[ ص: 93 ] فصل :
فإذا تقرر ما ذكرنا من تفسير الآية التي هي أصل يستنبط منه أحكام السحر ، فقد اختلف أهل العربية في
nindex.php?page=treesubj&link=10044معنى السحر في اللغة على وجهين :
أحدهما : أنه إخفاء الخداع وتدليس الأباطيل ، ومنه قول امرئ القيس :
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نخدع .
والوجه الثاني : قاله
ابن مسعود : كنا نسمي السحر في الجاهلية العضه . والعضه : شدة البهت وتمويه الكذب .
وأنشد
الخليل :
أعوذ بربي من النافثات ومن عضه العاضه المعضه
والكلام في السحر يشتمل على ثلاثة فصول :
أحدها : في حقيقة السحر .
والثاني : في تأثير السحر .
والثالث : في حكم السحر .
فأما الفصل الأول : في
nindex.php?page=treesubj&link=25582حقيقة السحر ، فقد اختلف الناس فيها ، فالذي عليه الفقهاء ،
والشافعي وأبو حنيفة ومالك وكثير من المتكلمين : أن له حقيقة وتأثيرا . وذهب معتزلة المتكلمين والمغربي من أهل الظاهر ،
وأبو جعفر الإستراباذي من أصحاب
الشافعي : إلى أن لا حقيقة للسحر ولا تأثير ، وإنما هو تخييل وتمويه كالشعبذة ، لا تحدث في المسحور إلا التوهم والاستشعار استدلالا بقوله تعالى : في قصة
فرعون وموسى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=66فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى [ طه : 66 ، 67 ] ، فأخبر أنه تخييل لا حقيقة له ، وذلك أنهم جعلوا فيما مثلوه بالحيات من الحبال والعصي زئبقا ، واستقبلوا بها مطلع الشمس فلما حمي بها ساح وسرى ، فسرت تلك الحبال كالحيات السارية ، ومعلوم من هذا أنه تخييل باطل ، ولأنه لو كان للسحر حقيقة لخرق العادات ، وبطل به المعجزات وزالت دلائل النبوات ، ولما وقع الفرق بين النبي والساحر ، وبين الحق والباطل ، وفي هذا دفع لأصول الشرائع وإبطال
[ ص: 94 ] الحقائق وما أدى إلى هذا فهو مدفوع عقلا وشرعا . والدليل على أن للسحر حقيقة وتأثيرا ما قدمناه من الآية على ما بيناه من التفسير مع اختلاف ما تضمنها من التأويل ، ولو لم تكن له حقيقة لأبان فساده ولذكر بطلانه ، ولما كان للنهي عنه موقع ، وفي هذا رد لما نطق به التنزيل ، فكان مدفوعا ، ويدل عليه قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=4ومن شر النفاثات في العقد [ الفلق : 4 ] . والنفاثات السواحر ، في قول الجميع ، ينفثن في عقد الخيط للسحر .
روى
الحسن ، عن
أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924578من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه فلو لم يكن للسحر تأثير لما أمر بالاستعاذة من شره ، ولكان السحر كغيره .
ويدل عليه ما روى
أبو صالح ، عن
ابن عباس ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=924579أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى شكوى شديدة ، فبينما هو كالنائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال أحدهما : ما شكواه ؟ فقال : مطبوب - أي مسحور ، والطب السحر - قال : ومن طبه ؟ قال لبيد بن أعصم اليهودي ، وطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها .
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
عمار بن ياسر فاستخرج منها وترا فيه إحدى عشرة عقدة ، فأمر بحل العقد ، فكان كلما حل عقدة وجد راحة حتى حلت العقد كلها ، فكأنما نشط من عقال .
فنزلت عليه المعوذتان وهما إحدى عشرة آية بعدد العقد ، وأمر أن يتعوذ بهما ، وقد روي هذا الخبر من طرق شتى تختلف ألفاظه وتتفق معانيه ، ورواه
الشافعي ، عن
سفيان بن عيينة ، عن
هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن
عائشة ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=924580أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث أياما يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، فاستيقظ ذات ليلة وقال : يا عائشة ، قد أفتاني ربي فيما استفتيته فيه ، أتاني رجلان في المنام . . . وذكرت مثل حديث
ابن عباس على اختلاف في الألفاظ .
وإذا أثر في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل ، وأثر فيه حين نشط مع ما عصمه الله تعالى من بين خلقه ، كان أولى أن يؤثر في غيره . فإن قيل :
nindex.php?page=treesubj&link=25592رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من السحر لما في استمراره من خلل العقل ، وقد أنكر الله تعالى على من قال في رسوله
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=8وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ الفرقان : 8 ] ، قيل :
nindex.php?page=treesubj&link=21374عصمة الرسول مختصة بعقله ودينه ، وهو في المرض كغيره من الناس ، وقد سم يهود
خيبر ذراعا مشوية ، وقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأكل منها ومرض في آخر عمره ، فكان يقول :
ما زالت أكلة خيبر تعادني ، فهذا أوان قطعت أبهري فكان في ذلك كغيره . ولما أجرى الشيطان على لسانه حين قرأ في سورة النجم
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=19أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ النجم : 19 ، 20 ] ، تلك
[ ص: 95 ] الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى . أزال الله تعالى ذلك عنه وعصمه منه ، ويدل عليه ما روى
نافع ، عن
ابن عمر ، قال : أرسلني
عمر بن الخطاب إلى
خيبر لأقسم ثمارها بينهم وبين المسلمين فسحروني ، فتكوعت يدي ، فأجلاهم
عمر عن
الحجاز . فلولا أن للسحر حقيقة وتأثرا لما أجمع عليه الصحابة ، وانتشر في الكافة ، ولما أجلاهم
عمر من ديارهم ، ولراجعته الصحابة فيهم كما راجعوه في غيره من الأمور العظيمة المحتملة .
وقد روى
بجالة ، قال :
nindex.php?page=treesubj&link=31244كتب عمر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . فقتلنا ثلاث سواحر . يدل عليه أن الله تعالى جعل معجزة
موسى في العصا : لكثرة السحر في زمانه ، ومعجزة
عيسى بإحياء الموتى : لكثرة الطب في زمانه ، ومعجزة
محمد صلى الله عليه وسلم القرآن : لكثرة الفصحاء في زمانه .
فلو لم يكن للسحر حقيقة ، كما للطب والفصاحة حقيقة ، لضعفت معجزة
موسى في علوه على السحرة : لأنه دفع ما لا تأثير له ، وليس لدفع ما لا تأثير له تأثير ، وإنما التأثير في دفع ما له تأثير ، كما كان لإحياء الموتى تأثير على الطب ، ولفصاحة القرآن على فصاحة الكلام تأثير .
فأما الجواب عن استدلالهم بالآية : فهو أن حقيقة السحر آثاره ، وإن لم تكن لأفعال السحر حقيقة ، وقد أثر سحرهم في موسى ما أوجسه من الخوف في نفسه .
وأما الجواب عن استدلالهم بما فيه خرق العادات وإبطال المعجزات : فهو خرق العادات في غير السحرة وليس بخرق العادات في السحرة ، كما أن الشعبذة خرق العادات في غير المتشعبذة وليس بخرق العادات في المتشعبذة . وليس فيه إبطال المعجزات : لأن الشعبذة في خرق العادات كالسحر ، وليس فيها إبطال المعجزات ، فكذلك السحر : لأن خرق العادات بالمعجزات مخالف لخرقها بالسحر والشعبذة : لأن أفعال المعجزات حقيقة وأفعال السحرة مستحيلة : لأن
موسى لما فلق البحر ظهرت أرضه حتى سار فيه موسى وقومه على اليابس ، ولما ألقى السحرة حبالهم حتى ظنها الناظر حيات ظهر استحالتها ، وعادت إلى حالها ، والله ولي العصمة .
[ ص: 93 ] فَصْلٌ :
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ يُسْتَنْبَطُ مِنْهُ أَحْكَامُ السِّحْرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=10044مَعْنَى السِّحْرِ فِي اللُّغَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ إِخْفَاءُ الْخِدَاعِ وَتَدْلِيسُ الْأَبَاطِيلِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ :
أَرَانَا مُوضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ وَنُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وَبِالشَّرَابِ
أَيْ نُخْدَعُ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : قَالَهُ
ابْنُ مَسْعُودٍ : كُنَّا نُسَمِّي السِّحْرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْعَضَهَ . وَالْعِضَهُ : شِدَّةُ الْبُهْتِ وَتَمْوِيهُ الْكَذِبِ .
وَأَنْشَدَ
الْخَلِيلُ :
أَعُوذُ بِرَبِّي مِنَ النَّافِثَاتِ وَمِنْ عَضَهِ الْعَاضِهِ الْمُعْضَهِ
وَالْكَلَامُ فِي السِّحْرِ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ :
أَحَدُهَا : فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ .
وَالثَّانِي : فِي تَأْثِيرِ السِّحْرِ .
وَالثَّالِثُ : فِي حُكْمِ السِّحْرِ .
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِي
nindex.php?page=treesubj&link=25582حَقِيقَةِ السِّحْرِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ ،
وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ : أَنَّ لَهُ حَقِيقَةً وَتَأْثِيرًا . وَذَهَبَ مُعْتَزِلَةُ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمَغْرِبِيُّ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ ،
وَأَبُو جَعْفَرٍ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ : إِلَى أَنْ لَا حَقِيقَةَ لِلسِّحْرِ وَلَا تَأْثِيرَ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ وَتَمْوِيهٌ كَالشَّعْبَذَةِ ، لَا تُحْدِثُ فِي الْمَسْحُورِ إِلَّا التَّوَهُّمَ وَالِاسْتِشْعَارَ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فِي قِصَّةِ
فِرْعَوْنِ وَمُوسَى nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=66فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [ طه : 66 ، 67 ] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا فِيمَا مَثَّلُوهُ بِالْحَيَّاتِ مِنَ الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ زِئْبَقًا ، وَاسْتَقْبَلُوا بِهَا مَطْلِعَ الشَّمْسِ فَلَمَّا حَمِيَ بِهَا سَاحَ وَسَرَى ، فُسِّرَتْ تِلْكَ الْحِبَالُ كَالْحَيَّاتِ السَّارِيَةِ ، وَمَعْلُومٌ مِنْ هَذَا أَنَّهُ تَخْيِيلٌ بَاطِلٌ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ لَخَرَقَ الْعَادَاتِ ، وَبَطَلَ بِهِ الْمُعْجِزَاتُ وَزَالَتْ دَلَائِلُ النُّبُوَّاتِ ، وَلَمَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ النَّبِيِّ وَالسَّاحِرِ ، وَبَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَفِي هَذَا دَفْعٌ لِأُصُولِ الشَّرَائِعِ وَإِبْطَالُ
[ ص: 94 ] الْحَقَائِقِ وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَهُوَ مَدْفُوعٌ عَقْلًا وَشَرْعًا . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةً وَتَأْثِيرًا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْآيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَ اخْتِلَافِ مَا تَضَمَّنَهَا مِنَ التَّأْوِيلِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَقِيقَةٌ لَأَبَانَ فَسَادَهُ وَلَذَكَرَ بُطْلَانَهُ ، وَلَمَا كَانَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ مُوقِعٌ ، وَفِي هَذَا رَدٌّ لِمَا نَطَقَ بِهِ التَّنْزِيلُ ، فَكَانَ مَدْفُوعًا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=113&ayano=4وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [ الْفَلَقِ : 4 ] . وَالنَّفَّاثَاتُ السَّوَاحِرُ ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ ، يَنْفُثْنَ فِي عُقَدِ الْخَيْطِ لِلسِّحْرِ .
رَوَى
الْحَسَنُ ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=924578مِنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسِّحْرِ تَأْثِيرٌ لَمَا أُمِرَ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ ، وَلَكَانَ السِّحْرُ كَغَيْرِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى
أَبُو صَالِحٍ ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=924579أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَكَى شَكْوَى شَدِيدَةً ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَالنَّائِمِ وَالْيَقِظَانِ إِذَا مَلَكَانِ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : مَا شَكْوَاهُ ؟ فَقَالَ : مَطْبُوبٌ - أَيْ مَسْحُورٌ ، وَالطِّبُّ السِّحْرُ - قَالَ : وَمَنْ طَبَّهُ ؟ قَالَ لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ الْيَهُودِيُّ ، وَطَرَحَهُ فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ تَحْتَ صَخْرَةٍ فِيهَا .
فَبَعْثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا وَتَرًا فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً ، فَأَمَرَ بِحَلِّ الْعُقَدِ ، فَكَانَ كُلَّمَا حَلَّ عُقْدَةً وَجَدَ رَاحَةً حَتَّى حُلَّتِ الْعُقَدُ كُلُّهَا ، فَكَأَنَّمَا نَشِطَ مِنْ عِقَالٍ .
فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ الْمُعَوِّذَتَانِ وَهَمَّا إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً بِعَدَدِ الْعُقَدِ ، وَأُمِرَ أَنْ يَتَعَوَّذَ بِهِمَا ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ طُرُقٍ شَتَّى تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ وَتَتَّفِقُ مَعَانِيهِ ، وَرَوَاهُ
الشَّافِعِيُّ ، عَنْ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ
عَائِشَةَ ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=924580أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَثَ أَيَّامًا يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ ، فَاسْتَيْقَظَ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ، قَدْ أَفْتَانِي رَبِّي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ ، أَتَانِي رَجُلَانِ فِي الْمَنَامِ . . . وَذَكَرَتْ مِثْلَ حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْأَلْفَاظِ .
وَإِذَا أَثَّرَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَعَلَ ، وَأَثَّرَ فِيهِ حِينَ نَشِطَ مَعَ مَا عَصَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ ، كَانَ أَوْلَى أَنْ يُؤَثِّرَ فِي غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ :
nindex.php?page=treesubj&link=25592رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ السِّحْرِ لِمَا فِي اسْتِمْرَارِهِ مِنْ خَلَلِ الْعَقْلِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ قَالَ فِي رَسُولِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=8وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا [ الْفَرْقَانِ : 8 ] ، قِيلَ :
nindex.php?page=treesubj&link=21374عِصْمَةُ الرَّسُولِ مُخْتَصَّةٌ بِعَقْلِهِ وَدِينِهِ ، وَهُوَ فِي الْمَرَضِ كَغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ ، وَقَدْ سَمَّ يَهُودُ
خَيْبَرَ ذِرَاعًا مَشْوِيَّةً ، وَقُدِّمَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَكَلَ مِنْهَا وَمَرِضَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ ، فَكَانَ يَقُولُ :
مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَادُّنِي ، فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي فَكَانَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ . وَلَمَّا أَجْرَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ حِينَ قَرَأَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=19أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [ النَّجْمِ : 19 ، 20 ] ، تِلْكَ
[ ص: 95 ] الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى . أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْهُ وَعَصَمَهُ مِنْهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى
نَافِعٌ ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ ، قَالَ : أَرْسَلَنِي
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى
خَيْبَرَ لِأُقَسِّمَ ثِمَارَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَحَرُونِي ، فَتَكَوَّعَتْ يَدِي ، فَأَجْلَاهُمْ
عُمَرُ عَنِ
الْحِجَازِ . فَلَوْلَا أَنَّ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةً وَتَأَثُّرًا لَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ ، وَانْتَشَرَ فِي الْكَافَّةِ ، وَلَمَا أَجْلَاهُمْ
عُمَرُ مِنْ دِيَارِهِمْ ، وَلَرَاجَعَتْهُ الصَّحَابَةُ فِيهِمْ كَمَا رَاجَعُوهُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الْمُحْتَمَلَةِ .
وَقَدْ رَوَى
بَجَالَةُ ، قَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=31244كَتَبَ عُمَرُ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ . فَقَتَلْنَا ثَلَاثَ سَوَاحِرَ . يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مُعْجِزَةَ
مُوسَى فِي الْعَصَا : لِكَثْرَةِ السِّحْرِ فِي زَمَانِهِ ، وَمُعْجِزَةَ
عِيسَى بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى : لِكَثْرَةِ الطِّبِّ فِي زَمَانِهِ ، وَمُعْجِزَةَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ : لِكَثْرَةِ الْفُصَحَاءِ فِي زَمَانِهِ .
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسِّحْرِ حَقِيقَةٌ ، كَمَا لِلطِّبِّ وَالْفَصَاحَةِ حَقِيقَةٌ ، لَضَعُفَتْ مُعْجِزَةُ
مُوسَى فِي عُلُوِّهِ عَلَى السَّحَرَةِ : لِأَنَّهُ دَفَعَ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ ، وَلَيْسَ لِدَفْعِ مَا لَا تَأْثِيرَ لَهُ تَأْثِيرٌ ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ فِي دَفْعِ مَا لَهُ تَأْثِيرٌ ، كَمَا كَانَ لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى تَأْثِيرٌ عَلَى الطِّبِّ ، وَلِفَصَاحَةِ الْقُرْآنِ عَلَى فَصَاحَةِ الْكَلَامِ تَأْثِيرٌ .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ : فَهُوَ أَنَّ حَقِيقَةَ السِّحْرِ آثَارُهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِأَفْعَالِ السِّحْرِ حَقِيقَةٌ ، وَقَدْ أَثَّرَ سِحْرُهُمْ فِي مُوسَى مَا أَوْجَسَهُ مِنَ الْخَوْفِ فِي نَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِمَا فِيهِ خَرْقُ الْعَادَاتِ وَإِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ : فَهُوَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي غَيْرِ السَّحَرَةِ وَلَيْسَ بِخَرْقِ الْعَادَاتِ فِي السَّحَرَةِ ، كَمَا أَنَّ الشَّعْبَذَةَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي غَيْرِ الْمُتَشَعْبِذَةِ وَلَيْسَ بِخَرْقِ الْعَادَاتِ فِي الْمُتَشَعْبِذَةِ . وَلَيْسَ فِيهِ إِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ : لِأَنَّ الشَّعْبَذَةَ فِي خَرْقِ الْعَادَاتِ كَالسِّحْرِ ، وَلَيْسَ فِيهَا إِبْطَالُ الْمُعْجِزَاتِ ، فَكَذَلِكَ السِّحْرُ : لِأَنَّ خَرْقَ الْعَادَاتِ بِالْمُعْجِزَاتِ مُخَالِفٌ لِخَرْقِهَا بِالسِّحْرِ وَالشَّعْبَذَةِ : لِأَنَّ أَفْعَالَ الْمُعْجِزَاتِ حَقِيقَةٌ وَأَفْعَالَ السَّحَرَةِ مُسْتَحِيلَةٌ : لِأَنَّ
مُوسَى لَمَّا فَلَقَ الْبَحْرَ ظَهَرَتْ أَرْضُهُ حَتَّى سَارَ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمُهُ عَلَى الْيَابِسِ ، وَلَمَّا أَلْقَى السَّحَرَةُ حِبَالَهُمْ حَتَّى ظَنَّهَا النَّاظِرُ حَيَّاتٍ ظَهَرَ اسْتِحَالَتُهَا ، وَعَادَتْ إِلَى حَالِهَا ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْعِصْمَةِ .