[ ص: 106 ] [ ص: 107 ] nindex.php?page=treesubj&link=18466من العلم ما هو من صلب العلم ، ومنه ما هو ملح العلم لا من صلبه ، ومنه ما ليس من صلبه ولا ملحه ، فهذه ثلاثة أقسام : .
القسم الأول : هو الأصل والمعتمد ، والذي عليه مدار الطلب ، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين ، وذلك ما كان قطعيا أو راجعا إلى أصل قطعي ، والشريعة المباركة المحمدية منزلة على هذا الوجه ، ولذلك كانت محفوظة في أصولها وفروعها ، كما قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ الحجر : 9 ] ; لأنها ترجع إلى حفظ المقاصد التي بها يكون صلاح الدارين ،
[ ص: 108 ] وهي الضروريات ، والحاجيات ، والتحسينات ، وما هو مكمل لها ، ومتمم لأطرافها ، وهي أصول الشريعة ، وقد قام البرهان القطعي على اعتبارها ، وسائر الفروع مستندة إليها ; فلا إشكال في أنها علم أصيل راسخ الأساس ثابت الأركان .
هذا وإن كانت وضعية لا عقلية ، فالوضعيات قد تجاري العقليات في إفادة العلم القطعي ، وعلم الشريعة من جملتها ; إذ العلم بها مستفاد من الاستقراء العام الناظم لأشتات أفرادها ، حتى تصير في العقل مجموعة في كليات مطردة عامة ، ثابتة غير زائلة ، ولا متبدلة ، وحاكمة غير محكوم عليها ، وهذه خواص الكليات العقليات .
وأيضا ; فإن الكليات العقلية مقتبسة من الوجود ، وهو أمر وضعي لا عقلي ; فاستوت مع الكليات الشرعية بهذا الاعتبار ، وارتفع الفرق بينهما .
فإذا لهذا القسم خواص ثلاث : بهن يمتاز عن غيره : إحداها : العموم والاطراد ، فلذلك جرت الأحكام الشرعية في أفعال المكلفين على الإطلاق ، وإن كانت آحادها الخاصة لا تتناهى ؛ فلا عمل يفرض ، ولا حركة ، ولا سكون يدعى - إلا والشريعة عليه حاكمة إفرادا ، وتركيبا ، وهو معنى كونها عامة ، وإن فرض في نصوصها أو معقولها خصوص ما ; فهو راجع إلى عموم ; كالعرايا ، وضرب الدية على العاقلة ، والقراض ،
[ ص: 109 ] والمساقاة ، والصاع في المصراة ، وأشباه ذلك ; فإنها راجعة إلى أصول حاجية أو تحسينية أو ما يكملها ، وهي أمور عامة ; فلا خاص في الظاهر إلا وهو عام في الحقيقة ، والاعتبار في أبواب الفقه يبين ذلك .
والثانية : الثبوت من غير زوال ; فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخا ، ولا تخصيصا لعمومها ، ولا تقييدا لإطلاقها ، ولا رفعا لحكم من أحكامها لا بحسب عموم المكلفين ، ولا بحسب خصوص بعضهم ، ولا بحسب زمان دون زمان ، ولا حال دون حال ، بل ما أثبت سببا ; فهو سبب أبدا لا يرتفع ، وما
[ ص: 110 ] كان شرطا ; فهو أبدا شرط ، وما كان واجبا فهو واجب أبدا ، أو مندوبا فمندوب ، وهكذا جميع الأحكام فلا زوال لها ، ولا تبدل ، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية لكانت أحكامها كذلك .
والثالثة :
nindex.php?page=treesubj&link=18470كون العلم حاكما لا محكوما عليه بمعنى كونه مفيدا لعمل يترتب عليه مما يليق به ; فلذلك انحصرت علوم الشريعة فيما يفيد العمل أو يصوب نحوه ، لا زائد على ذلك ، ولا تجد في العمل أبدا ما هو حاكم على الشريعة ، وإلا انقلب كونها حاكمة إلى كونها محكوما عليها ، وهكذا سائر ما يعد من أنواع العلوم .
فإذا ; كل علم حصل له هذه الخواص الثلاث ; فهو من صلب العلم ، وقد تبين معناها ، والبرهان عليها في أثناء هذا الكتاب ، والحمد لله .
والقسم الثاني - وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه - : ما لم يكن قطعيا ، ولا راجعا إلى أصل قطعي ، بل إلى ظني ، أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص أو أكثر من خاصة واحدة ; فهو مخيل ، ومما يستفز العقل ببادئ الرأي والنظر الأول ، من غير أن يكون فيه إخلال بأصله ، ولا بمعنى غيره ، فإذا كان هكذا صح أن يعد في هذا القسم .
فأما تخلف الخاصية الأولى - وهو الاطراد والعموم - فقادح في جعله من صلب العلم لأن عدم الاطراد يقوي جانب الاطراح ، ويضعف جانب الاعتبار ; إذ النقض فيه يدل على ضعف الوثوق بالقصد الموضوع عليه ذلك العلم ، ويقربه من الأمور الاتفاقية الواقعة عن غير قصد فلا يوثق به ، ولا يبنى عليه .
وأما تخلف الخاصية الثانية - وهو الثبوت - فيأباه صلب العلم وقواعده ;
[ ص: 111 ] فإنه إذا حكم في قضية ، ثم خالف حكمه الواقع في القضية في بعض المواضع أو بعض الأحوال كان حكمه خطأ وباطلا ، من حيث أطلق الحكم فيما ليس بمطلق أو عم فيما هو خاص ; فعدم الناظر الوثوق بحكمه ، وذلك معنى خروجه عن صلب العلم .
وأما تخلف الخاصية الثالثة - وهو كونه حاكما ومبنيا عليه - فقادح أيضا ; لأنه إن صح في العقول لم يستفد به فائدة حاضرة ، غير مجرد راحات النفوس ، فاستوي مع سائر ما يتفرج به ، وإن لم يصح فأحرى في الاطراح ، كمباحث السوفسطائيين ، ومن نحا نحوهم .
ولتخلف بعض هذه الخواص أمثلة يلحق بها ما سواها : أحدها : الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة ، والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين ، والقيام ، والركوع ، والسجود ، وكونها على بعض الهيئات دون بعض ، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل ، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل ، والنهار ، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة ، وفي الأماكن المعروفة ، وإلى مسجد مخصوص ، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ولا تطور نحوه ، فيأتي بعض الناس فيطرق إليه حكما يزعم أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع ، وجميعها مبني على ظن
[ ص: 112 ] وتخمين غير مطرد في بابه ، ولا مبني عليه عمل ، بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ ، وربما كان من هذا النوع ما يعد من القسم الثالث لجنايته على الشريعة في دعوى ما ليس لنا به علم ، ولا دليل لنا عليه .
والثاني : تحمل الأخبار والآثار على التزام كيفيات لا يلزم مثلها ، ولا يطلب التزامها ، كالأحاديث المسلسلة التي أتي بها على وجوه ملتزمة في الزمان المتقدم على غير قصد ، فالتزمها المتأخرون بالقصد ، فصار تحملها على ذلك القصد تحريا لها ؛ بحيث يتعنى في استخراجها ، ويبحث عنها بخصوصها ، مع أن ذلك القصد لا ينبني عليه عمل ، وإن صحبها العمل ; لأن تخلفه في أثناء تلك الأسانيد لا يقدح في العمل بمقتضى تلك الأحاديث ، كما في حديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337343الراحمون يرحمهم الرحمن ; فإنهم التزموا فيه أن يكون أول حديث يسمعه
[ ص: 113 ] التلميذ من شيخه ; فإن سمعه منه بعد ما أخذ عنه غيره ؛ لم يمنع ذلك الاستفادة بمقتضاه ، [ كذا سائرها ;غير أنهم التزموا ذلك على جهة التبرك وتحسين الظن خاصة ] ، وليس بمطرد في جميع الأحاديث النبوية أو أكثرها حتى يقال : إنه مقصود ; فطلب مثل ذلك من ملح العلم لا من صلبه .
والثالث : التأنق في استخراج الحديث من طرق كثيرة ، لا على قصد طلب تواتره ، بل على أن يعد آخذا له عن شيوخ كثيرة ، ومن جهات شتى ، وإن
[ ص: 114 ] كان راجعا إلى الآحاد في الصحابة أو التابعين أو غيرهم ، فالاشتغال بهذا من الملح لا من صلب العلم .
خرج
nindex.php?page=showalam&ids=13332أبو عمر بن عبد البر عن
حمزة بن محمد الكناني ; قال : خرجت حديثا واحدا عن النبي من مائتي طريق أو من نحو مائتي طريق - شك الراوي - قال : فداخلني من ذلك من الفرح غير قليل ، وأعجبت بذلك ; فرأيت
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين في المنام ، فقلت له : يا
أبا زكريا قد خرجت حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مائتي طريق . قال : فسكت عني ساعة ، ثم قال : أخشى أن يدخل هذا تحت ألهاكم التكاثر ؛ هذا ما قال . وهو صحيح في الاعتبار ; لأن تخريجه من طرق يسيرة كاف في المقصود منه ، فصار الزائد على ذلك فضلا .
والرابع :
nindex.php?page=treesubj&link=18466العلوم المأخوذة من الرؤيا مما لا يرجع إلى بشارة ، ولا نذارة ; فإن كثيرا من الناس يستدلون على المسائل العلمية بالمنامات ، وما يتلقى منها تصريحا ; فإنها وإن كانت صحيحة ; فأصلها الذي هو الرؤيا غير معتبر
[ ص: 115 ] في الشريعة في مثلها ، كما في رؤيا
الكناني المذكورة آنفا ; فإن ما قال فيها
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين صحيح ، ولكنه لم نحتج به حتى عرضناه على العلم في اليقظة ; فصار الاستشهاد به مأخوذا من اليقظة لا من المنام ، وإنما ذكرت الرؤيا تأنيسا ، و على هذا يحمل ما جاء عن العلماء من الاستشهاد بالرؤيا .
والخامس : المسائل التي يختلف فيها فلا ينبني على الاختلاف فيها فرع عملي ، إنما تعد من الملح ، كالمسائل المنبه عليها قبل في أصول الفقه ، ويقع كثير منها في سائر العلوم ، وفي العربية منها كثير ، كمسألة اشتقاق الفعل من المصدر ، ومسألة اللهم ، ومسألة أشياء ، ومسألة الأصل في
[ ص: 116 ] لفظ الاسم ، وإن انبنى البحث فيها على أصول مطردة ، ولكنها لا فائدة تجنى ثمرة للاختلاف فيها ، فهي خارجة عن صلب العلم .
والسادس : الاستناد إلى الأشعار في تحقيق المعاني العلمية والعملية ، وكثيرا ما يجري مثل هذا لأهل التصوف في كتبهم ، وفي بيان مقاماتهم فينتزعون معاني الأشعار ، ويضعونها للتخلق بمقتضاها ، وهو في الحقيقة من الملح ؛ لما في الأشعار الرقيقة من إمالة الطباع ، وتحريك النفوس إلى الغرض المطلوب ، ولذلك اتخذه الوعاظ ديدنا ، وأدخلوه في أثناء وعظهم ، وأما إذا نظرنا إلى الأمر في نفسه ; فالاستشهاد بالمعنى ; فإن كان شرعيا ; فمقبول ، وإلا فلا .
والسابع : الاستدلال على تثبيت المعاني بأعمال المشار إليهم بالصلاح ، بناء على مجرد تحسين الظن ، لا زائد عليه ; فإنه ربما تكون أعمالهم حجة ، حسبما هو مذكور في كتاب الاجتهاد ، فإذا أخذ ذلك بإطلاق فيمن يحسن
[ ص: 117 ] الظن به ; فهو - عندما يسلم من القوادح - من هذا القسم ; لأجل ميل الناس إلى من ظهر منه صلاح وفضل ، ولكنه ليس من صلب العلم لعدم اطراد الصواب في عمله ، ولجواز تغيره ; فإنما يؤخذ - إن سلم - هذا المأخذ .
والثامن : كلام أرباب الأحوال من أهل الولاية ; فإن الاستدلال به من قبيل ما نحن فيه ، وذلك أنهم قد أوغلوا في خدمة مولاهم ، حتى أعرضوا عن غيره جملة ، فمال بهم هذا الطرف إلى أن تكلموا بلسان الاطراح لكل ما سوى الله ، وأعربوا عن مقتضاه ، وشأن من هذا شأنه لا يطيقه الجمهور ، وهم إنما يكلمون به الجمهور ، وهو وإن كان حقا ; ففي رتبته لا مطلقا ؛ لأنه يصير - في حق الأكثر - من الحرج أو تكليف مالا يطاق ، بل ربما ذموا بإطلاق ما ليس بمذموم إلا على وجه دون وجه ، وفي حال دون حال ، فصار أخذه بإطلاق موقعا في مفسدة ، بخلاف أخذه على الجملة ; فليس على هذا من صلب العلم ، وإنما هو من ملحه ، ومستحسناته .
والتاسع : حمل بعض العلوم على بعض في بعض قواعده ; حتى تحصل الفتيا في أحدها بقاعدة الآخر ، من غير أن تجتمع القاعدتان في أصل واحد حقيقي ، كما يحكى عن الفراء النحوي ; أنه قال : من برع في علم واحد سهل
[ ص: 118 ] عليه كل علم . فقال له
محمد بن الحسن القاضي - وكان حاضرا في مجلسه ذلك ، وكان ابن خالة
الفراء - : فأنت قد برعت في علمك ، فخذ مسألة أسألك عنها من غير علمك : ما تقول فيمن سها في صلاته ، ثم سجد لسهوه فسها في سجوده أيضا ؟
قال
الفراء : لا شيء عليه .
قال : وكيف ؟
قال : لأن التصغير عندنا لا يصغر ، فكذلك السهو في سجود السهو لا يسجد له ، لأنه بمنزلة تصغير التصغير ، فالسجود للسهو هو جبر للصلاة ، والجبر لا يجبر ، كما أن التصغير لا يصغر .
فقال القاضي : ما حسبت أن النساء يلدن مثلك .
فأنت ترى ما في الجمع بين التصغير والسهو في الصلاة من الضعف ; إذ لا يجمعهما في المعنى أصل حقيقي ، فيعتبر أحدهما بالآخر .
فلو جمعهما أصل واحد ; لم يكن من هذا الباب ، كمسألة
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي مع
nindex.php?page=showalam&ids=14954أبي يوسف القاضي بحضرة
الرشيد .
روي أن
أبا يوسف دخل على
الرشيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي يداعبه ويمازحه ; فقال
[ ص: 119 ] له
أبو يوسف : هذا الكوفي قد استفرغك ، وغلب عليك .
فقال : يا
أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي .
فأقبل
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي على
أبي يوسف فقال : يا
أبا يوسف هل لك في مسألة ؟
فقال : نحو أم فقه .
قال : بل فقه .
فضحك
الرشيد حتى فحص برجله ، ثم قال : تلقي على
أبي يوسف فقها ؟
قال : نعم . قال : يا
أبا يوسف ما تقول في رجل قال لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدار ، وفتح أن ؟
قال : إذا دخلت طلقت .
قال : أخطأت يا
أبا يوسف .
فضحك
الرشيد ، ثم قال : كيف الصواب ؟
قال : إذا قال أن فقد وجب الفعل ، ووقع الطلاق ، وإن قال إن فلم يجب ، ولم يقع الطلاق .
قال : فكان
أبو يوسف بعدها لا يدع أن يأتي
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي .
[ ص: 120 ] فهذه المسألة جارية على أصل لغوي لا بد من البناء عليه في العلمين .
فهذه أمثلة ترشد الناظر إلى ما وراءها حتى يكون على بينة فيما يأتي من العلوم ويذر ; فإن كثيرا منها يستفز الناظر استحسانها ببادئ الرأي ; فيقطع فيها عمره ، وليس وراءها ما يتخذ معتمدا في عمل ولا اعتقاد ، فيخيب في طلب العلم سعيه ، والله الواقي .
ومن طريف الأمثلة في هذا الباب ما حدثناه بعض الشيوخ : أن
أبا العباس بن البناء سئل فقيل له : لم لم تعمل إن في هذان من قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=63إن هذان لساحران الآية [ طه : 63 ] ؟
فقال في الجواب : لما لم يؤثر القول في المقول لم يؤثر العامل في المعمول .
فقال السائل : يا سيدي ، وما وجه الارتباط بين عمل إن وقول الكفار في النبيين ؟
فقال له المجيب : يا هذا إنما جئتك بنوارة يحسن رونقها ; فأنت تريد أن تحكها بين يديك ، ثم تطلب منها ذلك الرونق - أو كلاما هذا معناه -
فهذا الجواب فيه ما ترى ، وبعرضه على العقل يتبين ما بينه وبين ما هو من صلب العلم .
والقسم الثالث : وهو ما ليس من الصلب ، ولا من الملح - : ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني ، وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال
[ ص: 121 ] مما صح كونه من العلوم المعتبرة ، والقواعد المرجوع إليها في الأعمال والاعتقادات ، أو كان منهضا إلى إبطال الحق وإحقاق الباطل على الجملة ، فهذا ليس بعلم لأنه يرجع على أصله بالإبطال فهو غير ثابت ، ولا حاكم ، ولا مطرد أيضا ، ولا هو من ملحه ؛ لأن الملح هي التي تستحسنها العقول ، وتستملحها النفوس ; إذ ليس يصحبها منفر ، ولا هي مما تعادي العلوم ; لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة بخلاف هذا القسم ; فإنه ليس فيه شيء من ذلك .
هذا وإن مال بقوم فاستحسنوه وطلبوه ; فلشبه عارضة واشتباه بينه وبين ما قبله ، فربما عده الأغبياء مبنيا على أصل ، فمالوا إليه من ذلك الوجه ، وحقيقة أصله وهم وتخييل لا حقيقة له ، مع ما ينضاف إلى ذلك من الأغراض والأهواء ، كالإغراب باستجلاب غير المعهود ، والجعجعة بإدراك ما لم يدركه الراسخون ، والتبجح بأن وراء هذه المشهورات مطالب لا يدركها إلا الخواص . . . ، وأنهم من الخواص ، وأشباه ذلك مما لا يحصل منه مطلوب ، ولا يحور منه صاحبه إلا بالافتضاح عند الامتحان حسبما بينه
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي ،
وابن العربي ، ومن تعرض لبيان ذلك من غيرهما .
ومثال هذا القسم ما انتحله
الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره ، وأن المقصود وراء هذا الظاهر ، ولا سبيل إلى نيله بعقل ، ولا نظر ، وإنما ينال من الإمام المعصوم تقليدا لذلك الإمام ، واستنادهم في جملة من دعاويهم إلى
[ ص: 122 ] علم الحروف ، وعلم النجوم ، ولقد اتسع الخرق في الأزمنة المتأخرة على الراقع ; فكثرت الدعاوى على الشريعة بأمثال ما ادعاه
الباطنية ، حتى آل ذلك إلى مالا يعقل على حال ، فضلا عن غير ذلك ، ويشمل هذا القسم ما ينتحله أهل السفسطة والمتحكمون ، وكل ذلك ليس له أصل ينبني عليه ،
[ ص: 123 ] ولا ثمرة تجنى منه ، فلا تعلق به بوجه .
[ ص: 106 ] [ ص: 107 ] nindex.php?page=treesubj&link=18466مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُلَحُ الْعِلْمِ لَا مِنْ صُلْبِهِ ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ وَلَا مُلَحِهِ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : .
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : هُوَ الْأَصْلُ وَالْمُعْتَمَدُ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الطَّلَبِ ، وَإِلَيْهِ تَنْتَهِي مَقَاصِدُ الرَّاسِخِينَ ، وَذَلِكَ مَا كَانَ قَطْعِيًّا أَوْ رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ ، وَالشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مَنَزَّلَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فِي أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ الْحِجْرِ : 9 ] ; لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْمَقَاصِدِ الَّتِي بِهَا يَكُونُ صَلَاحُ الدَّارَيْنِ ،
[ ص: 108 ] وَهِيَ الضَّرُورِيَّاتُ ، وَالْحَاجِيَّاتُ ، وَالتَّحْسِينَاتُ ، وَمَا هُوَ مُكَمِّلٌ لَهَا ، وَمُتَمَّمٌ لِأَطْرَافِهَا ، وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى اعْتِبَارِهَا ، وَسَائِرُ الْفُرُوعِ مُسْتَنِدَةٌ إِلَيْهَا ; فَلَا إِشْكَالَ فِي أَنَّهَا عِلْمٌ أَصِيلٌ رَاسِخُ الْأَسَاسِ ثَابِتُ الْأَرْكَانِ .
هَذَا وَإِنْ كَانَتْ وَضْعِيَّةً لَا عَقْلِيَّةً ، فَالْوَضْعِيَّاتُ قَدْ تُجَارِي الْعَقْلِيَّاتِ فِي إِفَادَةِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ ، وَعِلْمُ الشَّرِيعَةِ مِنْ جُمْلَتِهَا ; إِذِ الْعِلْمُ بِهَا مُسْتَفَادٌ مِنَ الِاسْتِقْرَاءِ الْعَامِّ النَّاظِمِ لِأَشْتَاتِ أَفْرَادِهَا ، حَتَّى تَصِيرَ فِي الْعَقْلِ مَجْمُوعَةً فِي كُلِّيَّاتٍ مُطَّرِدَةٍ عَامَّةٍ ، ثَابِتَةٍ غَيْرِ زَائِلَةٍ ، وَلَا مُتَبَدِّلَةٍ ، وَحَاكِمَةٍ غَيْرِ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ خَوَاصُّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّاتِ .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْعَقْلِيَّةَ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْوُجُودِ ، وَهُوَ أَمْرٌ وَضْعِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ ; فَاسْتَوَتْ مَعَ الْكُلِّيَّاتِ الشَّرْعِيَّةِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَارْتَفَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا .
فَإِذًا لِهَذَا الْقِسْمِ خَوَاصٌّ ثَلَاثٌ : بِهِنَّ يَمْتَازُ عَنْ غَيْرِهِ : إِحْدَاهَا : الْعُمُومُ وَالِاطِّرَادُ ، فَلِذَلِكَ جَرَتِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ فِي أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنْ كَانَتْ آحَادُهَا الْخَاصَّةُ لَا تَتَنَاهَى ؛ فَلَا عَمَلَ يُفْرَضُ ، وَلَا حَرَكَةَ ، وَلَا سُكُونَ يُدَّعَى - إِلَّا وَالشَّرِيعَةُ عَلَيْهِ حَاكِمَةٌ إِفْرَادًا ، وَتَرْكِيبًا ، وَهُوَ مَعْنَى كَوْنِهَا عَامَّةٌ ، وَإِنْ فُرِضَ فِي نُصُوصِهَا أَوْ مَعْقُولِهَا خُصُوصٌ مَا ; فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى عُمُومٍ ; كَالْعَرَايَا ، وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَالْقِرَاضِ ،
[ ص: 109 ] وَالْمُسَاقَاةِ ، وَالصَّاعِ فِي الْمُصَرَّاةِ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ; فَإِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى أُصُولٍ حَاجِيَّةٍ أَوْ تَحْسِينِيَّةٍ أَوْ مَا يُكَمِّلُهَا ، وَهِيَ أُمُورٌ عَامَّةٌ ; فَلَا خَاصَّ فِي الظَّاهِرِ إِلَّا وَهُوَ عَامٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَالِاعْتِبَارُ فِي أَبْوَابِ الْفِقْهِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ .
وَالثَّانِيَةُ : الثُّبُوتُ مِنْ غَيْرِ زَوَالٍ ; فَلِذَلِكَ لَا تَجِدُ فِيهَا بَعْدَ كَمَالِهَا نَسْخًا ، وَلَا تَخْصِيصًا لِعُمُومِهَا ، وَلَا تَقْيِيدًا لِإِطْلَاقِهَا ، وَلَا رَفْعًا لِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِهَا لَا بِحَسَبِ عُمُومِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَلَا بِحَسَبِ خُصُوصِ بَعْضِهِمْ ، وَلَا بِحَسَبِ زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، وَلَا حَالٍ دُونَ حَالٍ ، بَلْ مَا أُثْبِتَ سَبَبًا ; فَهُوَ سَبَبٌ أَبَدًا لَا يَرْتَفِعُ ، وَمَا
[ ص: 110 ] كَانَ شَرْطًا ; فَهُوَ أَبَدًا شَرْطٌ ، وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ أَبَدًا ، أَوْ مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ ، وَهَكَذَا جَمِيعُ الْأَحْكَامِ فَلَا زَوَالَ لَهَا ، وَلَا تَبَدُّلَ ، وَلَوْ فُرِضَ بَقَاءُ التَّكْلِيفِ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ لَكَانَتْ أَحْكَامُهَا كَذَلِكَ .
وَالثَّالِثَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=18470كَوْنُ الْعِلْمِ حَاكِمًا لَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِمَعْنَى كَوْنِهِ مُفِيدًا لِعَمَلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِمَّا يَلِيقُ بِهِ ; فَلِذَلِكَ انْحَصَرَتْ عُلُومُ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يُفِيدُ الْعَمَلَ أَوْ يُصَوِّبُ نَحْوَهُ ، لَا زَائِدَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا تَجِدُ فِي الْعَمَلِ أَبَدًا مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ ، وَإِلَّا انْقَلَبَ كَوْنُهَا حَاكِمَةً إِلَى كَوْنِهَا مَحْكُومًا عَلَيْهَا ، وَهَكَذَا سَائِرُ مَا يُعَدُّ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ .
فَإِذًا ; كُلُّ عِلْمٍ حَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْخَوَاصُّ الثَّلَاثُ ; فَهُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهَا ، وَالْبُرْهَانُ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ الْمَعْدُودُ فِي مُلَحِ الْعِلْمِ لَا فِي صُلْبِهِ - : مَا لَمْ يَكُنْ قَطْعِيًّا ، وَلَا رَاجِعًا إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ ، بَلْ إِلَى ظَنِّيٍّ ، أَوْ كَانَ رَاجِعًا إِلَى قَطْعِيٍّ إِلَّا أَنَّهُ تَخَلَّفَ عَنْهُ خَاصَّةٌ مِنْ تِلْكَ الْخَوَاصِّ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ خَاصَّةٍ وَاحِدَةٍ ; فَهُوَ مُخَيَّلٌ ، وَمِمَّا يَسْتَفِزُّ الْعَقْلَ بِبَادِئِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ الْأَوَّلِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إِخْلَالٌ بِأَصْلِهِ ، وَلَا بِمَعْنَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا صَحَّ أَنْ يُعَدَّ فِي هَذَا الْقِسْمِ .
فَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الْأُولَى - وَهُوَ الِاطِّرَادُ وَالْعُمُومُ - فَقَادِحٌ فِي جَعْلِهِ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ لِأَنَّ عَدَمَ الِاطِّرَادِ يُقَوِّي جَانِبَ الِاطِّرَاحِ ، وَيُضْعِفُ جَانِبَ الِاعْتِبَارِ ; إِذِ النَّقْضُ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْوُثُوقِ بِالْقَصْدِ الْمَوْضُوعِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعِلْمُ ، وَيُقَرِّبُهُ مِنَ الْأُمُورِ الِاتِّفَاقِيَّةِ الْوَاقِعَةِ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يُوثَقُ بِهِ ، وَلَا يُبْنَى عَلَيْهِ .
وَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الثَّانِيَةِ - وَهُوَ الثُّبُوتُ - فَيَأْبَاهُ صُلْبُ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدُهُ ;
[ ص: 111 ] فَإِنَّهُ إِذَا حَكَمَ فِي قَضِيَّةٍ ، ثُمَّ خَالَفَ حَكَمُهُ الْوَاقِعَ فِي الْقَضِيَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَوْ بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَانَ حُكْمُهُ خَطَأً وَبَاطِلًا ، مِنْ حَيْثُ أَطْلَقَ الْحُكْمَ فِيمَا لَيْسَ بِمُطْلَقٍ أَوْ عَمَّ فِيمَا هُوَ خَاصٌّ ; فَعَدِمَ النَّاظِرُ الْوُثُوقَ بِحُكْمِهِ ، وَذَلِكَ مَعْنَى خُرُوجِهِ عَنْ صُلْبِ الْعِلْمِ .
وَأَمَّا تَخَلُّفُ الْخَاصِّيَّةِ الثَّالِثَةِ - وَهُوَ كَوْنُهُ حَاكِمًا وَمَبْنِيًّا عَلَيْهِ - فَقَادِحٌ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ إِنْ صَحَّ فِي الْعُقُولِ لَمْ يُسْتَفَدْ بِهِ فَائِدَةٌ حَاضِرَةٌ ، غَيْرَ مُجَرَّدِ رَاحَاتِ النُّفُوسِ ، فَاسْتُوِيَ مَعَ سَائِرِ مَا يُتَفَرَّجُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَأَحْرَى فِي الِاطِّرَاحِ ، كَمَبَاحِثِ السُّوفِسْطَائِيِّينَ ، وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ .
وَلِتَخَلُّفِ بَعْضِ هَذِهِ الْخَوَاصِّ أَمْثِلَةٌ يُلْحَقُ بِهَا مَا سِوَاهَا : أَحَدُهَا : الْحِكَمُ الْمُسْتَخْرَجَةُ لِمَا لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي التَّعْبُدَاتِ كَاخْتِصَاصِ الْوُضُوءِ بِالْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ ، وَالصَّلَاةِ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ ، وَالْقِيَامِ ، وَالرُّكُوعِ ، وَالسُّجُودِ ، وَكَوْنِهَا عَلَى بَعْضِ الْهَيْئَاتِ دُونَ بَعْضٍ ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ ، وَتَعْيِينِ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فِي تِلْكَ الْأَحْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا مِنْ أَحْيَانِ اللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ ، وَاخْتِصَاصِ الْحَجِّ بِالْأَعْمَالِ الْمَعْلُومَةِ ، وَفِي الْأَمَاكِنِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَإِلَى مَسْجِدٍ مَخْصُوصٍ ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا تَهْتَدِي الْعُقُولُ إِلَيْهِ بِوَجْهٍ وَلَا تَطُورُ نَحْوَهُ ، فَيَأْتِي بَعْضُ النَّاسِ فَيُطَرِّقُ إِلَيْهِ حِكَمًا يَزْعُمُ أَنَّهَا مَقْصُودُ الشَّارِعِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْضَاعِ ، وَجَمِيعُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى ظَنٍّ
[ ص: 112 ] وَتَخْمِينٍ غَيْرِ مُطَّرِدٍ فِي بَابِهِ ، وَلَا مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ عَمَلٌ ، بَلْ كَالتَّعْلِيلِ بَعْدَ السَّمَاعِ لِلْأُمُورِ الشَّوَاذِّ ، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا يُعَدُّ مِنَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الشَّرِيعَةِ فِي دَعْوَى مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ ، وَلَا دَلِيلَ لَنَا عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : تَحَمُّلُ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَلَى الْتِزَامِ كَيْفِيَّاتٍ لَا يَلْزَمُ مِثْلُهَا ، وَلَا يُطْلَبُ الْتِزَامُهَا ، كَالْأَحَادِيثِ الْمُسَلْسَلَةِ الَّتِي أُتِيَ بِهَا عَلَى وُجُوهٍ مُلْتَزَمَةٍ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ ، فَالْتَزَمَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ بِالْقَصْدِ ، فَصَارَ تَحَمُّلُهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ تَحَرِّيًا لَهَا ؛ بِحَيْثُ يَتَعَنَّى فِي اسْتِخْرَاجِهَا ، وَيَبْحَثُ عَنْهَا بِخُصُوصِهَا ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَصْدَ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ ، وَإِنْ صَحِبَهَا الْعَمَلُ ; لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ فِي أَثْنَاءِ تِلْكَ الْأَسَانِيدِ لَا يَقْدَحُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337343الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ; فَإِنَّهُمُ الْتَزَمُوا فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ حَدِيثٍ يَسْمَعُهُ
[ ص: 113 ] التِّلْمِيذُ مِنْ شَيْخِهِ ; فَإِنْ سَمِعَهُ مِنْهُ بَعْدَ مَا أَخَذَ عَنْهُ غَيْرَهُ ؛ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الِاسْتِفَادَةَ بِمُقْتَضَاهُ ، [ كَذَا سَائِرُهَا ;غَيْرَ أَنَّهُمُ الْتَزَمُوا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّبَرُّكِ وَتَحْسِينِ الظَّنِّ خَاصَّةً ] ، وَلَيْسَ بِمُطَّرِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ أَوْ أَكْثَرِهَا حَتَّى يُقَالَ : إِنَّهُ مَقْصُودٌ ; فَطَلَبُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ مُلَحِ الْعِلْمِ لَا مَنْ صُلْبِهِ .
وَالثَّالِثُ : التَّأَنُّقُ فِي اسْتِخْرَاجِ الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ ، لَا عَلَى قَصْدِ طَلَبِ تَوَاتُرِهِ ، بَلْ عَلَى أَنْ يُعَدَّ آخِذًا لَهُ عَنْ شُيُوخٍ كَثِيرَةٍ ، وَمِنْ جِهَاتٍ شَتَّى ، وَإِنْ
[ ص: 114 ] كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْآحَادِ فِي الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، فَالِاشْتِغَالُ بِهَذَا مِنَ الْمُلَحِ لَا مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ .
خَرَّجَ
nindex.php?page=showalam&ids=13332أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ
حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكِنَانِيِّ ; قَالَ : خَرَّجْتُ حَدِيثًا وَاحِدًا عَنِ النَّبِيِّ مِنْ مِائَتَيْ طَرِيقٍ أَوْ مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ طَرِيقٍ - شَكَّ الرَّاوِي - قَالَ : فَدَاخَلَنِي مِنْ ذَلِكَ مِنَ الْفَرَحِ غَيْرُ قَلِيلٍ ، وَأُعْجِبْتُ بِذَلِكَ ; فَرَأَيْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=17336يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ فِي الْمَنَامِ ، فَقُلْتُ لَهُ : يَا
أَبَا زَكَرِيَّا قَدْ خَرَّجْتُ حَدِيثًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مِائَتَيْ طَرِيقٍ . قَالَ : فَسَكَتَ عَنِّي سَاعَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَخْشَى أَنْ يَدْخُلَ هَذَا تَحْتَ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ؛ هَذَا مَا قَالَ . وَهُوَ صَحِيحٌ فِي الِاعْتِبَارِ ; لِأَنَّ تَخْرِيجَهُ مِنْ طُرُقٍ يَسِيرَةٍ كَافٍ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُ ، فَصَارَ الزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ فَضْلًا .
وَالرَّابِعُ :
nindex.php?page=treesubj&link=18466الْعُلُومُ الْمَأْخُوذَةُ مِنَ الرُّؤْيَا مِمَّا لَا يَرْجِعُ إِلَى بِشَارَةٍ ، وَلَا نِذَارَةٍ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ بِالْمَنَامَاتِ ، وَمَا يُتَلَقَّى مِنْهَا تَصْرِيحًا ; فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً ; فَأَصْلُهَا الَّذِي هُوَ الرُّؤْيَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ
[ ص: 115 ] فِي الشَّرِيعَةِ فِي مِثْلِهَا ، كَمَا فِي رُؤْيَا
الْكِنَانِيِّ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا ; فَإِنَّ مَا قَالَ فِيهَا
nindex.php?page=showalam&ids=17336يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ نَحْتَجَّ بِهِ حَتَّى عَرَضْنَاهُ عَلَى الْعِلْمِ فِي الْيَقَظَةِ ; فَصَارَ الِاسْتِشْهَادُ بِهِ مَأْخُوذًا مِنَ الْيَقَظَةِ لَا مِنَ الْمَنَامِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ الرُّؤْيَا تَأْنِيسًا ، وَ عَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَاءَ عَنِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِالرُّؤْيَا .
وَالْخَامِسُ : الْمَسَائِلُ الَّتِي يُخْتَلَفُ فِيهَا فَلَا يَنْبَنِي عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهَا فَرْعٌ عَمَلِيٌّ ، إِنَّمَا تُعَدُّ مِنَ الْمُلَحِ ، كَالْمَسَائِلِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا قَبْلُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَيَقَعُ كَثِيرٌ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْعُلُومِ ، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا كَثِيرٌ ، كَمَسْأَلَةِ اشْتِقَاقِ الْفِعْلِ مِنَ الْمَصْدَرِ ، وَمَسْأَلَةِ اللَّهُمَّ ، وَمَسْأَلَةِ أَشْيَاءَ ، وَمَسْأَلَةِ الْأَصْلِ فِي
[ ص: 116 ] لَفْظِ الِاسْمِ ، وَإِنِ انْبَنَى الْبَحْثُ فِيهَا عَلَى أُصُولٍ مُطَّرِدَةٍ ، وَلَكِنَّهَا لَا فَائِدَةَ تُجْنَى ثَمَرَةً لِلِاخْتِلَافِ فِيهَا ، فَهِيَ خَارِجَةٌ عَنْ صُلْبِ الْعِلْمِ .
وَالسَّادِسُ : الِاسْتِنَادُ إِلَى الْأَشْعَارِ فِي تَحْقِيقِ الْمَعَانِي الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ ، وَكَثِيرًا مَا يَجْرِي مِثْلُ هَذَا لِأَهْلِ التَّصَوُّفِ فِي كُتُبِهِمْ ، وَفِي بَيَانِ مَقَامَاتِهِمْ فَيَنْتَزِعُونَ مَعَانِيَ الْأَشْعَارِ ، وَيَضَعُونَهَا لِلتَّخَلُّقِ بِمُقْتَضَاهَا ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنَ الْمُلَحِ ؛ لِمَا فِي الْأَشْعَارِ الرَّقِيقَةِ مِنْ إِمَالَةِ الطِّبَاعِ ، وَتَحْرِيكِ النُّفُوسِ إِلَى الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ ، وَلِذَلِكَ اتَّخَذَهُ الْوُعَّاظُ دَيْدَنًا ، وَأَدْخَلُوهُ فِي أَثْنَاءِ وَعْظِهِمْ ، وَأَمَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْأَمْرِ فِي نَفْسِهِ ; فَالِاسْتِشْهَادُ بِالْمَعْنَى ; فَإِنْ كَانَ شَرْعِيًّا ; فَمَقْبُولٌ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَالسَّابِعُ : الِاسْتِدْلَالُ عَلَى تَثْبِيتِ الْمَعَانِي بِأَعْمَالِ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ بِالصَّلَاحِ ، بِنَاءً عَلَى مُجَرَّدِ تَحْسِينِ الظَّنِّ ، لَا زَائِدَ عَلَيْهِ ; فَإِنَّهُ رُبَّمَا تَكُونُ أَعْمَالُهُمْ حُجَّةً ، حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِذَا أُخِذَ ذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ فِيمَنْ يُحْسَنُ
[ ص: 117 ] الظَّنُّ بِهِ ; فَهُوَ - عِنْدَمَا يَسْلَمُ مِنَ الْقَوَادِحِ - مِنْ هَذَا الْقِسْمِ ; لِأَجْلِ مَيْلِ النَّاسِ إِلَى مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ صَلَاحٌ وَفَضْلٌ ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ لِعَدَمِ اطِّرَادِ الصَّوَابِ فِي عَمَلِهِ ، وَلِجَوَازِ تَغَيُّرِهِ ; فَإِنَّمَا يُؤْخَذُ - إِنْ سَلِمَ - هَذَا الْمَأْخَذَ .
وَالثَّامِنُ : كَلَامُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ ; فَإِنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ مِنْ قَبِيلِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ أَوْغَلُوا فِي خِدْمَةِ مَوْلَاهُمْ ، حَتَّى أَعْرَضُوا عَنْ غَيْرِهِ جُمْلَةً ، فَمَالَ بِهِمْ هَذَا الطَّرَفُ إِلَى أَنْ تَكَلَّمُوا بِلِسَانِ الِاطِّرَاحِ لِكُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ ، وَأَعْرَبُوا عَنْ مُقْتَضَاهُ ، وَشَأْنُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ لَا يُطِيقُهُ الْجُمْهُورُ ، وَهُمْ إِنَّمَا يُكَلِّمُونَ بِهِ الْجُمْهُورَ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ حَقًّا ; فَفِي رُتْبَتِهِ لَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ - فِي حَقِّ الْأَكْثَرِ - مِنَ الْحَرَجِ أَوْ تَكْلِيفِ مَالَا يُطَاقُ ، بَلْ رُبَّمَا ذَمُّوا بِإِطْلَاقٍ مَا لَيْسَ بِمَذْمُومٍ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَفِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، فَصَارَ أَخْذُهُ بِإِطْلَاقٍ مُوقِعًا فِي مَفْسَدَةٍ ، بِخِلَافِ أَخْذِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ ; فَلَيْسَ عَلَى هَذَا مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُلَحِهِ ، وَمُسْتَحْسَنَاتِهِ .
وَالتَّاسِعُ : حَمْلُ بَعْضِ الْعُلُومِ عَلَى بَعْضٍ فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ ; حَتَّى تَحْصُلَ الْفُتْيَا فِي أَحَدِهَا بِقَاعِدَةِ الْآخَرِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَجْتَمِعَ الْقَاعِدَتَانِ فِي أَصْلٍ وَاحِدٍ حَقِيقِيٍّ ، كَمَا يُحْكَى عَنِ الْفَرَّاءِ النَّحْوِيِّ ; أَنَّهُ قَالَ : مَنْ بَرَعَ فِي عِلْمٍ وَاحِدٍ سَهُلَ
[ ص: 118 ] عَلَيْهِ كُلُّ عِلْمٍ . فَقَالَ لَهُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي - وَكَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ، وَكَانَ ابْنَ خَالَةِ
الْفَرَّاءِ - : فَأَنْتَ قَدْ بَرَعْتَ فِي عِلْمِكَ ، فَخُذْ مَسْأَلَةً أَسْأَلُكَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمِكَ : مَا تَقُولُ فِيمَنْ سَهَا فِي صَلَاتِهِ ، ثُمَّ سَجَدَ لِسَهْوِهِ فَسَهَا فِي سُجُودِهِ أَيْضًا ؟
قَالَ
الْفَرَّاءُ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَكَيْفَ ؟
قَالَ : لِأَنَّ التَّصْغِيرَ عِنْدَنَا لَا يُصَغَّرُ ، فَكَذَلِكَ السَّهْوُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لَا يُسْجَدُ لَهُ ، لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَصْغِيرِ التَّصْغِيرِ ، فَالسُّجُودُ لِلسَّهْوِ هُوَ جَبْرٌ لِلصَّلَاةِ ، وَالْجَبْرُ لَا يُجْبَرُ ، كَمَا أَنَّ التَّصْغِيرَ لَا يُصَغَّرُ .
فَقَالَ الْقَاضِي : مَا حَسِبْتُ أَنَّ النِّسَاءَ يَلِدْنَ مِثْلَكَ .
فَأَنْتَ تَرَى مَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ التَّصْغِيرِ وَالسَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ الضَّعْفِ ; إِذْ لَا يَجْمَعُهُمَا فِي الْمَعْنَى أَصْلٌ حَقِيقِيٌّ ، فَيُعْتَبَرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ .
فَلَوْ جَمَعَهُمَا أَصْلٌ وَاحِدٌ ; لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، كَمَسْأَلَةِ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيِّ مَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=14954أَبِي يُوسُفَ الْقَاضِي بِحَضْرَةِ
الرَّشِيدِ .
رُوِيَ أَنَّ
أَبَا يُوسُفَ دَخَلَ عَلَى
الرَّشِيدِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080وَالْكِسَائِيُّ يُدَاعِبُهُ وَيُمَازِحُهُ ; فَقَالَ
[ ص: 119 ] لَهُ
أَبُو يُوسُفَ : هَذَا الْكُوفِيُّ قَدِ اسْتَفْرَغَكَ ، وَغَلَبَ عَلَيْكَ .
فَقَالَ : يَا
أَبَا يُوسُفَ إِنَّهُ لَيَأْتِيَنِي بِأَشْيَاءَ يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا قَلْبِي .
فَأَقْبَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيُّ عَلَى
أَبِي يُوسُفَ فَقَالَ : يَا
أَبَا يُوسُفَ هَلْ لَكَ فِي مَسْأَلَةٍ ؟
فَقَالَ : نَحْوٌ أَمْ فِقْهٌ .
قَالَ : بَلْ فِقْهٌ .
فَضَحِكَ
الرَّشِيدُ حَتَّى فَحَصَ بِرِجْلِهِ ، ثُمَّ قَالَ : تُلْقِي عَلَى
أَبِي يُوسُفَ فِقْهًا ؟
قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : يَا
أَبَا يُوسُفَ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ دَخَلَتِ الدَّارَ ، وَفَتَحَ أَنْ ؟
قَالَ : إِذَا دَخَلَتْ طَلَقَتْ .
قَالَ : أَخْطَأْتَ يَا
أَبَا يُوسُفَ .
فَضَحِكَ
الرَّشِيدُ ، ثُمَّ قَالَ : كَيْفَ الصَّوَابُ ؟
قَالَ : إِذَا قَالَ أَنْ فَقَدْ وَجَبَ الْفِعْلُ ، وَوَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ قَالَ إِنْ فَلَمْ يَجِبْ ، وَلَمْ يَقَعِ الطَّلَاقُ .
قَالَ : فَكَانَ
أَبُو يُوسُفَ بَعْدَهَا لَا يَدْعُ أَنْ يَأْتِيَ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيَّ .
[ ص: 120 ] فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَارِيَةٌ عَلَى أَصْلٍ لُغَوِيٍّ لَا بُدَّ مِنَ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمَيْنِ .
فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ تُرْشِدُ النَّاظِرَ إِلَى مَا وَرَاءَهَا حَتَّى يَكُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ فِيمَا يَأْتِي مِنَ الْعُلُومِ وَيَذَرُ ; فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهَا يَسْتَفِزُّ النَّاظِرَ اسْتِحْسَانُهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ ; فَيَقْطَعُ فِيهَا عُمْرَهُ ، وَلَيْسَ وَرَاءَهَا مَا يُتَّخَذُ مُعْتَمَدًا فِي عَمَلٍ وَلَا اعْتِقَادٍ ، فَيَخِيبُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ سَعْيُهُ ، وَاللَّهُ الْوَاقِي .
وَمِنْ طَرِيفِ الْأَمْثِلَةِ فِي هَذَا الْبَابِ مَا حَدَّثَنَاهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ : أَنَّ
أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الْبَنَّاءِ سُئِلَ فَقِيلَ لَهُ : لِمَ لَمْ تَعْمَلْ إِنَّ فِي هَذَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=63إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ الْآيَةَ [ طه : 63 ] ؟
فَقَالَ فِي الْجَوَابِ : لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرِ الْقَوْلُ فِي الْمَقُولِ لَمْ يُؤَثِّرِ الْعَامِلُ فِي الْمَعْمُولِ .
فَقَالَ السَّائِلَ : يَا سَيِّدِي ، وَمَا وَجْهُ الِارْتِبَاطِ بَيْنَ عَمَلِ إِنَّ وَقَوْلِ الْكُفَّارِ فِي النَّبِيِّينَ ؟
فَقَالَ لَهُ الْمُجِيبُ : يَا هَذَا إِنَّمَا جِئْتُكَ بِنُوَّارَةٍ يَحْسُنُ رَوْنَقُهَا ; فَأَنْتَ تُرِيدُ أَنَّ تَحُكَّهَا بَيْنَ يَدَيْكَ ، ثُمَّ تَطْلُبَ مِنْهَا ذَلِكَ الرَّوْنَقَ - أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ -
فَهَذَا الْجَوَابُ فِيهِ مَا تَرَى ، وَبِعَرْضِهِ عَلَى الْعَقْلِ يَتَبَيَّنُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعِلْمِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ مَا لَيْسَ مِنَ الصُّلْبِ ، وَلَا مِنَ الْمُلَحِ - : مَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَصْلٍ قَطْعِيٍّ وَلَا ظَنِّيٍّ ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُ أَنْ يَكُرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ بِالْإِبْطَالِ
[ ص: 121 ] مِمَّا صَحَّ كَوْنُهُ مِنَ الْعُلُومِ الْمُعْتَبَرَةِ ، وَالْقَوَاعِدِ الْمَرْجُوعِ إِلَيْهَا فِي الْأَعْمَالِ وَالِاعْتِقَادَاتِ ، أَوْ كَانَ مُنْهَضًا إِلَى إِبْطَالِ الْحَقِّ وَإِحْقَاقِ الْبَاطِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ ، فَهَذَا لَيْسَ بِعِلْمٍ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى أَصْلِهِ بِالْإِبْطَالِ فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ ، وَلَا حَاكِمٍ ، وَلَا مُطَّرِدٍ أَيْضًا ، وَلَا هُوَ مِنْ مُلَحِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُلَحَ هِيَ الَّتِي تَسْتَحْسِنُهَا الْعُقُولُ ، وَتَسْتَمْلِحُهَا النُّفُوسُ ; إِذْ لَيْسَ يَصْحَبُهَا مُنَفِّرٌ ، وَلَا هِيَ مِمَّا تُعَادِي الْعُلُومَ ; لِأَنَّهَا ذَاتُ أَصْلٍ مَبْنِيٍّ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ هَذَا الْقِسْمِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
هَذَا وَإِنْ مَالَ بِقَوْمٍ فَاسْتَحْسَنُوهُ وَطَلَبُوهُ ; فَلِشِبْهِ عَارِضَةٍ وَاشْتِبَاهٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ ، فَرُبَّمَا عَدَّهُ الْأَغْبِيَاءُ مَبْنِيًّا عَلَى أَصْلٍ ، فَمَالُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَجْهِ ، وَحَقِيقَةُ أَصْلِهِ وَهْمٌ وَتَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، مَعَ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَغْرَاضِ وَالْأَهْوَاءِ ، كَالْإِغْرَابِ بِاسْتِجْلَابِ غَيْرِ الْمَعْهُودِ ، وَالْجَعْجَعَةِ بِإِدْرَاكِ مَا لَمْ يُدْرِكْهُ الرَّاسِخُونَ ، وَالتَّبَجُّحِ بِأَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْمَشْهُورَاتِ مُطَالَبَ لَا يُدْرِكُهَا إِلَّا الْخَوَاصُّ . . . ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْخَوَاصِّ ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَطْلُوبٌ ، وَلَا يَحُورُ مِنْهُ صَاحِبُهُ إِلَّا بِالِافْتِضَاحِ عِنْدَ الِامْتِحَانِ حَسْبَمَا بَيَّنَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَّالِيُّ ،
وَابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَمَنْ تَعَرَّضَ لِبَيَانِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمَا .
وَمِثَالُ هَذَا الْقِسْمِ مَا انْتَحَلَهُ
الْبَاطِنِيَّةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ إِخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ وَرَاءَ هَذَا الظَّاهِرِ ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَيْلِهِ بِعَقْلٍ ، وَلَا نَظَرٍ ، وَإِنَّمَا يُنَالُ مِنَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ تَقْلِيدًا لِذَلِكَ الْإِمَامِ ، وَاسْتِنَادُهُمْ فِي جُمْلَةٍ مِنْ دَعَاوِيهِمْ إِلَى
[ ص: 122 ] عِلْمِ الْحُرُوفِ ، وَعِلْمِ النُّجُومِ ، وَلَقَدِ اتَّسَعَ الْخَرْقُ فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى الرَّاقِعِ ; فَكَثُرَتِ الدَّعَاوَى عَلَى الشَّرِيعَةِ بِأَمْثَالِ مَا ادَّعَاهُ
الْبَاطِنِيَّةُ ، حَتَّى آلَ ذَلِكَ إِلَى مَالَا يُعْقَلُ عَلَى حَالٍ ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَيَشْمَلُ هَذَا الْقِسْمُ مَا يَنْتَحِلُهُ أَهْلُ السَّفْسَطَةِ وَالْمُتَحَكِّمُونَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ ،
[ ص: 123 ] وَلَا ثَمَرَةَ تُجْنَى مِنْهُ ، فَلَا تَعَلُّقَ بِهِ بِوَجْهٍ .