنَا رَبُّكَ الْأَعْلَى " ; فَبَصَقَ فِيهِ وَقَالَ لَهُ : " اذْهَبْ يَا لَعِينُ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ " .
وَكَمَا يُحْكَى عَنْ
عَبْدِ الْقَادِرِ الْكِيلَانِيِّ أَنَّهُ عَطِشَ عَطَشًا شَدِيدًا ; فَإِذَا سَحَابَةٌ قَدْ أَقْبَلَتْ وَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِ شِبْهَ الرَّذَاذِ حَتَّى شَرِبَ ، ثُمَّ نُودِيَ مِنْ سَحَابَةٍ : " يَا
[ ص: 476 ] فُلَانُ ! أَنَا رَبُّكَ وَقَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ الْمُحَرَّمَاتِ " . فَقَالَ لَهُ : اذْهَبْ يَا لَعِينُ . فَاضْمَحَلَّتِ السَّحَابَةُ ، وَقِيلَ لَهُ : بِمَ عَرَفْتَ أَنَّهُ إِبْلِيسُ ؟ قَالَ : بِقَوْلِهِ : قَدْ أَحْلَلْتُ لَكَ الْمُحْرِمَاتِ " .
هَذَا وَأَشْبَاهُهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الشَّرْعُ حَكَمًا فِيهَا لَمَا عُرِفَ أَنَّهَا شَيْطَانِيَّةٌ .
وَقَدْ نَزَعَتْ إِلَى هَذَا الْمَنْزَعِ فِي ابْتِدَاءِ الْوَحَيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
nindex.php?page=showalam&ids=10640خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ زَوْجُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ; فَإِنَّهَا قَالَتْ لَهُ :
أَيِ ابْنَ عَمِّ ! أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ إِذَا جَاءَكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَتْ : فَإِذَا جَاءَكَ فَأَخْبِرْنِي بِهِ . فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَهَا ; فَقَالَتْ : قُمْ يَا بْنَ عَمِّ ; فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِيَ الْيُسْرَى . فَجَلَسَ ، ثُمَّ قَالَتْ : هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ : نَعَمْ . ثُمَّ حَوَّلَتْهُ إِلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى ، ثُمَّ إِلَى حِجْرِهَا ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ تَقُولُ : هَلْ تَرَاهُ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ . قَالَ الرَّاوِي : فَتَحَسَّرَتْ ، وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا ، ثُمَّ قَالَتْ : هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ : لَا . وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّهَا أَدْخَلَتْهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا ; فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ . فَقَالَتْ : يَا ابْنَ عَمِّ ! اثْبُتْ وَأَبْشِرْ ; فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَلَكٌ ، مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ .
[ ص: 477 ] وَلَا يُقَالُ : إِنَّ ثَمَّ مَدَارِكَ أُخَرَ يُخْتَصُّ بِهَا الْوَلِيُّ ، لَا يَفْتَقِرُ بِهَا إِلَى النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ ; لِأَنَّا نَقُولُ : إِنْ كَانَ كَمَا قُلْتُ عَلَى فَرْضِ تَسْلِيمِهِ ; فَتِلْكَ الْمَدَارِكُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَرَامَاتِ وَالْخَوَارِقِ ; إِذْ لَا يَخْتَصُّ بِهَا إِلَّا مَنْ كَانَ وَلِيًّا لِلَّهِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنَ الْخَوَارِقِ الْمُشَاهَدَةِ ، فَلَا بُدَّ إِذًا مِنْ حُكْمٍ يَحْكُمُ بِصِحَّتِهَا ، وَشَاهِدٍ يَشْهَدُ لَهَا ; وَإِذْ ذَاكَ يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ ، وَهُوَ مُحَالٌ ، وَلَا يُكْتَفَى فِي ذَلِكَ بِدَعْوَى الْوِجْدَانِ ، فَإِنَّ الْوِجْدَانَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وِجْدَانٌ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى صِحَّتِهِ وَلَا فَسَادِهِ ; لِأَنَّ الْآلَامَ وَاللَّذَّاتِ مِنَ الْمَوَاجِدِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِهَا شَرْعًا ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمُورِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَى الِانْفِكَاكِ عَنْهَا ، فَالْغَضَبُ مَثَلًا إِذَا هَاجَ بِالْإِنْسَانِ أَمْرٌ لَا يُنْكَرُ كَالْمَوَاجِدِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ ، وَقَدْ يَكُونُ مَحْمُودًا إِذَا كَانَ غَضَبًا لِلَّهِ ، وَمَذْمُومًا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهَا إِلَّا النَّظَرُ الشَّرْعِيُّ ; إِذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْغَضَبُ قَدْ أَدْرَكَ صَاحِبُهُ أَنَّهُ مَحْمُودٌ لَا مَذْمُومٌ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ شَرْعِيٍّ ; لِأَنَّ الْحَمْدَ وَالذَّمَّ رَاجِعَانِ إِلَى الشَّرْعِ لَا إِلَى الْعَقْلِ ، فَمِنْ أَيْنَ أَدْرَكَ أَنَّهُ مَحْمُودٌ شَرْعًا ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرِكَهُ كَذَلِكَ بِغَيْرِ الشَّرْعِ أَصْلًا ، وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَنْسُبَ تَمْيِيزَهُ إِلَى الْمُرَبِّي وَالْمُعَلِّمِ ; لِأَنَّ الْبَحْثَ جَارٍ فِيهِ أَيْضًا .
وَإِنَّمَا الَّذِي يُشْكِلُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28807الْخَوَارِقَ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى كَسْبِهَا وَلَا عَلَى دَفْعِهَا ; إِذْ هِيَ مَوَاهِبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ،
[ ص: 478 ] فَإِذَا وَرَدَتْ عَلَى صَاحِبِهَا ; فَلَا حُكْمَ فِيهَا لِلشَّرْعِ وَإِنْ فَرَضْنَا أَنَّهَا غَيْرُ مُوَافِقَةٍ لَهُ ; كَوُرُودِ الْآلَامِ وَالْأَوْجَاعِ عَلَى الْإِنْسَانِ بَغْتَةً ، أَوْ وُرُودِ الْأَفْرَاحِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ ، فَكَمَا لَا تُوصَفُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِحُسْنٍ وَلَا قُبْحٍ شَرْعًا ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ; كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا ، بَلْ أَشْبَهُ شَيْءٌ بِهَا الْإِغْمَاءُ أَوِ الْجُنُونُ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ ، فَلَا حُكْمَ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَإِنْ فَرَضْنَا لُحُوقَ الضَّرَرِ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ كَمَا إِذَا أَتْلَفَ الْمَجْنُونُ مَالًا أَوْ قَتَلَ نَفْسًا أَوْ شَرِبَ خَمْرًا فِي حَالِ جُنُونِهِ ، أَلَا تَرَى مَا يُحْكَى عَنْ جُمْلَةٍ مِنْهُمْ فِي اسْتِغْرَاقِهِمْ فِي الْأَحْوَالِ حَتَّى تَمْضِيَ عَلَيْهِمْ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ، وَيَقَعُ مِنْهُمُ الْوَعْدُ فَيُؤْخَذُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فِي الْمُكَاشَفَاتِ وَالْمُنَازَلَاتِ ; فَلَا يَفُونَ ، وَيُكَاشِفُونَ بِأَحْوَالِ الْخَلْقِ بِحَيْثُ يَطَّلِعُونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ; فَهَذَا وَمَا كَانَ مِثْلُهُ إِذَا كَانَ وَاقِعًا مِنْهُمْ وَمَنْقُولًا عَنْهُمْ ، وَهُوَ دَاخِلٌ عَلَيْهِمْ شَاءُوا أَمْ أَبَوْا ، فَكَيْفَ يُنْكَرُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعَدُّ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ؟
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَدِلَّةِ كَافٍ فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ لَا اعْتِرَاضَ بِهِ ; فَإِنَّ الْخَوَارِقَ وَإِنْ كَانَتْ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ فِي كَسْبِهَا وَلَا دَفْعِهَا ; فَلِقُدْرَتِهِ تَعَلُّقٌ بِأَسْبَابِ هَذِهِ الْمُسَبَّبَاتِ . وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْأَسْبَابَ هِيَ الَّتِي خُوطِبَ
[ ص: 479 ] [ ص: 480 ] الْمُكَلَّفُ بِهَا أَمْرًا أَوْ نَهْيًا ، وَمُسَبِّبَاتُهَا خَلْقٌ لِلَّهِ ; فَالْخَوَارِقُ مِنْ جُمْلَتِهَا .
وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ مَا نَشَأَ عَنِ الْأَسْبَابِ مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ ; فَمَنْسُوبٌ إِلَى الْمُكَلَّفِ حُكْمُهُ مِنْ جِهَةِ التَّسَبُّبِ ; لِأَجْلِ أَنَّ عَادَةَ اللَّهِ فِي الْمُسَبَّبَاتِ أَنْ تَكُونَ عَلَى وِزَانِ الْأَسْبَابِ فِي الِاسْتِقَامَةِ وَالِاعْوِجَاجِ ، وَالِاعْتِدَالِ وَالِانْحِرَافِ ; فَالْخَوَارِقُ مُسَبِّبَاتٌ عَنِ الْأَسْبَابِ التَّكْلِيفِيَّةِ ، فَبِقَدْرِ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي الْأَعْمَالِ وَتَصْفِيَتِهَا مِنْ شَوَائِبِ الْأَكْدَارِ وَغُيُومِ الْأَهْوَاءِ تَكُونُ الْخَارِقَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ ; فَكَمَا أَنَّهُ يُعْرَفُ مِنْ نَتَائِجِ الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ صَوَابُ تِلْكَ الْأَعْمَالِ أَوْ عَدَمِ صَوَابِهَا ; كَذَلِكَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=52&ayano=16إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ الطُّورِ : 16 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=52هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [ يُونُسَ : 52 ] .
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337419إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا .
[ ص: 481 ] وَهُوَ عَامٌّ فِي الْجَزَاءِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ ، وَفُرُوعُ الْفِقْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ شَاهِدَةٌ هُنَا كَشَهَادَةِ الْعَادَاتِ ; فَالْمَوْضُوعُ مَقْطُوعٌ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ; فَمَا ظَهَرَ فِي الْخَارِقَةِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ أَوِ اعْوِجَاجٍ ; فَمَنْسُوبٌ إِلَى الرِّيَاضَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَالنَّتَائِجُ تَتْبَعُ الْمُقْدِمَاتِ بِلَا شَكٍّ ; فَصَارَ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ مُتَعَلِّقًا بِالْخَوَارِقِ مِنْ جِهَةِ مُقَدِّمَاتِهَا ، فَلَا تَسْلَمُ لِصَاحِبِهَا ، وَإِذْ ذَاكَ لَا تَخْرُجُ عَنِ النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ بِخِلَافِ الْمَرَضِ وَالْجُنُونِ وَأَشْبَاهِهِمَا مِمَّا لَا سَبَبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ ; فَإِنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ تَكْلِيفِيٌّ ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الْمُكَلَّفَ تَسَبَّبَ فِي تَحْصِيلِهِ ; لَكَانَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ وَلَتَوَجَّهَ التَّكْلِيفُ إِلَيْهِ ; كَالشُّكْرِ وَنَحْوِهِ ; فَحَصَلَ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الشَّرْعَ حَاكِمٌ عَلَى الْخَوَارِقِ وَغَيْرِهَا ، لَا يَخْرُجُ عَنْ حَكَمِهِ شَيْءٌ مِنْهَا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .