الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر أن الأجل في الكتابة شرط فأقل ما تصح الكتابة إليه نجمان ، وإن كاتبه على نجم واحد لم تصح ، وإنما كان كذلك لأمور منها ما رواه ابن أبي هريرة في تعليقه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الكتابة على نجمين .

                                                                                                                                            وهذا الخبر إن صح نص يدل على إيجاب الأجل على تقديره بنجمين ، ولأن كل من أجل الكتابة قال : لا تصح إلى أقل من نجمين فصار من إجماع من قال بتأجيلها . وقد غضب عثمان رضي الله عنه على عبده . وقال : " والله لأعاقبنك ولأكاتبنك على نجمين " .

                                                                                                                                            لو جازت إلى أقل منهما لاقتصر عليه تضييقا عليه ، فدل على أن النجمين أقصى التضييق .

                                                                                                                                            ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يكاتبوا مع اختلافهم في مكاتبة عبيدهم على أقل من نجمين ، قد كوتبت بريرة على تسعة أنجم ، وكاتب ابن عمر عبده على خمسة أنجم ، وكاتبت أم سلمة رضي الله عنها مولاها نبهان على نجمين ، وذلك أقل ما كاتبت الصحابة عليه فصار ذلك منهم إجماعا ، ولأن الإيتاء مما أدى واجب ليستعين به المكاتب فيما بقي ، وذلك لا ينتظم إلا في نجمين يكون أحدهما للأداء والآخر للإيتاء معونة في باقي الأداء ، ولأن اشتقاق الكتابة ، إما أن يكون من الضم والجمع ، وإما أن يكون من كتابة الخط .

                                                                                                                                            فإن كانت مشتقة من الضم والجمع . فأقل ما يكون به الضم والاجتماع اثنان . فافتقرت الكتابة إلى نجمين . ينضم أحدهما إلى الآخر . وإن كانت من كتابة الخط فأقل ما تتقيد به خط الكتابة حرفان ، فافتقرت الكتابة المؤجلة إلى نجمين .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد ينعقد الخط بحرف واحد وهو لا .

                                                                                                                                            قيل : لا حرفان : لام وألف .

                                                                                                                                            قال الشاعر :


                                                                                                                                            تخط رجلاي بخط مختلف تكتبان في الطريق لام ألف

                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا كان أقل ما يتقيد به الخط حرفين ، فمن شرطهما أن يكونا مختلفين [ ص: 150 ] من جنسين . فهلا جعلتم اختلاف النجمين في القدر والتجانس شرطا اعتبارا بتقييد الخط ، كما جعلتم أقل الكتابة نجمين اعتبارا بتقييد الخط .

                                                                                                                                            قيل : عن هذا جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ليس يلزم تغاير أجناس الحرفين في الخط ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : لست من دد ولا دد مني ، أي لست من اللعب ولا اللعب مني ، وهما حرفان مجانسان يتقيد بهما الخط كذلك نجما الكتابة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو لزم هذا في أقل ما يتقيد به الخط أن يكون متغاير الأجناس فنجما الكتابة بمثابته ؛ لأنه لا يتضرر النجمان إلا متغايرين وإن تساوى زمانهما ؛ لأنه إذا كان كل واحد من النجمين شهرا فقد اختلفا من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الأجل مستحق من وقت العقد فيـكون أول النجمين لهما بعد شهر والآخر بعد شهرين .

                                                                                                                                            والثاني : أن محلها مختلف ؛ لأن حلول أحدهما في شهر وحلول الآخر في غيره ، فاختلفا مع تساويهما من هذين الوجهين فثبت ما قلنا من اعتبار النجمين ، وألا فرق بين تساويهما واختلافهما وبين طولهما وقصرهما .

                                                                                                                                            أما أكثر نجوم الكتابة فلا ينحصر بعدد ويجوز أن يكاتبه إلى مائة نجم ، وأكثر .

                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا كان ما لم يتجاوزه الصحابة رضي الله عنهم من أقل النجوم شرطا في تقييد الأقل ، فهلا جعلتم ما لم يتجاوزه الصحابة من أقل النجم في تقييد الأكثر شرطا في تقييد الأكثر ، وأكثر ما كاتبت الصحابة عليه تسعة أنجم في بريرة ، كما أن أقل ما كاتبوا عليه نجمان في نبهان ، فلزمكم أن تقدروا أكثره بتسعة أنجم ، كما قدرتم أقله بنجمين أو تسقطوا تقدير أقله بنجمين ، كما أسقطتم تقدير أكثره بتسعة أنجم .

                                                                                                                                            قيل : لا يلزم اعتبار الأقل بالأكثر لوقوع الفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن النجوم زمان فتقدر أقل النجوم ؛ لأن أقل الزمان محدود ولم يتقدر أكثر النجوم ؛ لأن أكثر الزمان غير محدود .

                                                                                                                                            والثاني : أن قلة النجوم مفقود من جهة السادة فجاز أن يعتبر فيه فعل السادة من [ ص: 151 ] الصحابة ، وكثرة النجوم مفقود من جهة العبيد فلم يعتبر فيه فعل عبيد الصحابة . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية