فصل : وأما التي لا يصح فيها العقد فهي ، قد جمعت صفة ومعاوضة ، فالمغلب فيها حكم الصفة ، لأن قوله : قد كاتبتك على ألف معاوضة ، وقوله : فإذا أديت إلي آخرها فأنت حر عتق بصفة ، فإذا بطل العوض المسمى بأحد الأسباب التي تبطل بها الكتابة ، بقي حكم العتق بالصفة ، وتعلق بها ستة أحكام قد تخالف ما قدمناه من أحكام الفصلين ، وسطر الكتابة الفاسدة المزني بعضها من بعد ، ونحن نستوفي شرحه عند ذكره بعد الإشارة إلى ما اقتضاه جميع الأحكام .
فأحد الأحكام الستة : أن غير لازمة ، وللسيد إبطالها بنفسه ، أو بأن يرفعها إلى الحاكم فيبطلها ، فإن وجدت الصفة بعد إبطالها بنفسه ، أو بحكم الحاكم ، ودفع المال المتعلق بها لم يقع العتق بخلاف الصفات المحضة ، التي لا يجوز له إبطالها ، ويقع العتق بوجودها لأنه تبرع بالتزام العتق بالصفات المحضة ، فلم يقع إلا بها وهو في هذه الصفة المقترنة بالمعاوضة ، ملتزم لها على شرط العوض ، فإذا لم يسلم له بالفساد بطل اللزوم ، وصار موقوفا على خياره كالعيوب في البيوع ، وفارقا حكم الكتابة الصحيحة أيضا التي لا يجوز له فسخها ، لسلامة ما شرطه من العوض فيها . الصفة التي يتعلق بها العتق
والثاني : أن البراءة لا تصح من هذا العوض لفساده ، وإنه لم يثبت في ذمته فلم يصح الإبراء منه بخلاف الكتابة الصحيحة ، وجرى مجرى قوله : إن دفعت إلي ألفا فأنت حر ثم أبرأه لم يبرأ .
والثالث : أنه ، ولم يعتق بالأداء إلى الورثة . وقال متى مات السيد بطلت الصفة أبو حنيفة : لا تبطل ، ويعتق بالأداء إلى الورثة . وهذا فاسد من وجهين :
[ ص: 170 ] أنها غير لازمة [ ما لم يلزم من العقود بالموت ، كما تبطل الكتابة بموت المكاتب لأنها غير لازمة ] من جهته .
والثاني : أن فساد العوض يوجب تغليب حكم الصفة .
والسيد إذا علق عتق عبده بصفة بطل حكمها بموته ، كذلك في الكتابة الفاسدة .
والرابع : أن المكاتب يملك بها كسب نفسه ، لأنه قد يلزم فيها العوض بوقوع العتق ، فملك بها الكسب كالكتابة الصحيحة .
فإن قيل : أفليس في البيع الفاسد لا يملك النماء وإن ملكه في البيع الصحيح ، فهلا كان في الكتابة الفاسدة كذلك ؟
قيل : الفرق الفاصل بينهما ، وهو أن المشتري لا يملك بالبيع الفاسد ما كان يملكه في البيع الصحيح ، فلذلك لم يملك النماء في البيع الفاسد ، وملكه في البيع الصحيح ، وليس كذلك الكتابة ، لأن المكاتب يملك بها في الكتابة الفاسدة من عتق نفسه بالأداء ، مثل ما كان يملكه في الكتابة الصحيحة ، فلذلك ملك كسب نفسه في الكتابة الفاسدة كما يملكه في الكتابة الصحيحة .
والخامس : أن ما فضل في يد المكاتب بعد عتقه ملك له دون سيده ، لأنه قد كان على ملكه قبل عتقه .
والسادس : أنهما يتراجعان بعد العتق فيرجع السيد على مكاتبه بقيمته يوم عتق ، ويرجع المكاتب على سيده بما أداه ، إنما كان كذلك لأنه قد استهلك عتق نفسه على بدل فاسد فصار كاستهلاك المشتري ما ابتاعه بعقد فاسد يلزمه قيمة ما استهلكه ، كذلك في الكتابة الفاسدة ، وإذا كان كذلك نظر في القيمة ، ومال الأداء ، فإن كانا من جنسين لم يقعا قصاصا وإن جاز أن يتناوبا .
وإن كانا من جنس واحد ففي وقوع القصاص بينهما أربعة أقاويل نص الشافعي على جميعها في هذا الكتاب .
أحدها : أنه يقع القصاص بينهما فيه ، وإن لم يتراضيا به لعدم الفائدة في تقابضه فصار كمن مات وعليه دين لوارثه برئت منه ذمة الميت بانتقال التركة إلى الوارث ، ولم يكن له بيعها في دينه لعدم الفائدة فيه ، لانتقال العين إليه .
والقول الثاني : أنه يصير قصاصا برضى أحدهما وإن لم يرض الآخر ، لأن من [ ص: 171 ] عليه دين فله قضاؤه من أي ماله شاء ، وعلى كل واحد منهما دين لصاحبه فكان له قضاؤه من ماله ، أو من دينه .
والقول الثالث : أنه يصير قصاصا بتراضيهما ، فإن أبى أحدهما لم يصر قصاصا كالحوالة التي لا تتم إلا برضى المحيل والمحتال .
والقول الرابع : أنه لا يكون قصاصا وإن تراضيا ، لأنه يصير في معنى ، وقد بيع الدين بالدين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين .
وكما لو تجانس الحقان وكانا من غير جنس الأثمان لم يقع القصاص كذلك إذا كانا من جنس الأثمان .
فإذا تقررت هذه الأقاويل فإن قلنا : يكون قصاصا نظر في الحقين . فإن تساويا برئ كل واحد منهما من حق صاحبه ، وإن تفاضلا سقط الأقل من الأكثر ورد الفاضل . فإن كانت القيمة أكثر رجع السيد بالفاضل منها على مكاتبه ، وإن كان الأداء أكثر رجع العبد بالفاضل منه على سيده .
وإن قلنا : لا يكون قصاصا كان لكل واحد منهما مطالبة الآخر بما عليه ، فإذا قبضه كان مخيرا في قضاء ما عليه من ذلك المال أو من غيره .
فإن قال كل واحد منهما : لا أدفع ما علي حتى أقبض مالي ، كان لكل واحد منهما حبس ما لصاحبه على حقه ، ولم يترجح أحدها في تقديم القبض ، لاستوائهما في ثبوت الحقين في الذمتين . والله أعلم .