[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة ، وهدانا بالاستبصار به عن الوقوع في عماية الضلالة ، ونصب لنا من شريعة محمد أعلى علم وأوضح دلالة ، وكان ذلك أفضل ما من به من النعم الجزيلة ، والمنح الجليلة ، وأناله ، فلقد كنا قبل شروق هذا النور نخبط خبط العشواء ، وتجري عقولنا في اقتناص مصالحنا على غير السواء ; لضعفها عن حمل هذه الأعباء ، ومشاركة عاجلات الأهواء ، على ميدان النفس التي هي بين المنقلبين مدار الأسواء ، فنضع السموم على الأدواء مواضع الدواء ، طالبين للشفاء ، كالقابض على الماء ، ولا زلنا نسبح بينهما في بحر الوهم فنهيم ، ونسرح من جهلنا بالدليل في ليل بهيم ، ونستنتج القياس العقيم ، ونطلب آثار الصحة من الجسم السقيم ، ونمشي إكبابا على الوجوه ، ونظن أنا نمشي على الصراط المستقيم ; حتى ظهر [ ص: 4 ] محض الإجبار في عين الأقدار ، وارتفعت حقيقة أيدي الاضطرار إلى الواحد القهار ، وتوجهت إليه أطماع أهل الافتقار ، لما صح من ألسنة الأحوال صدق الإقرار ، وثبت في مكتسبات الأفعال حكم الاضطرار ، فتداركنا الرب الكريم بلطفه العظيم ، ومن علينا البر الرحيم بعطفه العميم ; إذ لم نستطع من دونه حيلا ، ولم نهتد بأنفسنا سبلا ، بأن جعل العذر مقبولا ، والعفو عن الزلات قبل بعث الرسالات مأمولا ، فقال سبحانه : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فبعث الأنبياء عليهم السلام في الأمم ، كل بلسان قومه من عرب أو عجم ; ليبينوا لهم طريق الحق من أمم ، ويأخذوا بحجزهم عن موارد جهنم ، وخصنا معشر الآخرين السابقين ، بلبنة تمامهم ، ومسك ختامهم ; محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ، الذي [ ص: 5 ] هو النعمة المسداة ، والرحمة المهداة ، والحكمة البالغة الأمية ، والنخبة الطاهرة الهاشمية ، أرسله إلينا شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وأنزل عليه كتابه العربي المبين ، الفارق بين الشك واليقين ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ووضع بيانه الشافي وإيضاحه الكافي في كفه ، وطيبه بطيب ثنائه وعرفه بعرفه ; إذ جعل أخلاقه وشمائله جملة نعته ، وكلي وصفه ، فصار عليه السلام مبينا بقوله وإقراره وفعله وكفه ; فوضح النهار لذي عينين ، وتبين الرشد من الغي ، شمسا من غير سحاب ولا غين .
فنحمده سبحانه والحمد نعمة منه مستفادة ، ونشكر له والشكر أول الزيادة ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الملك الحق المبين ، خالق الخلق أجمعين ، وباسط الرزق للمطيعين والعاصين ، بسطا يقتضيه العدل والإحسان ، والفضل والامتنان ، جاريا على حكم الضمان .
قال الله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ الذاريات : 56 - 58 ] .
وقال تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ طه : 132 ] .
كل ذلك ليتفرغوا لأداء الأمانة التي عرضت عليهم عرضا ، فلما تحملوها على حكم الجزاء ; حملوها فرضا ، ويا ليتهم اقتصروا على الإشفاق والإباية ، وتأملوا في البداية خطر النهاية ، لكنهم لم يخطر لهم خطرها على بال ، كما خطر للسماوات والأرض والجبال ; فلذلك سمي الإنسان ظلوما جهولا ، وكان [ ص: 6 ] أمر الله مفعولا ، دل على هذه الجملة المستبانة شاهد قوله : إنا عرضنا الأمانة .
فسبحان من أجرى الأمور بحكمته وتقديره ; على وفق علمه وقضائه ومقاديره ; لتقوم الحجة على العباد فيما يعملون ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، الصادق الأمين ، المبعوث رحمة للعالمين ، بملة حنيفية ، وشرعة الحاكمين بها حفية ، ينطق بلسان التيسير بيانها ، ويعرف أن الرفق خاصيتها والسماح شأنها ، فهي تحمل الجماء الغفير ضعيفا وقويا ، وتهدي الكافة فهيما وغبيا ، وتدعوهم بنداء مشترك دانيا وقصيا ، وترفق بجميع المكلفين مطيعا وعصيا ، وتقودهم بخزائمهم منقادا وأبيا ، وتسوي بينهم بحكم العدل شريفا ودنيا ، وتبوئ حاملها في الدنيا والآخرة مكانا عليا ، وتدرج النبوءة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا ، وتلبس المتصف بها ملبسا سنيا ، حتى يكون لله وليا ، فما أغنى من والاها وإن كان فقيرا ، وما أفقر من عادها وإن كان غنيا .
فلم يزل عليه السلام يدعو بها وإليها ، ويبث للثقلين ما لديها ، ويناضل [ ص: 7 ] ببراهينها عليها ، ويحمي بقواطعها جانبيها ، بالغ الغاية في البيان ، بقوله بلسان حاله ومقاله : - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وأصحابه الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها ، وأسسوا قواعدها وأصلوها ، وجالت أفكارهم في آياتها ، وأعملوا الجد في تحقيق مباديها وغاياتها ، وعنوا بعد ذلك باطراح الآمال ، وشفعوا العلم بإصلاح الأعمال ، وسابقوا إلى الخيرات فسبقوا ، وسارعوا إلى الصالحات فما لحقوا ، إلى أن طلع في آفاق بصائرهم شمس الفرقان ، وأشرق في قلوبهم نور الإيقان ، فظهرت ينابيع الحكم منها على اللسان ، فهم أهل الإسلام والإيمان والإحسان ، وكيف لا وقد كانوا أول من قرع ذلك الباب ، فصاروا خاصة الخاصة ، ولباب اللباب ، ونجوما يهتدي بأنوارهم أولو الألباب - رضي الله عنهم - وعن الذين خلفوهم قدوة للمقتدين ، وأسوة للمهتدين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين . أنا النذير العريان
أما بعد ; أيها الباحث عن حقائق أعلى العلوم ، الطالب لأسنى نتائج الحلوم ، المتعطش إلى أحلى موارد الفهوم ، الحائم حول حمى ظاهر المرسوم ; [ ص: 8 ] طمعا في إدراك باطنه المرقوم ، معاني مرتوقة ، في فتق تلك الرسوم ; فإنه قد آن لك أن تصغي إلى من وافق هواك هواه ، وأن تطارح الشجى من ملكه - مثلك - شجاه ، وتعود ; إذ شاركته في جواه محل نجواه ; حتى يبث إليك شكواه ، لتجري معه في هذا الطريق من حيث جرى ، وتسري في غبشه الممتزج ضوءه بالظلمة كما سرى ، وعند الصباح تحمد إن شاء الله عاقبة السرى .
فلقد قطع في طلب هذا المقصود مهامه فيحا ، وكابد من طوارق طريقه حسنا وقبيحا ، ولاقى من وجوهه المعترضة جهما وصبيحا ، وعانى من راكبته المختلفة مانعا ومبيحا ; فإن شئت ألفيته لتعب السير طليحا ، أو لما حالف من العناء طريحا ، أو لمحاربة العوارض الصادة جريحا ، فلا عيش هنيئا ، ولا موت مريحا .
وجملة الأمر في التحقيق : أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل ، مع ذهن لعدم نور الفرقان كليل ، وقلب بصدمات الأضغاث عليل ; فيمشي على غير سبيل ، وينتمي إلى غير قبيل ، إلى أن من الرب الكريم ، البر الرحيم ، الهادي - من يشاء إلى صراط مستقيم ، فبعثت له أرواح تلك الجسوم ، وظهرت حقائق تلك الرسوم ، وبدت مسميات تلك الوسوم ; فلاح في أكنافها الحق واستبان ، وتجلى من تحت سحابها شمس الفرقان وبان ، وقويت النفس الضعيفة [ ص: 9 ] وشجع القلب الجبان ، وجاء الحق فوصل أسبابه وزهق الباطل فبان ، فأورد من أحاديثه الصحاح الحسان ، وفوائده الغريبة البرهان ، وبدائعه الباهرة للأذهان - ما يعجز عن تفصيل بعض أسراره العقل ، ويقصر عن بث معشاره اللسان ، إيرادا يميز المشهور من الشاذ ، ويحقق مراتب العوام والخواص والجماهير والأفذاذ ، ويوفي حق المقلد والمجتهد والسالك والمربي والتلميذ والأستاذ ، على مقاديرهم في الغباوة والذكاء والتواني والاجتهاد والقصور والنفاذ ، وينزل كلا منهم منزلته حيث حل ، ويبصره في مقامه الخاص به بما دق وجل ، ويحمله فيه على الوسط الذي هو مجال العدل والاعتدال ، ويأخذ بالمختلفين على طريق مستقيم بين الاستصعاد والاستنزال ، ليخرجوا من انحرافي التشدد والانحلال ، وطرفي التناقض والمحال ; فله الحمد كما يجب لجلاله ، وله الشكر على جميل إنعامه وجزيل إفضاله .
ولما بدا من مكنون السر ما بدا ووفق الله الكريم لما شاء منه وهدى - لم أزل أقيد من أوابده ، وأضم من شوارده تفاصيل وجملا ، وأسوق من شواهده في مصادر الحكم وموارده ، مبينا لا مجملا ، معتمدا على الاستقراءات الكلية ، غير مقتصر على الأفراد الجزئية ، ومبينا أصولها النقلية بأطراف من القضايا العقلية ، حسبما أعطته الاستطاعة والمنة ، في بيان مقاصد الكتاب والسنة ، ثم استخرت الله تعالى في نظم تلك الفرائد ، وجمع تلك الفوائد ، إلى تراجم تردها إلى أصولها ، وتكون عونا على تعقلها وتحصيلها ; فانضمت إلى تراجم الأصول الفقهية ، وانتظمت في أسلاكها السنية البهية ، فصار كتابا منحصرا في خمسة أقسام :
[ ص: 10 ] الأول : في المقدمات العلمية المحتاج إليها في تمهيد المقصود .
والثاني : في الأحكام وما يتعلق بها من حيث تصورها والحكم بها أو عليها ، كانت من خطاب الوضع أو من خطاب التكليف .
والثالث : في المقاصد الشرعية في الشريعة وما يتعلق بها من الأحكام .
والرابع : في حصر الأدلة الشرعية وبيان ما ينضاف إلى ذلك فيها على الجملة وعلى التفصيل ، وذكر مآخذها ، وعلى أي وجه يحكم بها على أفعال المكلفين .
والخامس : في أحكام الاجتهاد والتقليد ، والمتصفين بكل واحد منهما ، وما يتعلق بذلك من التعارض والترجيح والسؤال والجواب .
وفي كل قسم من هذه الأقسام مسائل وتمهيدات ، وأطراف وتفصيلات ; يتقرر بها الغرض المطلوب ، ويقرب بسببها تحصيله للقلوب .
ولأجل ما أودع فيه من الأسرار التكليفية المتعلقة بهذه الشريعة الحنيفية ، سميته ب [ عنوان التعريف بأسرار التكليف ] ، ثم انتقلت عن هذه السيماء لسند غريب يقضي العجب منه الفطن الأريب ، وحاصله أني لقيت يوما بعض الشيوخ الذين أحللتهم مني محل الإفادة ، وجعلت مجالسهم العلمية محطا للرحل ومناخا للوفادة ، وقد شرعت في ترتيب الكتاب وتصنيفه ، ونابذت الشواغل دون تهذيبه وتأليفه ; فقال لي : رأيتك البارحة في النوم ، وفي يدك كتاب [ ص: 11 ] ألفته فسألتك عنه ، فأخبرتني أنه كتاب [ الموافقات ] ، قال : فكنت أسألك عن معنى هذه التسمية الظريفة ، فتخبرني أنك وفقت به بين مذهبي ابن القاسم وأبي حنيفة . فقلت له لقد أصبتم الغرض بسهم من الرؤيا الصالحة مصيب ، وأخذتم من المبشرات النبوية بجزء صالح ونصيب ; فإني شرعت في تأليف هذه المعاني ، عازما على تأسيس تلك المباني ; فإنها الأصول المعتبرة عند العلماء ، والقواعد المبني عليها عند القدماء ، فعجب الشيخ من غرابة هذا الاتفاق ، كما عجبت أنا من ركوب هذه المفازة وصحبة هذه الرفاق ، ليكون - أيها الخل الصفي ، والصديق الوفي - هذا الكتاب عونا لك في سلوك الطريق ، وشارحا لمعاني الوفاق والتوفيق ، لا ليكون عمدتك في كل تحقق وتحقيق ، ومرجعك في جميع ما يعن لك من تصور وتصديق ; إذ قد صار علما من جملة العلوم ، ورسما كسائر الرسوم ، وموردا لاختلاف العقول وتعارض الفهوم ، لا جرم أنه قرب عليك في المسير ، وأعلمك كيف ترقى في علوم الشريعة وإلى أين تسير ، ووقف بك من الطريق السابلة على الظهر ، وخطب لك عرائس الحكمة ، ثم وهب لك المهر .
فقدم قدم عزمك ; فإذا أنت بحول الله قد وصلت ، وأقبل على ما قبلك منه ; فها أنت إن شاء الله قد فزت بما حصلت ، وإياك وإقدام الجبان ، والوقوف مع الظن والحسبان ، والإخلاد إلى مجرد التصميم من غير بيان ، وفارق وهد [ ص: 12 ] التقليد راقيا إلى يفاع الاستبصار ، وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة والاستنصار ، إذا تطلعت الأسئلة الضعيفة والشبه القصار ، والبس التقوى شعارا ، والاتصاف بالإنصاف دثارا ، واجعل طلب الحق لك نحلة ، والاعتراف به لأهله ملة ، لا تملك قلبك عوارض الأغراض ، ولا تغير جوهرة قصدك طوارق الإعراض ، وقف وقفة المتخيرين ، لا وقفة المتحيرين ، إلا إذا اشتبهت المطالب ، ولم يلح وجه المطلوب للطالب ، فلا عليك من الإحجام وإن لج الخصوم ، فالواقع في حمى المشتبهات هو المخصوم ، والواقف دونها هو الراسخ المعصوم ، وإنما العار والشنار على من اقتحم المناهي فأوردته النار ، لا ترد مشرع العصبية ، ولا تأنف من الإذعان إذا لاح وجه القضية أنفة ذوي النفوس العصية ، فذلك مرعى لسوامها وبيل ، وصدود عن سواء السبيل .
; فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار ، وعمي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار ، وغر الظان أنه شيء ما سمع بمثله ، ولا ألف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نسج على منواله أو شكل بشكله ، وحسبك من شر سماعه ، ومن كل بدع في الشريعة ابتداعه ؛ فلا تلتفت إلى الإشكال دون [ ص: 13 ] اختبار ، ولا ترم بمظنة الفائدة على غير اعتبار ; فإنه بحمد الله أمر قررته الآيات والأخبار ، وشد معاقده السلف الأخيار ، ورسم معالمه العلماء الأحبار ، وشيد أركانه أنظار النظار ، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار ، ووجب قبول ما حواه والاعتبار بصحة ما أبداه والإقرار ، حاشا ما يطرأ على البشر من الخطأ والزلل ، ويطرق صحة أفكارهم من العلل ، فالسعيد من عدت سقطاته ، والعالم من قلت غلطاته .
وعند ذلك فحق على الناظر المتأمل ، إذا وجد فيه نقصا أن يكمل ، وليحسن الظن بمن حالف الليالي والأيام ، واستبدل التعب بالراحة والسهر بالمنام ، حتى أهدى إليه نتيجة عمره ، ووهب له يتيمة دهره ، فقد ألقى إليه مقاليد ما لديه ، وطوقه طوق الأمانة التي في يديه ، وخرج عن عهدة البيان فيما وجب عليه ، . وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه
جعلنا الله من العاملين بما علمنا ، وأعاننا على تفهيم ما فهمنا ، ووهب لنا علما نافعا يبلغنا رضاه ، وعملا زاكيا يكون عدة لنا يوم نلقاه ، إنه على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير .
وها أنا أشرع في بيان الغرض المقصود ، وآخذ في إنجاز ذلك الموعود ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
[ ص: 14 ] [ ص: 15 ]