الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت ما وصفنا من حال الخنثى في زوال إشكاله أو بقائه على إشكاله فحكم من أرضعه من الأطفال معتبر بحاله ؛ فإن أجري عليه حكم الرجال ، ونزل له لبن فأرضع به طفلا لم تنتشر به الحرمة ولم يصر ابنا له من الرضاع ؛ لأن الرجل لا يصير بلبنه أبا وقال الحسين الكرابيسي : يصير بلبنه أبا كالأم تصير بلبنها أما وهذا فاسد من وجهين : أحدهما : أن الله تعالى أثبت بالرضاع أما ، ولم يثبت به أبا فقال وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم [ النساء : 23 ] . [ ص: 413 ] والثاني : أن الحرمة تنتشر عن ارتضاع اللبن المخلوق لغذاء الولد ، وذلك مخصوص فيما خلقه الله تعالى غالبا من ألبان النساء دون الرجال ، وصار لبن الرجل أضعف حكما من لبن البهيمة التي لا ينتشر به حرمة الرضاع ، ولأن الرضاع تبع للولادة فلما كانت المرأة محل الولادة ، وجب أن تكون محل الرضاع ، وإذا لم تنتشر الحرمة بلبن الرجل فقد قال الشافعي : كرهت له إن كان المرضع بنتا أن يتزوجها لاغتذائها بلبنه ، فإن تزوجها لم يفسخ نكاحه لعدم حرمته ، وإن أجري على الخنثى حكم النساء وأبيح له التزويج بالرجال انتشرت الحرمة عن لبنه قبل التزويج وبعده ؛ لأن لبن النساء مخلوق للاغتذاء ، وليس جماع الرجل شرطا فيه وإن كان سببا لنزوله في الأغلب فصار كالبكر إذا نزل لها لبن فأرضعت به طفلا انتشرت به حرمة الرضاع ، وإن كان من غير جماع فلو حكم بانتشار حرمة اللبن بما أجري عليه من أحكام النساء وتزوج رجلا ثم ذكر ميله إلى طبع الرجال ، وقال أنا رجل ، نظر فإن كان ذلك بما ادعاه من انتقال الشهوة لم يقبل منه ، لأنه متهوم فيه ، وكان على حكمه الأول في كونه امرأة ، وكان الزوج على نكاحه لكن يقال له : نختار لك في الورع أن تفارقها إن صدقتها ، وإن كان ذلك بالأمارات الظاهرة في البول والمني الذي لا يتهم فيه قبل منه ، ونقل عن أحكام النساء إلى أحكام الرجال وانفسخ نكاح الزوج ، وبطل ما انتشر من حرمة الرضاع ، وكرهناه إن كان الولد بنتا أن يتزوجها وأبيح له أن يتزوج امرأة بعد أن تزوج برجل ، وإن كان على إشكاله فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنه إذا فات البيان بالأمارات الظاهرة والباطنة لتكافئها وعدم الشهوة المركوزة في الطبع صار نزول اللبن بيانا ؛ لأنه لا ينزل في الغالب إلا من امرأة فاعتبر الإشكال بالأغلب منهما لا اللبن وأجري عليه أحكام النساء وانتشرت الحرمة عن لبنه ، وقد حكى هذا الوجه ابن أبي هريرة ، ومن ذهب إلى هذا اختلف عنه في ظهور اللحية هل يصير بيانا عند عدم البيان ؟ على وجهين : أحدهما : يصير بيانا كاللبن . والثاني : لا يصير بيانا ، لأنه لما لم يكن عدم اللحية دليلا على الأنوثة لم يكن وجودها دليلا على الذكورية ، والذي عليه جمهور أصحابنا وهو الظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يصير اللبن واللحية بيانا ، لأنهما قد يشترك فيهما الجنسان ، وإن كان نادرا فلم يصر بيانا ، وإذا فات البيان ودام الإشكال وأرضع بلبنه مولودا لم يحكم للبنه بانتشار الحرمة ؛ لجواز أن يكون رجلا ، ولا يعدمها ؛ لجواز أن تكون امرأة ، وكان على الوقف ما بقي على الإشكال ؛ لأن ما من وقت يحدث إلا وقد يجوز أن يحدث فيه ما يزول به الإشكال فلأجل ذلك وقف ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية