الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما إذا كان مظاهرا فقال بعد ظهاره إن أصبتك فعبدي هذا حر عن ظهاري كان موليا : لأنه متى أصابها عتق عليه فإن قيل فالعتق مستحق عليه بالظهار فهو ليس ملتزما بالإصابة ما لم يكن لازما فلم جعلتموه موليا ؟ قلنا : لأن عتق عبده غير متعين بالظهار وهو متعين بالإصابة فصار بالإصابة ملتزما من تعيين العتق ما لم يلزم فلذلك صار موليا فإذا مضت مدة الإيلاء كان مخيرا بين الإصابة أو الطلاق ، فإن طلق كان مخيرا في عتق الظهار بين عتق ذلك العبد وبين عتق غيره ، فإن أعتقه عن ظهاره أجزأه وسقط إيلاؤه إن راجع بعد الطلاق ، وإن أعتق غيره أجزأه وكان إيلاؤه إن راجع بعد الطلاق ، وإن أعتق غيره أجزأه وكان إيلاؤه إن راجع بعد الطلاق باقيا لوقوع عتقه بالإصابة وإن فاء بالوطء ولم يطلق عتق عليه عبده ، وهل يجزئه عتقه عن ظهاره أم لا ؟ على وجهين من اختلاف أصحابنا في التعليل المتقدم :

                                                                                                                                            أحدهما : وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه يجزئه تعليلا بأن عتقه معقود بعد الظهار .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجزئه تعليلا بأن عتقه مشترك بين ظهاره وبين وطئه [ في إيلائه ] والله أعلم .

                                                                                                                                            مسألة قال المزني : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو قال إن قربتك فلله علي أن أعتق فلانا عن ظهاري وهو متظاهر لم يكن موليا وليس عليه أن يعتق فلانا عن ظهاره وعليه فيه كفارة يمين ( قال المزني ) رحمه الله أشبه بقوله أن لا يكون عليه كفارة ألا ترى أنه يقول لو قال لله علي أن أصوم يوم الخميس عن اليوم الذي علي لم يكن عليه صوم يوم الخميس لأنه لم ينذر فيه بشيء يلزمه وإن صوم يوم لازم فأي يوم صامه أجزأ عنه ولم يجعل للنذر في ذلك معنى يلزمه به كفارة فتفهم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد ذكرنا أن هذا كله يتفرع على قوله في الجديد بأن الإيلاء ينعقد بكل يمين ، وإذا كان كذلك فصورة هذه المسألة أن يقول وقد تظاهر وعاد : إن أصبتك فلله علي أن أعتق عبدي سالما عن ظهاري فصار ناذرا بعتق سالم عن ظهاره ، وحالفا بعتق سالم في إيلائه ، إلا أنه جعل تعيين عتقه في الإيلاء مضمونا في ذمته ، وجعل [ ص: 361 ] عتقه في المسألة الأولى ناجزا ، فهذا فرق ما بينهما وإذا كان كذلك فإيلاؤه في هذه المسألة مبني على وجوب تعيين عتقه بهذا النذر ، فعلى مذهب الشافعي رحمه الله يجب بهذا النذر تعيين عتقه إلا أنه نذر لجاج خرج مخرج اليمين فكان فيه بعد اللزوم مخيرا بين عتقه التزاما لحكم النذر وبين الكفارة التزاما لحكم اليمين ، فصار بالتخيير في التزام أحدهما ملتزما بالإصابة ما لم يكن ملتزما قبلها فلذلك صار موليا .

                                                                                                                                            وقال المزني لا يلزمه بهذا النذر تعيين العتق ولا يكون بتعيينه موليا احتجاجا بالصوم إذا كان عليه صوم يوم من كفارة أو قضاء ، فنذر أن يصوم هذا اليوم الذي عليه يوم الخميس لم يتعين صومه فيه ، وكان مخيرا بين صومه أو صوم غيره كذلك العتق إذا وجب عليه في الظهار فعينه بالنذر في عبد بعينه لم يتعين فيه ، وكان بالخيار بين عتق ذلك العبد وبين عتق غيره واحتج على أن النذر لا يوجب التعيين في العتق والصوم بأن الواجب بالنذر ما لم يكن واجبا بغير النذر والعتق والصوم قد وجب بغير النذر ، وليس في التعيين زيادة في الوجوب فلذلك لم يتعينا ولم يصر موليا بتعين العتق كما لم يصر موليا بتعين الصوم وهذا الذي قاله المزني خطأ ، أما تعيين العتق الواجب بالنذر فواجب لا يختلف فيه مذهب الشافعي وسائر أصحابه حتى لو قال وعليه عتق رقبة واجبة إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبدي هذا عن الرقبة التي علي فشفى الله مريضه تعين عتق الرقبة في ذلك العبد بعينه ويكون أصل العتق مستحقا بالوجوب المتقدم ، وتعينه مستحق بالنذر الحادث مستو في تعيين العتق حكم الابتداء والانتهاء ، وأما تعيين الصوم الواجب بالنذر ، فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : حكاه ابن أبي هريرة أنه يتعين بالنذر كالعتق حتى لو قال عليه صوم يوم واجب إن شفى الله مريضي فلله علي أن أصوم اليوم الذي علي في يوم الخميس ، فشفى الله مريضه لزمه صومه فيه ، فيستوي تعيين الصوم في الابتداء والانتهاء كالعتق ، وإنما يتعينان بالنذر في الانتهاء ، كما يتعينان بالنذر في الابتداء لأن تعيين الحقوق أشق وأثقل من إرسالها فصار ملتزما بالتعيين زيادة مشقة وثقل لم يكن فلذلك وجب بالنذر ، فعلى هذا يكون موليا بتعيين الصوم ، كما يكون موليا بتعيين العتق .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو الذي عليه جمهور أصحابنا وقد نص عليه الشافعي في " الأم " : أن الصوم الواجب لا يتعين بالنذر ، والعتق الواجب يتعين بالنذر ، والفرق بينهما من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن صوم الأيام يتساوى فصوم يوم السبت كيوم الأحد ليس بينهما زيادة ولا تفاضل ، فلذلك لم يتعين ما وجب منه بالنذر لتساويه وعتق الرقاب يتفاضل فيكون [ ص: 362 ] رقبة قيمتها مائة دينار ، ورقبة قيمتها دينار وكلاهما يجزيان في الكفارة ، فلذلك تعين ما وجب منه بالنذر لتفاضله .

                                                                                                                                            والفرق الثاني : وهو أصح أن الصوم من حقوق الله سبحانه المحضة التي لا تتعلق بحق آدمي ، فاستوى في حق الله جميع أيام الله ألا تراه لو نذر صوم يوم الخميس ففاته صومه بعذر أو بغير عذر قضاه في غيره ، ولو عجله قبل الخميس لم يجزه لتقديمه على وجوبه وليس كذلك تعيين العتق لأن فيه حق الآدمي لا يجوز إسقاطه ، ألا تراه لو نذر عتق عبد بعينه فمات لم يلزمه عتق غيره ولو نذر عتقه بعد ثلاثة أيام جاز تعجيل عتقه ، فلهذين الفرقين ما تعين العتق الواجب بالنذر ، ولم يتعين الصوم الواجب بالنذر ، واستوى تعيين العتق في الابتداء والانتهاء ، وافترق تعيين الصوم في الابتداء والانتهاء فعلى هذا يكون موليا بتعيين العتق الواجب ولا يكون موليا بتعيين الصوم الواجب ، فأما ما نقله المزني عن الشافعي أنه لا يكون موليا بتعيين العتق الواجب في هذه المسألة وقد كان أبو علي بن أبي هريرة يقول : إنما نقل ذلك على مذهبه في القديم أنه لا يكون موليا إلا في اليمين بالله تعالى ، فأما مذهبه في الجديد أنه يكون موليا بكل يمين ، فإنه يكون موليا ، فلم يكن من المزني خطأ في النقل ، وإن كان مخالفا للشافعي في المذهب ، وذهب سائر أصحابنا إلى أنه أخطأ على الشافعي في النقل ، كما خالفه في المذهب ، لأن الشافعي نص على هذه المسألة في كتاب الأم والإملاء ، وهما من الجديد لا من القديم ، ولم يختلف مذهبه في الجديد بأنه يكون موليا بكل يمين تلزم سواء كانت بالله تعالى أو بغيره من عتق أو طلاق أو غيره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية