[ ص: 125 ] إذا
nindex.php?page=treesubj&link=18466تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية ؛ فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعا ، ويتأخر العقل فيكون تابعا ، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل ، والدليل على ذلك أمور :
الأول : أنه لو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل ; لم يكن للحد الذي حده النقل فائدة ، لأن الفرض أنه حد له حدا ، فإذا جاز تعديه صار الحد غير مفيد ، وذلك في الشريعة باطل ، فما أدى إليه مثله .
والثاني : ما تبين في علم الكلام والأصول من أن العقل لا يحسن ، ولا يقبح ، ولو فرضناه متعديا لما حده الشرع ; لكان محسنا ومقبحا ، هذا خلف .
[ ص: 126 ] [ ص: 127 ] [ ص: 128 ] [ ص: 129 ] [ ص: 130 ] [ ص: 131 ] والثالث : أنه لو كان كذلك ; لجاز إبطال الشريعة بالعقل ، وهذا محال باطل ، وبيان ذلك أن معنى الشريعة أنها تحد للمكلفين حدودا في أفعالهم ، وأقوالهم ، واعتقاداتهم ، وهو جملة ما تضمنته ; فإن جاز للعقل تعدي حد واحد ، جاز له تعدي جميع الحدود ; لأن ما ثبت للشيء ثبت لمثله ، وتعدي حد واحد هو معنى إبطاله ؛ أي ليس هذا الحد بصحيح ، وإن جاز إبطال واحد ; جاز إبطال السائر ، وهذا لا يقول به أحد لظهور محاله .
فإن قيل : هذا مشكل من أوجه : الأول : أن هذا الرأي هو رأي
الظاهرية ; لأنهم واقفون مع ظواهر النصوص من غير زيادة ولا نقصان ، وحاصله عدم اعتبار المعقول جملة ، ويتضمن نفي القياس الذي اتفق الأولون عليه .
والثاني : أنه قد ثبت للعقل التخصيص حسبما ذكره الأصوليون في نحو :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=284والله على كل شيء قدير [ البقرة : 284 ] ، و "
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=12والله على كل شيء وكيل [ الأنعام : 102 ] ، و
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16خالق كل شيء [ الرعد : 16 ] ، وهو نقص من مقتضى العموم ; فلتجز الزيادة لأنها بمعناه ، ولأن الوقوف دون حد النقل كالمجاوز
[ ص: 132 ] له ، فكلاهما إبطال للحد على زعمك ، فإذا جاز إبطاله مع النقص ، جاز مع الزيادة ، ولما لم يعد هذا إبطالا للحد ; فلا يعد الآخر .
والثالث : أن للأصوليين قاعدة قضت بخلاف هذا القضاء ، وهي أن المعنى المناسب إذا كان جليا سابقا للفهم عند ذكر النص ، صح تحكيم ذلك المعنى في النص بالتخصيص له ، والزيادة عليه ، ومثلوا ذلك بقوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337344لا يقضي القاضي وهو غضبان فمنعوا - لأجل معنى التشويش - القضاء مع جميع المشوشات ، وأجازوا مع ما لا يشوش من الغضب ; فأنت تراهم تصرفوا بمقتضى العقل في النقل من غير توقف ، وذلك خلاف ما أصلت ، وبالجملة ; فإنكار تصرفات العقول بأمثال هذا إنكار للمعلوم في أصول الفقه .
فالجواب : أن ما ذكرت لا إشكال فيه على ما تقرر .
[ ص: 133 ] أما الأول فليس القياس من تصرفات العقول محضا ، وإنما تصرفت فيه من تحت نظر الأدلة ، وعلى حسب ما أعطته من إطلاق أو تقييد ، وهذا مبين في موضعه من كتاب القياس ; فإنا إذا دلنا الشرع على أن إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه معتبر ، وأنه من الأمور التي قصدها الشارع وأمر بها ، ونبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على العمل بها - فأين استقلال العقل بذلك ؟ بل هو مهتد فيه بالأدلة الشرعية ، يجري بمقدار ما أجرته ، ويقف حيث وقفته .
وأما الثاني ; فسيأتي في باب العموم والخصوص إن شاء الله أن الأدلة المنفصلة لا تخصص ، وإن سلم أنها تخصص ; فليس معنى تخصيصها أنها تتصرف في اللفظ المقصود به ظاهره ، بل هي مبينة أن الظاهر غير مقصود في الخطاب بأدلة شرعية دلت على ذلك ، فالعقل مثلها فقوله : والله على كل شيء قدير [ البقرة : 284 ] خصصه العقل بمعنى أنه لم يرد في العموم دخول ذات البارئ وصفاته ، لأن ذلك محال ، بل المراد جميع ما عدا ذلك ; فلم
[ ص: 134 ] يخرج العقل عن مقتضى النقل بوجه ، وإذا كان كذلك ; لم يصح قياس المجاورة عليه .
وأما الثالث : فإن إلحاق كل مشوش بالغضب من باب القياس ، وإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بالقياس سائغ ، وإذا نظرنا إلى التخصيص بالغضب اليسير ، فليس من تحكيم العقل ، بل من فهم معنى التشويش ، ومعلوم أن الغضب اليسير غير مشوش ؛ فجاز القضاء مع وجوده بناء على أنه غير مقصود في الخطاب .
هكذا يقول الأصوليون في تقرير هذا المعنى . وأن مطلق الغضب يتناوله اللفظ ، لكن خصصه المعنى .
والأمر أسهل من غير احتياج إلى تخصيص ; فإن لفظ غضبان ، وزنه فعلان ، وفعلان في أسماء الفاعلين يقتضي الامتلاء مما اشتق منه ، فغضبان إنما يستعمل في الممتلئ غضبا ، كريان في الممتلئ ريا ، وعطشان في الممتلئ عطشا ، وأشباه ذلك ; لا أنه يستعمل في مطلق ما اشتق منه ، فكأن الشارع إنما نهى عن قضاء الممتلئ غضبا ; حتى كأنه قال : لا يقضي القاضي وهو شديد الغضب ، أو ممتلئ من الغضب ، وهذا هو المشوش ، فخرج المعنى عن كونه مخصصا ، وصار خروج يسير الغضب عن النهي بمقتضى اللفظ لا بحكم
[ ص: 135 ] المعنى ، وقيس على مشوش الغضب كل مشوش ؛ فلا تجاوز للعقل إذا .
وعلى كل تقدير ; فالعقل لا يحكم على النقل في أمثال هذه الأشياء ، وبذلك ظهرت صحة ما تقدم .
[ ص: 125 ] إِذَا
nindex.php?page=treesubj&link=18466تَعَاضَدَ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ عَلَى الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ فَعَلَى شَرْطِ أَنْ يَتَقَدَّمَ النَّقْلُ فَيَكُونَ مَتْبُوعًا ، وَيَتَأَخَّرَ الْعَقْلُ فَيَكُونَ تَابِعًا ، فَلَا يَسْرَحُ الْعَقْلُ فِي مَجَالِ النَّظَرِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا يُسَرِّحُهُ النَّقْلُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْعَقْلِ تَخَطِّي مَأْخَذَ النَّقْلِ ; لَمْ يَكُنْ لِلْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ النَّقْلُ فَائِدَةٌ ، لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ حَدَّ لَهُ حَدًّا ، فَإِذَا جَازَ تَعَدِّيهِ صَارَ الْحَدُّ غَيْرَ مُفِيدٍ ، وَذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ بَاطِلٌ ، فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ .
وَالثَّانِي : مَا تَبَيَّنَ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يُحَسِّنُ ، وَلَا يُقَبِّحُ ، وَلَوْ فَرَضْنَاهُ مُتَعَدِّيًا لِمَا حَدَّهُ الشَّرْعُ ; لَكَانَ مُحَسِّنًا وَمُقَبِّحًا ، هَذَا خَلْفٌ .
[ ص: 126 ] [ ص: 127 ] [ ص: 128 ] [ ص: 129 ] [ ص: 130 ] [ ص: 131 ] وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ ; لَجَازَ إِبْطَالُ الشَّرِيعَةِ بِالْعَقْلِ ، وَهَذَا مُحَالٌ بَاطِلٌ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الشَّرِيعَةِ أَنَّهَا تَحُدُّ لِلْمُكَلَّفِينَ حُدُودًا فِي أَفْعَالِهِمْ ، وَأَقْوَالِهِمْ ، وَاعْتِقَادَاتِهِمْ ، وَهُوَ جُمْلَةُ مَا تَضَمَّنَتْهُ ; فَإِنْ جَازَ لِلْعَقْلِ تَعَدِّي حَدٍّ وَاحِدٍ ، جَازَ لَهُ تَعَدِّي جَمِيعِ الْحُدُودِ ; لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلشَّيْءِ ثَبَتَ لِمِثْلِهِ ، وَتَعِدِي حَدٍّ وَاحِدٍ هُوَ مَعْنَى إِبْطَالِهِ ؛ أَيْ لَيْسَ هَذَا الْحَدُّ بِصَحِيحٍ ، وَإِنْ جَازَ إِبْطَالُ وَاحِدٍ ; جَازَ إِبْطَالُ السَّائِرِ ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ لِظُهُورِ مُحَالِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ هُوَ رَأْيُ
الظَّاهِرِيَّةِ ; لِأَنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، وَحَاصِلُهُ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْمَعْقُولِ جُمْلَةً ، وَيَتَضَمَّنُ نَفْيَ الْقِيَاسِ الَّذِي اتَّفَقَ الْأَوَّلُونَ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِلْعَقْلِ التَّخْصِيصُ حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْأُصُولِيُّونَ فِي نَحْوِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=284وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الْبَقَرَةِ : 284 ] ، وَ "
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=12وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [ الْأَنْعَامِ : 102 ] ، وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=16خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [ الرَّعْدِ : 16 ] ، وَهُوَ نَقْصٌ مِنْ مُقْتَضَى الْعُمُومِ ; فَلْتَجُزِ الزِّيَادَةُ لِأَنَّهَا بِمَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ دُونَ حَدِّ النَّقْلِ كَالْمُجَاوِزِ
[ ص: 132 ] لَهُ ، فَكِلَاهُمَا إِبْطَالٌ لِلْحَدِّ عَلَى زَعْمِكَ ، فَإِذَا جَازَ إِبْطَالُهُ مَعَ النَّقْصِ ، جَازَ مَعَ الزِّيَادَةِ ، وَلَمَّا لَمْ يُعَدَّ هَذَا إِبْطَالًا لِلْحَدِّ ; فَلَا يُعَدُّ الْآخَرُ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ لِلْأُصُولِيِّينَ قَاعِدَةً قَضَتْ بِخِلَافِ هَذَا الْقَضَاءِ ، وَهِيَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُنَاسِبَ إِذَا كَانَ جَلِيًّا سَابِقًا لِلْفَهْمِ عِنْدَ ذِكْرِ النَّصِّ ، صَحَّ تَحْكِيمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي النَّصِّ بِالتَّخْصِيصِ لَهُ ، وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، وَمَثَّلُوا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337344لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ فَمَنَعُوا - لِأَجْلِ مَعْنَى التَّشْوِيشِ - الْقَضَاءَ مَعَ جَمِيعِ الْمُشَوِّشَاتِ ، وَأَجَازُوا مَعَ مَا لَا يُشَوِّشُ مِنَ الْغَضَبِ ; فَأَنْتَ تَرَاهُمْ تَصَرَّفُوا بِمُقْتَضَى الْعَقْلِ فِي النَّقْلِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ ، وَذَلِكَ خِلَافُ مَا أَصَّلْتَ ، وَبِالْجُمْلَةِ ; فَإِنْكَارُ تَصَرُّفَاتِ الْعُقُولِ بِأَمْثَالِ هَذَا إِنْكَارٌ لِلْمَعْلُومِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا ذَكَرْتُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ .
[ ص: 133 ] أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَيْسَ الْقِيَاسُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْعُقُولِ مَحْضًا ، وَإِنَّمَا تَصَرَّفَتْ فِيهِ مِنْ تَحْتِ نَظَرِ الْأَدِلَّةِ ، وَعَلَى حَسَبِ مَا أَعْطَتْهُ مِنْ إِطْلَاقٍ أَوْ تَقْيِيدٍ ، وَهَذَا مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ الْقِيَاسِ ; فَإِنَّا إِذَا دَلَّنَا الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ ، وَأَنَّهُ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ وَأَمَرَ بِهَا ، وَنَبَّهَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْعَمَلِ بِهَا - فَأَيْنَ اسْتِقْلَالُ الْعَقْلِ بِذَلِكَ ؟ بَلْ هُوَ مُهْتَدٍ فِيهِ بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، يَجْرِي بِمِقْدَارِ مَا أَجْرَتْهُ ، وَيَقِفُ حَيْثُ وَقَفَتْهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي ; فَسَيَأْتِي فِي بَابِ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمُنْفَصِلَةَ لَا تُخَصَّصُ ، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهَا تُخَصَّصُ ; فَلَيْسَ مَعْنَى تَخْصِيصِهَا أَنَّهَا تَتَصَرَّفُ فِي اللَّفْظِ الْمَقْصُودِ بِهِ ظَاهِرُهُ ، بَلْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ أَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الْخِطَابِ بِأَدِلَّةٍ شَرْعِيَّةٍ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ ، فَالْعَقْلُ مِثْلُهَا فَقَوْلُهُ : وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ الْبَقَرَةِ : 284 ] خَصَّصَهُ الْعَقْلُ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ فِي الْعُمُومِ دُخُولُ ذَاتِ الْبَارِئِ وَصِفَاتِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ ، بَلِ الْمُرَادُ جَمِيعُ مَا عَدَا ذَلِكَ ; فَلَمْ
[ ص: 134 ] يَخْرُجِ الْعَقْلُ عَنْ مُقْتَضَى النَّقْلِ بِوَجْهٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ; لَمْ يَصِحَّ قِيَاسُ الْمُجَاوِرَةِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَإِنَّ إِلْحَاقَ كُلِّ مُشَوِّشٍ بِالْغَضَبِ مِنْ بَابِ الْقِيَاسِ ، وَإِلْحَاقَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ بِالْقِيَاسِ سَائِغٌ ، وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى التَّخْصِيصِ بِالْغَضَبِ الْيَسِيرِ ، فَلَيْسَ مِنْ تَحْكِيمِ الْعَقْلِ ، بَلْ مِنْ فَهْمِ مَعْنَى التَّشْوِيشِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْغَضَبَ الْيَسِيرَ غَيْرُ مُشَوِّشٍ ؛ فَجَازَ الْقَضَاءُ مَعَ وُجُودِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِي الْخِطَابِ .
هَكَذَا يَقُولُ الْأُصُولِيُّونَ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَى . وَأَنَّ مُطْلَقَ الْغَضَبِ يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ ، لَكِنْ خَصَّصَهُ الْمَعْنَى .
وَالْأَمْرُ أَسْهَلُ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَخْصِيصٍ ; فَإِنَّ لَفْظَ غَضْبَانَ ، وَزْنُهُ فَعْلَانُ ، وَفَعْلَانُ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ يَقْتَضِي الِامْتِلَاءَ مِمَّا اشْتُقَّ مِنْهُ ، فَغَضْبَانُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُمْتَلِئِ غَضَبًا ، كَرَيَّانَ فِي الْمُمْتَلِئِ رِيًّا ، وَعَطْشَانَ فِي الْمُمْتَلِئِ عَطَشًا ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ; لَا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي مُطْلَقِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ ، فَكَأَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا نَهَى عَنْ قَضَاءِ الْمُمْتَلِئِ غَضَبًا ; حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ : لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ شَدِيدُ الْغَضَبِ ، أَوْ مُمْتَلِئٌ مِنَ الْغَضَبِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُشَوِّشُ ، فَخَرَجَ الْمَعْنَى عَنْ كَوْنِهِ مُخَصِّصًا ، وَصَارَ خُرُوجُ يَسِيرِ الْغَضَبِ عَنِ النَّهْيِ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ لَا بِحُكْمِ
[ ص: 135 ] الْمَعْنَى ، وَقِيسَ عَلَى مُشَوِّشِ الْغَضَبِ كُلُّ مُشَوِّشٍ ؛ فَلَا تَجَاوُزَ لِلْعَقْلِ إِذًا .
وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ ; فَالْعَقْلُ لَا يَحْكُمُ عَلَى النَّقْلِ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَبِذَلِكَ ظَهَرَتْ صِحَّةُ مَا تَقَدَّمَ .