الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولا نعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - صالح أحدا على أقل من دينار ، فمن أعطى منهم دينارا غنيا كان أو فقيرا في كل سنة قبل منه ولم يزد عليه ، ولم يقبل منه أقل من دينار من غني ولا فقير ، فإن زادوا قبل منهم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اختلف الفقهاء في أقل الجزية وأكثرها ، فذهب الشافعي إلى أن أقلها مقدر بدينار لا يجوز الاقتصار على أقل منه من غني ولا فقير ، وأكثرها غير مقدر ، وهو موكل إلى اجتهاد الإمام .

                                                                                                                                            فإن لم يجيبوا إلى الزيادة على الدينار من غني ولا فقير وجب على الإمام إجابتهم إليه ، وإن طبقوا أنفسهم بالغنى والتوسط ، والذي عاقدهم عليه .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : هي مقدرة الأقل والأكثر بحسب طبقاتهم ، فيؤخذ من الغني ثمانية وأربعون درهما مصارفة اثنا عشر دينارا ، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهما ، ومن الفقير المعتمل اثنا عشر درهما .

                                                                                                                                            وقال سفيان الثوري : لا يتقدر أقلها ، ولا أكثرها ، وهي موكولة إلى اجتهاد الإمام في أقلها وأكثرها ، فإن رأى الاقتصار على أقل من دينار جاز ، وإن رأى الزيادة على الأربعة فعل .

                                                                                                                                            وقد حكي عن مالك كلا المذهبين من قول أبي حنيفة ، وقول سفيان .

                                                                                                                                            واستدل أبو حنيفة على تقدير أقلها وأكثرها بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضرب الجزية على أهل الذمة فيما فتحه من سواد العراق ، على الفقير المعتمل اثنا عشر درهما ، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهما ، وعلى الغني ثمانية وأربعون درهما عن رأي شاور فيه الصحابة ، فصار إجماعا ، ولأنه مال يتعين وجوبه بالحول ، فوجب أن يختلف بزيادة المال كالزكاة ، ولأن المأخوذ بالشرك صار جزية وخراجا ، فلما اختلف الخراج باختلاف المال وجب أن تختلف الجزية باختلاف المال .

                                                                                                                                            واستدل الثوري بأن قال : الهدنة لما كانت موكولة إلى اجتهاد الإمام ، ولم يتقدر أقلها وأكثرها وجب أن تكون الجزية بمثابتها لا يتقدر أقلها وأكثرها .

                                                                                                                                            ودليلنا ما رواه أبو وائل شقيق بن سلمة ، عن مسروق ، عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ من كل حالم دينارا ، وعدله من المعافر ، [ ص: 300 ] ومعلوم أنهم كانوا على اختلاف في الغنى والتوسط فسوى بينهم ، ولم يفاضل .

                                                                                                                                            وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صالح أكيدر دومة على نصارى أيلة ، وهم ثلاثمائة رجل على ثلاثمائة دينار ، فجعلها معتبرة بعددهم ، وليس يعتبرها بيسارهم وإعسارهم .

                                                                                                                                            ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ جزية نصراني بمكة يقال له أبو موهب دينارا ، ولم يذكر يساره ولا إعساره ، فدل على استواء الحالين .

                                                                                                                                            وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب - من كل حالم دينارا ، ولم يفضل فدل على التساوي .

                                                                                                                                            ومن القياس أن كل من حقن دمه بالجزية جاز أن يتقدر بالدينار - كالمقل ، ولأن كل ما جاز أن يتقدر به جزية المقل جاز أن يتقدر به جزية المكثر كالأربعة ، ولأن حرمة دمهما واحدة ، فوجب أن تكون جزيتهما واحدة .

                                                                                                                                            فأما الجواب عما فعله عمر ، فهذا أنه قدره عليهم عن مراضاة بينه وبينهم لا ينكر مثلها إذا فعلوه .

                                                                                                                                            وقياسهم على الزكاة منتقض بزكاة الفطر التي لا تزيد زيادة المال ، ثم المعنى في الزكاة وجوبها في عين المال ، فجاز أن تختلف بقلته وكثرته ، والجزية في الذمة عن حقن الدم كالأجرة ، فلم تختلف بزيادة المال وكثرته كالإجارة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن جمعهم بين الجزية والخراج ، فهو أن الخراج عند الشافعي أجرة عن أرض ذات منفعة ، فجاز أن يختلف باختلاف المنافع ، والجزية عوض عن حقن الدم والإقرار على الكفر ، وذلك غير مختلف باختلاف المال ، فلم يتفاضل بتفاضل المال .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلال سفيان الثوري بالهدنة ، فهو أن الهدنة لما جاز أن تكون موقوفة على رأي الإمام في عقدها بمال وغير مال جاز عقدها على رأي الإمام في قدر المال ، والجزية لا تقف على رأيه في عقدها بغير مال ، فلم تقف على رأيه في تقدير المال .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية