الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإذا تنازع المكري ، والمكتري ، في شيء من آلة الدار ، وادعاه كل واحد منهما ملكا ، لنفسه انقسم ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : ما يكون القول فيه قول المكري ، وهو كل ما كان متصلا بالدار من آلاتها ، كالأبواب ، والدهليزات ، والرفوف المتصلة ، والسلاليم المسمرة ، فالقول في ملكها قول المكري ، مع يمينه لاتصالها بالدار التي هو مالكها .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما يكون القول فيه قول المكتري مع يمينه ، وهو قماش الدار وفرشها من البسط ، والحصر ، والصناديق ، لأنه من آلة السكنى والمكتري أحق بالسكنى .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : ما يتحالفان عليه ، وهو ما كان من آلة الدار منفصلا عن الدار كالرفوف ، والسلاليم المنفصلة ، وإغلاق الأبواب ، وأطباق التنانير فالعرف فيها متقابل ، واليد فيه مشتركة ، فيجعل بينهما بعد تحالفهما .

                                                                                                                                            ولو كانت منشأة بين نهر وضيعة ، فادعاها صاحب الماء وقال : هي الجامعة لماء نهري ، وقال صاحب الضيعة : هي المانعة للماء عن ضيعتي ، فهما فيها متساويان ، فيتحالفان عليها ، وتجعل بعد الأيمان بينهما والله أعلم .

                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو ادعى دارا في يدي رجل ، فقال : ليست بملك لي ، وهي لفلان ، فإن كان حاضرا صيرتها له ، وجعلته خصما عن نفسه ، وإن كان غائبا كتب إقراره ، وقيل للمدعي أقم البينة ، فإن أقامها قضى بها على الذي هي في يديه ، ويجعل في القضية أن المقر له بها على حجته ، ( قال المزني ) رحمه الله : قد قطع بالقضاء على غائب وهو أولى بقوله " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وصورتها في دار في يدي رجل ، يتصرف فيها فادعاها عليه رجل ، وقال : هي لي فقال صاحب اليد : ليست هذه الدار لي ، وهي لغيري فله حالتان :

                                                                                                                                            إحداهما : أن يذكر اسم من جعلها له .

                                                                                                                                            والثاني : أن لا يذكره ، فإن لم يذكر اسم من جعلها له ، لم يكن ذلك جوابا .

                                                                                                                                            [ ص: 322 ] وقيل له : قد توجه عليك جواب عدلت عنه ، فإن أقمت على هذا ، جعلت ناكلا وأحلف المدعي ، وحكم له بانتزاع الدار من يدك ، فإن عاد فادعاها لنفسه بعد إنكاره ، ففي قبول قوله وجهان حكاهما ابن سريج :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يقبل قوله بعد إنكاره ؟ لأنه قد اعترف بها لغيره ويجعل كالناكل ، ويحلف مدعيها ، ويحكم بها له .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يقبل قوله فيها ، لأنه لم يتعين فيها من جعلها له ، فصار إقراره كعدمه ، فيحلف عليها أنها له ، ويحكم له بالدار لأجل يده ، إلا أن يكون لمدعيها بينة ، فتسمع منه ، ويحكم بها له .

                                                                                                                                            وإن سمى صاحب اليد من جعل الدار له ، وقال : هي لفلان ، لم يخل أن يكون حاضرا ، أو غائبا .

                                                                                                                                            فإن كان حاضرا لم يخل حاله أن يقبل الإقرار أو ينكره ، فإن قبل الإقرار ، صارت اليد له ، وانتقلت الخصومة إليه وتوجهت عليه الدعوى ، فإن أنكر مدعيها ، حلف له وكان أحق بالدار بيمينه ويده ، إلا أن يقيم مدعيها بينة ، فيحكم بها له ببينته ؟ لأنها أولى من يد ويمين .

                                                                                                                                            فإن أقام صاحب اليد البينة صار أحق بها ببينته ، ويده من بينة بغير يد .

                                                                                                                                            فإن طلب مدعيها إحلاف صاحب اليد عليها ، بعد أن حكم بها للمقر له ، ففي إجابته إلى إحلاف صاحب اليد قولان مبنيان على اختلاف القولين فيمن أقر بدار في يده لزيد ، ثم أقر بها لعمرو ، وكان زيد أحق بها من عمرو بالإقرار الأول ، وهل يؤخذ المقر بغرم قيمتها لعمرو بالإقرار الثاني ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : يؤخذ بغرم قيمتها لعمرو ، لأنه قد استهلكها عليه بإقراره لزيد ، فعلى هذا إيجاب المدعي إلى إحلاف صاحب اليد ، لأنه لو أقر له لزمه الغرم .

                                                                                                                                            والقول الثاني : لا غرم عليه ، لبقاء الدار وتوجه المطالبة بها .

                                                                                                                                            فعلى هذا لا يحلف صاحب اليد ولا يستحق عليه بالنكول غرم .

                                                                                                                                            فصل : فإن لم يقبل من جعلت له الدار إقرار صاحب اليد وأنكرها ، لم يخل حال صاحب اليد من أن يكون مقيما على إقراره ، أو راجعا عنه .

                                                                                                                                            فإن أقام على إقراره بها لمن أنكرها ، ولم يقبلها طولب مدعيها ببينته ، فإن أقامها ، حكم له بالدار ، وإن عدمها ففيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي العباس بن سريج : أن الحاكم ينصب لها أمينا يحفظها على مالكها ، حفظ اللقطة ، حتى تقوم البينة بها ، إما لمدعيها ، أو لغيره ، فيحكم بها له ،

                                                                                                                                            [ ص: 323 ] ولا تدفع ، إلى المدعي بيمينه ، لأن يمينه هي يمين رد بعد النكول ، ولم يحكم بنكول من توجهت عليه اليمين ، فإن طلب المدعي إحلاف صاحب اليد ، ففي إجابته إلى إحلافه ما قدمناه من القولين .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا وجه لإيقافهما على من لا يدعيها ، والواجب أن يحلف المدعي عليها ، وتدفع إليه الدار بعد يمينه فإن حضر مدع لها بعد تسليمها إلى الأول بيمينه ، ونازعه فيها فهل يكون منازعا فيها لذي يد ، أو لغير ذي يد ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يكون منازعا لذي يد لتقدم الحكم بها له ، فصارت يدا فيكون القول فيها إن أنكر قوله مع يمينه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يكون منازعا لغير ذي يد ، لأنها دفعت إليه بيمين من غير يد ، فيحلفان عليها ، وتكون بينهما كالمتداعيين لما ليس في أيديهما وإن رجع صاحب اليد عن إقراره حين رد عليه وادعاها لنفسه ، أو أقر بها لغيره ، ففي قبوله من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : لا يقبل منه ، سواء ادعاها لنفسه ، أو أقر بها لغيره ، لأن إقراره الأول قد أكذب الثاني ، فعلى هذا يكون الحكم كما لو أقام على إقراره الأول .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : يقبل منه سواء ادعاها لنفسه ، أو أقر بها لغيره ، لأنه لم يتعلق بإقراره حق لمعين ، فعلى هذا إن ادعاها لنفسه ، كان هو الخصم فيها وإن أقر بها لغيره ، انتقلت الخصومة إليه ، وكانت المنازعة مع ذي يد لأنه أقر له ذو يد .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : يقبل إقراره بها لغيره ، ولا يقبل منه دعواها لنفسه لأنه متهوم في ادعائها لنفسه ، وغير متهوم في الإقرار بها لغيره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية