فصل
وأما ففي ذلك نظر ، ولا بد من تمثيل ذلك ، ثم تخليص الحكم فيه بحول الله . إذا كانت المصلحة أو المفسدة خارجة عن حكم الاعتياد ، بحيث لو انفردت لكانت مقصودة الاعتبار للشارع ،
[ ص: 51 ] مثاله أكل الميتة للمضطر ، وأكل النجاسات والخبائث اضطرارا ، وقتل القاتل ، وقطع القاطع ، وبالجملة العقوبات والحدود للزجر ، وقطع اليد المتأكلة ، وقلع الضرس الوجعة ، والإيلام بقطع العروق والفصد ، وغير ذلك للتداوي ، وما أشبه ذلك من الأمور التي لو انفردت عما غلب عليها لكان النهي عنها متوجها ، وبالجملة . كل ما تعارضت فيه الأدلة فلا يخلو أن تتساوى الجهتان ، أو تترجح إحداهما على الأخرى
فإن تساوتا; فلا حكم من جهة المكلف بأحد الطرفين دون الآخر ، إذا ظهر التساوي بمقتضى الأدلة ، ولعل هذا غير واقع في الشريعة ، وإن فرض وقوعه ، فلا ترجيح إلا بالتشهي من غير دليل ، وذلك في الشرعيات باطل باتفاق ، وأما أن قصد الشارع متعلق بالطرفين معا : طرف الإقدام ، وطرف الإحجام ، فغير صحيح;لأنه تكليف ما لا يطاق ، إذ قد فرضنا تساوي الجهتين على الفعل الواحد ، فلا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه معا ، ولا يكون أيضا القصد غير متعلق بواحدة منهما ، إذ قد فرضنا أن توارد الأمر والنهي معا ، وهما علمان على القصد على الجملة حسب ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى;إذ لا أمر ولا نهي من غير اقتضاء ، فلم يبق إلا أن يتعلق بإحدى الجهتين دون الأخرى ، ولم يتعين ذلك للمكلف ، فلا بد من التوقف .
وأما إن ترجحت إحدى الجهتين على الأخرى;فيمكن أن يقال : إن قصد [ ص: 52 ] الشارع متعلق بالجهة الراجحة - أعني في نظر المجتهد - وغير متعلق بالجهة الأخرى; إذ لو كان متعلقا بالجهة الأخرى لما صح الترجيح ، ولكان الحكم كما إذا تساوت الجهتان; فيجب التوقف ، وذلك غير صحيح مع وجود الترجيح ، ويمكن أن يقال : إن الجهتين معا عند المجتهد معتبرتان ، إذ كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المقصودة للشارع ، ونحن إنما كلفنا بما ينقدح عندنا أنه مقصود للشارع ، لا بما هو مقصوده في نفس الأمر ، فالراجحة - وإن ترجحت - لا تقطع إمكان كون الجهة الأخرى هي المقصودة للشارع ، إلا أن هذا الإمكان مطرح في التكليف إلا عند تساوي الجهتين ، وغير مطرح في النظر ، ومن هنا نشأت قاعدة مراعاة الخلاف عند طائفة من الشيوخ ، [ ص: 53 ] والإمكان الأول جار على طريقة المصوبين ، والثاني جار على طريقة المخطئين .
وعلى كل تقدير; فالذي تلخص من ذلك أن الجهة المرجوحة غير مقصودة الاعتبار شرعا عند اجتماعها مع الجهة الراجحة ، إذ لو كانت مقصودة للشارع لاجتمع الأمر والنهي معا على الفعل الواحد; فكان تكليفا بما لا يطاق ، وكذلك يكون الحكم في المسائل الاجتهادية كلها ، سواء علينا أقلنا : إن كل مجتهد مصيب أم لا; فلا فرق إذا بين ما كان من الجهات المرجوحة جاريا على الاعتياد ، أو خارجا عنه; فالقياس مستمر ، والبرهان مطلق في القسمين ، وذلك ما أردنا بيانه .
فإن قيل : أفلا تكون الجهة المغلوبة مقصودة للشارع بالقصد الثاني; فإن مقاصد الشارع تنقسم إلى ذينك الضربين .
فالجواب أن القصد الثاني إنما يثبت إذا لم يناقض القصد الأول ، فإذا ناقضه; لم يكن مقصودا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني ، وهذا مذكور في موضعه من هذا الكتاب ، وبالله التوفيق .