فصل : وأما السنة ، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خبران :
أحدهما : رواه الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : كسرى فلا كسرى بعده ، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله . إذا هلك
والخبر الثاني : ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام ، فلما وصل كتابه إليه مزقه ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : تمزق ملكه .
وكتب إلى قيصر كتابا إلى الإسلام ، لما وصل كتابه إليه قبله ، وأكرمه ، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ثبت ملكه .
والأكاسرة هم ملوك الفرس ، ودينهم المجوسية ، والقياصرة هم ملوك الروم ، ودينهم النصرانية . فكان الخبران في الأكاسرة متفقين ، وقد وجد الخبر فيهما على مخبره : لأنه قال في الخبر الأول : كسرى فلا كسرى بعده ، وقال في الخبر الثاني : إذا هلك تمزق ملكه ، وكان ظاهر الخبرين في القياصرة مختلفا ، والمخبر فيهما متنافيا لأنه قال في الأول : قيصر فلا قيصر بعده ، وقال في الثاني : وإذا هلك ثبت ملكه ، وهذا متناف ، وقد نرى ملك الروم ثابتا فكان ثباته موافقا للخبر الثاني منافيا للخبر الأول ، فعنه جوابان يمنعان من التنافي :
[ ص: 278 ] أحدهما : أن معنى قوله : قيصر فلا قيصر بعده يعني به زوال هذا الاسم عن ملوكهم ، وكان اسما لكل ملك منهم ، فلما هلك إذا هلك قيصر لم يتسم به أحد من ملوكهم ، وثبت ملكه الآن في بلادهم .
والجواب الثاني : أن لهذا الحديث سببا ، وهو أن قريشا كانت تنتاب اليمن في الشتاء ، والشام والعراق في الصيف ، وهو معنى قوله تعالى : إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، [ قريش : 2 ] . فلما أسلموا وبلاد الرحلتين على شركهم شكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لانقطاع الرحلتين عنهم بالشام والعراق فقال - صلى الله عليه وسلم - ما طيب به نفوسهم : كسرى فلا كسرى بعده ، يعني إذا هلك بالعراق ، فهلك ، فلم يبق بالعراق ولا بغيرها من البلاد ، وإذا هلك قيصر ، فلا قيصر بعده يعني بالشام ، فهلك ، ولم يبق لهم ملك بالشام ، وإن بقي في غيرها في بلاد الروم ، فصدق خبره ، وصح موعده ، وبالله التوفيق .