الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والدليل على تحريمه : قول الله تعالى في تحريم الخمر : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ المائدة : 191 ] وهذا المعنى موجود في النبيذ كوجوده في الخمر ، فوجب أن يستويا في التحريم لاستوائهما في التعليل . ومن السنة ما رواه أيوب ، وموسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام . فدل على تسمية النبيذ خمرا ، وعلى تحريمه كالخمر . وروى طاوس ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل خمر حرام ، وكل مسكر حرام . فإن قيل : قد روى عباس الدوري ، عن يحيى بن معين ، أنه قال : ثلاثة أحاديث لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر خمر . ولا نكاح إلا بولي . ومن مس ذكره فليتوضأ . ففيه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن أحمد بن حنبل أثبت وأعلم بطريق الحديث وصحته من يحيى ، وقد أثبت هذا الحديث ، ورواه في كتاب الأشربة . والثاني : أنه لا يقبل منه إنكار هذا الحديث إذا رواه الثقة ، حتى يبين وجه فساده ، وقد رواه من ذكرنا . والثالث : أن الأخذ به والعمل عليه قد سبق يحيى ، فلم يكن حدوث قدحه مؤثرا . فإن قيل : رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمنا الأسماء ، وإنما يعلمنا الأحكام ، لأن أهل اللغة قد شاركوه في معرفتها لتقدم اللسان العربي على مجيء الشرع . ففيه جوابان : أحدهما : أنه يجوز أن تؤخذ عنه الأسماء شرعا ، إذا تعلقت عليها أحكام ، كما تؤخذ الأحكام : لأن الصلاة كانت في اللغة الدعاء ، فنقلها الشرع إلى أفعالها ، وكذلك [ ص: 392 ] الزكاة والصيام ، فلم يمتنع أن ينقل اسم النبيذ إلى الخمر . والثاني : أن النبيذ نوع من الخمر ، واسم الخمر أعم ، ودخل في اسم الأعم ، وهو الخمر عموما وانفرد باسم النبيذ خصوصا ، فبينه الرسول صلى الله عليه وسلم لمن خفي عليه . وقد روى عبيد بن الأبرص وهو شاعر جاهلي سبق ورود الشرع :

                                                                                                                                            وقالوا هي الخمر تكنى الطلا كما الذئب يكنى أبا جعدة

                                                                                                                                            والطلاء : اسم نوع منه يختص بالمطبوخ دون النيء . روى عبد الرحمن بن غنم ، عن ابن مالك الأشعري ، قال : سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها . وسنذكر من أنواع أسمائها ما يدخل في عموم الخمر ، ويدل عليه : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع . فقال : كل شراب أسكر فهو حرام . فإن قيل : الذي أسكر هو القدح الأخير الذي ظهر به السكر وهو حرام وما قبله غير مسكر ، فكان حلالا . ففيه ستة أجوبة : أحدها : أن المراد بالسكر صفة جنسه ، فانطلق على قليله وكثيره ، كما يقال في الطعام . والثاني : أن تعليق التحريم بالأخير يوجب تعليقه بالأول والأخير : لأن أول الأخير لا يسكر كأول الأول ، ثم كان أول الأخير حراما كآخره ، فكذلك الأول يجب أن يكون حراما كالأخير . والثالث : أنه ليس جزءا من أجزاء الخمر الأول ، ويجوز أن يكون هو الأخير المحرم ، وهو غير متميز ، فوجب أن يكون الكل حراما . والرابع : أن كل مقدار من الخمر يجوز أن يسكر : لأن الصغير يسكر بقليله كما يسكر الكبير بكثيره ، ومن الناس من يسكر بقليله ، ومنهم من لا يسكر بكثيره ، فصار كل شيء منه مسكرا ، فوجب أن يكون حراما . والخامس : أن لكل جزء من الخمر تأثيرا في السكر ، والقدح الأول مبدأه والقدح الأخير منتهاه ، فصار قليله وكثيره مسكرا ، فوجب أن يكون حراما ، كالضرب القاتل يكون بالسوط الأول مبدأ الألم ، والأخير غايته ، والجميع قاتل . [ ص: 393 ] والسادس : أن الأخير الذي يسكر لا يعلم أنه مسكر إلا بعد شربه ، فلم يصح تعليق التحريم به . وقد روى هاشم بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كل مسكر حرام أوله وآخره . وروى القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها ، وقالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما أسكر الفرق منه ، فاللحسة منه حرام . والفرق : أحد مكاييل العرب ، وهو ستة عشر رطلا . لأن لهم أربعة مكاييل : المد : وهو رطل وثلث . والقسط : وهو ضعف المد ، رطلان وثلثان . والصاع : وهو ضعف القسط خمسة أرطال وثلث . والفرق : وهو ثلاثة أضعاف الصاع ، ستة عشر رطلا . فدل هذا على تحريم القليل والكثير . ويدل عليه ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام ، وعبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، بأسانيد ثابتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام . وروى سعد بن أبي وقاص ، وخباب بن الأرت ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره . فإن قيل : إنما أراد بتحريم قليله الأخير الذي يظهر به السكر ، فصار هو المحرم دون ما تقدمه من الكثير الذي لم يسكر . ففيه ثلاثة أجوبة : أحدها : أن هذا تكلف تأويل يخالف الظاهر فكان مطرحا . والثاني : أن هذا الحديث يعم الخمر والنبيذ ، فلما لم يحمل على هذا التأويل في الخمر لم يجز حمله عليه في النبيذ . والثالث : أنه إذا حرم القليل كان تحريم الكثير أغلظ ، كالخمر إذا حرمت بغير سكر ، كان تحريمها بالسكر أغلظ . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من شرب خمرا لا تقبل له صلاة سبعة أيام ، ومن [ ص: 394 ] سكر منها لم تقبل صلاته أربعين يوما . ويدل عليه ما روى الشافعي ، عن أبي سليمان التيمي ، عن أنس بن مالك ، قال : كنت قائما على عمومة لي من الأنصار أسقيهم فضيخا لهم ، فأتى رجل من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مذعور ، فقلنا : ما وراءك ؟ فقال : حرمت الخمر . فقالوا لي : اكفئها . فكفأتها . قال : وهو كان خمرهم يومئذ . وروى الشافعي ، عن مالك ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس بن مالك ، قال : كنت أسقي عمومتي أبا عبيدة بن الجراح ، وأبا طلحة الأنصاري ، وأبي بن كعب ، شرابا لهم من فضيخ وتمر ، فجاءهم آت ، فقال : إن الخمر قد حرمت . فقال أبو طلحة : يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها . قال : فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت . والفضيخ من البسر ، فجعلوه خمرا محرما . والمهراس الفأس . وروى أبو داود في سننه بإسناده ، عن أبي موسى الأشعري أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب من العسل . فقال : ذلك البتع . قلت : وينبذون من الشعير والذرة . فقال : ذلك المزر . ثم قال : أخبر قومك أن كل مسكر حرام . وروى إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذ إلى اليمن ، فقال : بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تعاصيا . فقال معاذ : يا رسول الله إنك تبعثنا إلى بلاد كثير شراب أهلها فما نشرب ؟ قال : اشربوا ، ولا تشربوا مسكرا . وروى أحمد بن حنبل ، والحميدي في كتابهما في الأشربة ، عن مرثد بن عبد الله اليزني ، عن ديلم الحميري ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إنا بأرض باردة نعالج بها عملا شديدا ، وإنا نتخذ شرابا من هذا الفضيخ ، فنقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل يسكر ؟ قلت : نعم . قال : فاجتنبوه . فقلت : إن الناس غير تاركيه . قال : فإن لم يتركوه فاقتلوهم . [ ص: 395 ] وروى الحميدي في كتابه ، عن جابر بن عبد الله أن نفرا من حبشان أهل اليمن قالوا : يا رسول الله إن أرضنا أرض باردة ، وإنا نعمل بأنفسنا ، وليس لنا من ممتهن دون أنفسنا ، ولنا شراب نشربه بأرضنا يقال له المذر ، فإذا شربناه نفى عنا البرد . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسكر هو ؟ قالوا : نعم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل مسكر حرام ، وإن الله تعالى عهد إلي أن كل من شرب مسكرا أن يسقيه من طينة الخبال . قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : عرق أهل النار ، أو عصارة أهل النار . روى أبو سعيد السحيتي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة . فإن قالوا : يسمى ما يعمل من النخلة خمرا ، على طريق المجاز . لا يصح هذا : لأنه جمع بين العنبة والنخلة ، وهو من العنب خمر على الحقيقة ، فكذلك من النخلة . فإن قيل : فنحمله في العنب على الحقيقة ، وفي النخل على المجاز . قيل : لا يصح هذا على أصل أبي حنيفة : لأن اللفظة الواحدة لا يجوز أن يراد بها الحقيقة والمجاز على قوله ، فلم يجز تأويله عليه ، على أن المجاز إذا وافقه عرف الشرع صار حقيقة تقدم على حقيقة اللغة إذا خالفها . وقد روى الأعمش ، عن محارب ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الزبيب والتمر هي الخمر وهذا نص في حقيقة الاسم دون مجازه . وروى الشعبي ، عن نعمان بن بشير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن من العنب خمرا ، وإن من التمر خمرا ، وإن من العسل خمرا ، وإن من البسر خمرا ، وإن من الشعير خمرا . وهذا نص لا يعترضه تأويل ، فهذه نصوص السنة . وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم ما يعاضدها . فمن ذلك : ما روى الشعبي ، عن عبد الله بن عمر ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر ما خامر العقل . [ ص: 396 ] فدل على أمرين : أحدهما : إطلاق اسم الخمر على النبيذ . والثاني : تعليل الخمر : لأنه ما خامر العقل . ومثل ذلك في الاسم : ما رواه صفوان بن محرز ، قال : سمعت أبا موسى الأشعري وهو يخطب الناس على منبر البصرة ، وهو يقول : ألا إن خمر المدينة البسر والتمر ، وخمر أهل فارس العنب ، وخمر أهل اليمن البتع ، وخمر الحبشة السكركة : وهي الأرز . ومن ذلك ما رواه الشافعي ، عن سفيان ، عن الزهري ، عن السائب بن زيد ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يصلي على جنازة ، فشم من ابنه عبيد الله رائحة شارب ، فسأله ، فقال : إني شربت الطلا . فقال : إن عبيد الله ابني شرب شرابا ، وإني سائل عنه ، فإن كان مسكرا حددته . فسأل عنه فكان مسكرا فحده . وروي أنه لما سأل عنه ، أنشد قول أبي عبيدة بن الأبرص :

                                                                                                                                            هي الخمر لا شك تكنى الطلا     كما الذئب يكنى أبا جعدة

                                                                                                                                            ومن ذلك ما رواه جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب ، أنه قال : لا أوتى بأحد شرب خمرا أو نبيذا مسكرا إلا حددته . ومن ذلك ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " خمر البتع من العسل ، وخمر المزر من الذرة " . ومن ذلك ما رواه مجاهد ، عن ابن عمر ورجل سأله عن الفضيخ ، فقال : وما الفضيخ ؟ قال : بسر وتمر . قال : ذاك الفضوخ ، لقد حرمت الخمر وهي شرابنا ومن ذلك ما رواه الشافعي ، عن سفيان ، قال : سمعت أبا الجويرية الجرمي يقول : سألت ابن عباس وهو مسند ظهره إلى الكعبة ، وأنا والله أول العرب سألته عن الباذق . فقال : سبق محمد الباذق ، فما أسكر فهو حرام . والباذق المطبوخ قال ابن عباس : هي كلمة فارسية عربت . فهذا قول : من ذكرنا من الصحابة وغيرهم ، وليس له مخالف ، فكان إجماعا . ثم نتبع ما ذكرنا من السنن والآثار ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن أوانيها . [ ص: 397 ] وذلك ما روى الشافعي ، عن ابن علية ، عن إسحاق بن شريك ، عن معاذ ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدباء والمزفت والحنتم والنقير . وتفسير هذه الأواني محكي عن أبي بكرة الثقفي ، قال : أما الدباء : فإنا معاشر ثقيف كنا بالطائف نأخذ الدباء يعني اليقطينة من القرع ، فنخرط فيها عناقيد العنب ، ثم ندفنها حتى تهدر ، ثم تموت . وأما النقير : فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ، ثم يشرفون فيها الرطب أو البسر حتى تهدر أو تموت . وأما المزفت : فالأوعية التي تطلى بالزفت . وأما الحنتم : فجرار حمر كانت تحمل إلينا فيها الخمر . وقال الأصمعي : هي الجرار الخضر خاصة . وقال آخرون : كل نوع من الجرار حنتم ، وإن اختلفت ألوانها . وهو الأصح لرواية الشافعي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن ابن أبي أوفى ، قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض والأحمر وفي نهيه صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في هذه الأواني وإن كان حكم جميعها واحدا ، تأويلان : أحدهما : أنه كان ذلك قبل تحريم الخمر ، فجعل النهي عن هذه الأواني مقدمة ينوطون بها على ما يرد بعدها من تحريم الخمر : لأنهم قد كانوا ألغوها فواطأهم لتحريمها . والتأويل الثاني : أنه كان ذلك بعد التحريم : لأنه حرم عليهم المسكر وأباحهم غير المسكر ، وهذه الأواني يتعجل إسكار شاربها ، فنهى عنها : ليطول مكث ما لا يسكر في غيرها : ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإراقة ما نش من الشراب ، وأتي بشراب قد نش فضرب به عرض الحائط ، وقال : إنما يشرب هذا من لا خلاق له . ومن ذلك ما رواه الشافعي ، عن عبد المجيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، قال سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجمعوا بين الرطب والبسر ، وبين الزبيب والتمر نبيذا وفي نهيه عن الجمع بينهما ما ذكرنا من التأويلين ، وإن كان حكمها في الانفراد والجمع سواء . أحد التأويلين : أن ذلك قبل التحريم : توطئة لهم في التحريم : لأنهم كانوا [ ص: 398 ] يجمعون بينها لقوة شدتها وكثرة لذتها ، ويسمونه نبيذ الخليطين . والثاني : أنه بعد التحريم : لأن جمعها يعجل حدوث السكر منها ليدوم عليهم مكث ما لا يسكر إن انفرد ، ولا يتعجل إسكاره إذا اجتمع . فهذه دلائل النصوص والظواهر من السنن والآثار . فأما دلائل ما يوجبه الاعتبار من المعاني والعلل ، فمن وجوه : منها : الاشتقاق : وهو أن الخمر سمي خمرا لأحد وجهين : إما لأنه خامر العقل ، أي : غطاه . وهو قول عمر . أو لأنه يخمر ، أي : يغطي ، ومن أيهما اشتق فهو في النبيذ ، كوجوده في الخمر ، فوجب أن يشترك في الاسم : ولذلك قالوا لمن بقيت فيه نشوة السكر : مخمورا . اشتقاقا من اسم الخمر ، سواء كان سكره من نبيذ أو خمر من غير فرق ، ولو افترقا في الاسم لافترقا في الصفة ، فقيل له في نشوة النبيذ : منبوذا . كما قيل له في نشوة الخمر : مخمورا . فإن قيل : فهذا معارض بمثله ، لأنهم قالوا : في خل العنب : خل الخمر ، ولم يقولوا في خل التمر : خل الخمر . فإن دل ما نص على اشتراكهما في الاسم ، دل هذا على افتراقهما فيه . قيل : هذه التسمية مجاز ، وليست بحقيقة يستمر فيها قياس ، ويصح فيها اشتقاق : ولأن خل العنب لا يسمى خمرا ، وإن حدث عن العنب ، كما لا يسمى التمر نبيذا ، وإن حدث عن التمر . ولو كان لهذه العلة سمي خمر العنب : خل الخمر لوجب بهذه العلة أن يسمى خل التمر خل النبيذ . وفي فساد هذا التعليل بطلان هذا التعارض . ومنها المعنى : وهو أن الخمر مختص بمعنيين ، صفة بخله : وهي الشدة المطربة . وتأثير يحدث عنه : وهو السكر يثبت بها اسم الخمر وتحريمه ، ويزول بارتفاعها اسم الخمر وتحريمه : لأنه إذا كان عصيرا ليس فيه شدة ، ولا يحدث عنه إسكار ، ولم ينطلق عليه اسم الخمر ، ولم يجر عليه حكمه في التحريم ، وإذا حدثت فيه الشدة المطربة ، وصار مسكرا انطلق عليه اسم الخمر ، وجرى عليه حكمه في التحريم . فإذا ارتفعت الشدة وزال عنه الإسكار ، ارتفع عنه اسم الخمر ، وزال عنه حكم التحريم ، فدل على تعلق الاسم والحكم بالصفة والتأثير دون الجنس ، وقد وجدت صفة الشدة وتأثير السكر في النبيذ ، فوجب أن يتعلق به اسم الخمر وحكمه في التحريم : ولأن ما زالت عنه الشدة لم يختلف باختلاف أجناسه ، كذلك ما جلبته الشدة لم يختلف باختلاف أجناسه . [ ص: 399 ] فإن قيل : فلو كان كذلك لوجب أن يكون كل حامض خلا : لأنا نراه خلا إذا حدثت فيه الحموضة ، وغير خل إذا ارتفعت عنه الحموضة . فإن لم يكن كل حامض خلا ، لم يكن كل مسكر خمرا . قيل : صحة التعليل موقوف على اطراده ، وهو في الخمر مطرد ، فصح . وفي الخل غير مطرد ، فبطل . ومنها : أنه لما كان قليل الخمر مثل كثيره ، وجب أن يكون قليل النبيذ مثل كثيره : لأنهما قد اجتمعا في حكم الكثير فوجب أن يستويا في حكم القليل . وتحريره قياسا : أنه شراب مسكر فوجب أن يستوي حكم قليله وكثيره كالخمر . فإن قيل : لا يصح اعتبار القليل بالكثير في التحريم : لأن كثير السقمونيا وما أشبهه من الأدوية حرام ، وقليله غير حرام . قيل : لأن تحريم السقمونيا لضرر هو موجود في الكثير دون القليل ، وتحريم الخمر لشدته ، وهي موجودة في الكثير والقليل . فإن منعوا من التعليل فقد تقدم الدليل ، ثم يقال : لما لم يمنع هذا من التسوية بين قليل الخمر وكثيره لم يمنع من التسوية بين قليل النبيذ وكثيره . ومنها أن دواعي الحرام يتعلق بها حكم التحريم لأن تحريم المسبب يوجب تحريم السبب ، وشرب المسكر يدعو إلى السكر ، وشرب القليل يدعو إلى شرب الكثير ، فوجب أن يحرم المسكر لتحريم السكر ويحرم القليل لتحريم الكثير . فإن منعوا من هذا بقبلة الصائم تدعو إلى الوطء ، ولا تحرم عليه لتحريم الوطء . قيل : إذا دعت إلى الوطء حرمت . وإنما يباح منها ما لم يدع إلى الوطء . ومنها : أن أبا حنيفة علق على طبخ الأشربة حكمين متضادين ، فجعله محلا للحرام ، ومحرما للحلال : لأنه يقول : إذا طبخ الخمر حل ، وإذا طبخ النبيذ حرم . وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أنه علق عليه حكمين متضادين . والثاني : أنه جعل له تأثيرا في التحليل والتحريم ، ومعلوم أن ما حل من لحم الجمل لم يحرم بالطبخ ، وما حرم من لحم الخنزير لم يحل بالطبخ ، فوجب إسقاط تأثيره . وقد ثبت أن نيء الخمر حرام ، فكذلك مطبوخه ، وأن مطبوخ النبيذ حرام ، فكذلك نيئه . [ ص: 400 ] ومنها : أن تأثير الشمس في الأشربة كتأثير الطبخ ، وإن كانت أبطأ ، ثم ثبت أن الاعتبار بالشمس حدوث الشدة ، وجب أن يكون الاعتبار بالطبخ حدوث الشدة : لأنهما لما استويا في التأثير ، وجب أن يستويا في الحكم . ومنها : ما احتج به الشافعي عليهم في كتاب الأشربة من " الأم " فقال لهم : ما تقولون إذا شرب أقداحا فلم يسكر . قالوا : حلال . قال : فإن خرج إلى الهواء فضربته الريح فسكر . قالوا : يكون حراما . قال : يا عجبا ينزل الشراب إلى جوفه حلالا ، ويصير بالريح حراما . قالوا : يكون التحريم مراعى . قيل لهم : إنما يكون مراعى مع بقائه : لأن المراعى موقوف والموقوف ممنوع ، والممنوع محرم ، وأن ما راعيتموه بعد شربه أبحتموه مشكوكا فيه ، والشك يمنع من الإباحة ، وغررتم به في إباحة ما تحرمونه عليه ، وما أفضى إلى هذا كان حراما . ومنها : ما احتج به المزني عليهم : أن جميع الأشربة إذا كانت حلوة فهي حلال ، ولا يختلف حكمها باختلاف أجناسها ، فإذا حمضت وصارت خلا فهي حلال ، ولا يختلف حكمها باختلاف أجناسها وجب إذا اشتدت وأسكرت أن يكون حكمها واحدا ، ولا يختلف حكمها باختلاف أجناسها ، فلما لم يحل جميعها وجب أن يحرم جميعها . ولما لم يحل قليلها وكثيرها وجب أن يحرم قليلها وكثيرها . ومنها : أن الخمر قد اختلفت أسماؤها ولم يختلف حكمها ، والنبيذ قد اختلفت أسماؤه ولم يختلف حكمه . فمن أسماء الخمر : العقار ، سميت به لأنها تعاقر الإناء ، أي : تقيم فيه . ومن أسمائها : المدام : لأنها تدوم في الإناء . ومن أسمائها : القهوة وسميت به : لأنها تقهي عن الطعام ، أي : يقطع شهوته . ومن أسمائها السلاف : وهو الذي يخرج من عينه بغير اعتصار ، ولها غير ذلك من الأسماء . ومن أسماء النبيذ : السكر سمي بذلك : لأنه يسكر ، وهو الذي لم يطبخ . ومن أسمائه : الباذق ، وهو المطبوخ . ومن أسمائه : الفضيخ ، وهو من البسر ، سمي بذلك : لافتضاخ البسر منه . ويسميه أهل البصرة العري . ومنه البتع من العسل لأهل اليمن ومنه المزر ، وهو من الذرة لأهل الحبشة . [ ص: 401 ] ومنه : المزاء : وهو من أشربة أهل الشام . ومنه : السكر : وهو نقيع التمر الذي لم تمسه النار . ومنه : السكركة : وهو من الأرز لأهل الحبشة . ومنه : الجعة : وهو من الشعير . ومنه الضعف : وهو من عنب شرخ ، كالفضيخ من البسر يترك في أوعيته حتى يغلي . ومنه الخليطان : وهو ما جمع فيه بين بسر وعنب ، أو بين تمر وزبيب . ومنه المغذى استخرج لعبد الملك بن مروان بالشام من ماء الرمان وماء العنب . ومنه ما يتغير بالطبخ ، فمنه : المنصف : وهو ما ذهب بالنار نصفه وبقي نصفه . ومنه : المثلث : وهو ما ذهب ثلثه ، وبقي ثلثاه . ومنه : الكلا : وهو ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه . ومنه الجهوري : وهو ما يجمد ، فإذا أريد شربه حل بالماء والنار ، وعليه يسميه أهل فارس البحتح . إلى غير ذلك من الأسماء التي لا تحصى ، فلما اختلفت أسماء الخمر واتفقت أحكامها للاشتراك في معنى الشدة ، واختلفت أسماء النبيذ ، واتفقت أحكامه مع الشدة ، وجب إذا اختلف اسم الخمر والنبيذ أن تتفق أحكامها : لأجل الشدة ، وهذا الاستدلال في سائر اختلاف الأسماء ، وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي ، وتأثير ذلك أن من أطلق على النبيذ اسم الخمر حرمه بالنص ، ومن لم يطلق عليه اسم الخمر حرمه بالقياس .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية