الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ القسم الرابع ]

                                                                                                                                            وأما القسم الرابع ، وهو أن يكون الصداق قد نقص فهذا على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : [ إيضاح الضرب الأول ]

                                                                                                                                            أن يكون النقصان متميزا ، كعبدين مات أحدهما ، أو صبرة طعام تلف بعضها ، فلا يخلو حال الطلاق من أن يكون بعد الدخول أو قبله .

                                                                                                                                            فإن كان بعد الدخول : فقد استكملت به جميع الصداق ، وقد تلف بعضه ، فينبني جوابه على ما نقوله في الرجوع ببدل التالف ، وفيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما - وهو القديم - : أنها ترجع بقيمة ما تلف ، فعلى هذا لا يبطل الصداق في التالف ولا في الباقي ، وترجع بعين ما بقي وبقيمة التالف إن لم يكن له مثل ، وبمثله إن كان له مثل ، ولا خيار لها في مقام ولا فسخ .

                                                                                                                                            والقول الثاني - وهو الجديد - : أن الرجوع عند التلف يكون بمهر المثل .

                                                                                                                                            فعلى هذا قد بطل الصداق فيما تلف ، وصح على الصحيح من مذهب الشافعي فيما سلم ، فلا وجه لمن خرج فيه من أصحابنا قولا ثانيا من تفريق الصفقة أنه باطل في السالم لبطلانه في التالف ؛ لأن الصفقة لم تتفرق في حال العقد ، وإنما تفرقت بعد صحة العقد .

                                                                                                                                            وإذا كان كذلك فالزوجة بالخيار لأجل ما تلف بين أن تقيم على الباقي أو تفسخ ، فإن فسخت رجعت على الزوج بمهر المثل ، وعاد الباقي من الصداق إلى ملك الزوج .

                                                                                                                                            وإن أقامت فمذهب الشافعي : أنها تقيم عليه بحسابه من الصداق وقسطه ، وترجع بقسط ما بقي من مهر المثل .

                                                                                                                                            فإن كان التالف النصف رجعت بنصف مهر المثل ، وإن كان الثلث رجعت بثلثيه ، ولا وجه لمن خرج فيه من أصحابنا قولا ثانيا ، أنها تقيم على الباقي بجميع الصداق ؛ اعتبارا بتفريق الصفقة في حال العقد ؛ لما ذكرنا من الفرق بين ما اقترن بالعقد ، وبين ما حدث بعد صحة العقد .

                                                                                                                                            وإن كان الطلاق قبل الدخول فلها نصف الصداق ، وهو على ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون متماثل الأجزاء كالحنطة ، فلها أن تأخذ من الباقي نصف الجميع ، ولا خيار لها .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون مختلف الأجزاء ، كعبدين مات أحدهما ففيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها تأخذ نصف جميع العبد الباقي إذا تساوت قيمتهما ، فعلى هذا لا خيار لها .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنها تأخذ نصف الباقي ، وفيما ترجع ببدله من نصف التالف قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : ترجع بقيمة نصف التالف ، وهو القديم ، فعلى هذا لا خيار لها .

                                                                                                                                            [ ص: 429 ] والقول الثاني : أنها ترجع بقسط ذلك من مهر المثل فتصير مستوفية للنصف من صداق مهر المثل ، فعلى هذا يكون لها الخيار بين هذا وبين أن تفسخ وترجع بنصف مهر المثل ، وقد ذكرنا هذا في كتاب الزكاة ، فهذا حكم النقصان إذا كان متميزا .

                                                                                                                                            [ إيضاح بيان الضرب الثاني ]

                                                                                                                                            والضرب الثاني أن يكون النقصان غير متميز كالعبد إذا كان سمينا فهزل ، أو صحيحا فمرض ، أو بصيرا فعمي ، فلها الخيار ، سواء قل العيب أو كثر .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : لا خيار لها ، إلا أن يتفاحش العيب .

                                                                                                                                            احتجاجا : بأنها إذا ردت الصداق بالعيب اليسير رجعت بقيمته سليما ، وقد يخطئ المقومان فيقومانه صحيحا بقيمته مع يسير العيب ؛ لأن يسير العيب لا يأخذ من القيمة إلا يسيرا ، فعفى عن يسير العيب ؛ لأنه لا يتحقق استدراكه ، ولم يعف عن كثيره ؛ لأنه يتحقق استدراكه ، ولم يعف في البيع عن يسيره ولا كثيره ؛ ولأنه قد تحقق استدراكه في الرجوع بالثمن دون القيمة .

                                                                                                                                            ودليلنا : هو أن ما جاز رده بكثير العيب ، جاز رده بيسيره ، كالثمن ، ولأنه عيب يجوز به الرد في البيع ، فجاز به الرد في الصداق كالكثير .

                                                                                                                                            فأما الجواب عما ذكره : فهو أننا نوجب مع الرد مهر المثل - في أصح القولين - دون القيمة .

                                                                                                                                            ثم لو وجب الرجوع بالقيمة لاقتضى أن يحمل التقويم على الصواب دون الخطأ ، وعلى فرق المقوم بين السليم والمعيب .

                                                                                                                                            فإذا تقرر ما ذكرنا ، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون ذلك بحادث سماء .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون بجناية الزوج .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون بجناية أجنبي .

                                                                                                                                            فإن كان بحادث سماء ، كهزال السمين ومرض الصحيح ، فإن سمحت بنقصه أخذته ناقصا إن طلقت بعد الدخول ، ونصفه إن طلقت قبله ، ولا خيار للزوج فيما حصل له من نصفه الناقص ؛ لأنه مضمون عليه .

                                                                                                                                            وإن لم تسمح بنقصه كان خيارها في الفسخ معتبرا بما ترجع به لو فسخت .

                                                                                                                                            فإن قيل : إنها ترجع بقيمته ، فلا خيار لها في الفسخ ، وتأخذه ناقصا مع أرش نقصه إن طلقت بعد الدخول ، ونصفه ونصف أرشه إن طلقت قبله . وإنما سقط خيارها في الفسخ ؛ لأن أخذه ناقصا مع الأرش أخص بحقها من العدول عنه إلى قيمته .

                                                                                                                                            وإن قيل : لو فسخت رجعت بمهر المثل ، فلها الخيار في الفسخ أو المقام . فإن فسخت [ ص: 430 ] رجعت بمهر المثل إن طلقت بعد الدخول ، وبنصفه إن طلقت قبله ، وإن أقامت أخذته ناقصا ولا أرش لها ، كالبائع إذا رضي أن يتمسك بالمعيب ، وإن طلقت قبل الدخول رجعت بنصفه ناقصا من غير أرش ويكون نصفه معيبا للزوج ولا خيار له فيه ؛ لأنه مضمون عليه .

                                                                                                                                            وإن كان النقصان بجناية الزوج : كأنه قطع إحدى يديه ، أو قلع إحدى عينيه ، فهو عضو يضمنه الجاني بنصف القيمة ، ويضمنه غير الجاني بما نقص فيكون الزوج هاهنا ضامنا له بأكثر الأمرين من نقصه أو نصف قيمته . وإن كان نصف القيمة أكثر لزمه ذلك ؛ لأنه قد يلتزمه بالجناية من غير يد ضامنة فلأن يلزمه مع اليد الضامنة أولى ، وإن كان نقصه أكثر من نصف القيمة لزمه ذلك ؛ لأنه قد يلتزمه باليد الضامنة من غير جناية فلأن يلتزمه مع الجناية أولى ، وإذا لزمه ضمان أكثر الأمرين ترتب جوابه على ما يوجبه في الرجوع مع التلف .

                                                                                                                                            فإن قيل : إن تلف الصداق موجب للرجوع بقيمته على قوله في القديم ، فلها أن تأخذ العبد ناقصا ، وما أوجبناه من ضمان نقصه ، أو ما يقدر بجنايته إن طلقت بعد الدخول ، أو نصف ذلك إن طلقت قبله ، ولا خيار بها .

                                                                                                                                            وإن قيل إن تلف الصداق موجب للرجوع بمهر المثل ، فهي هاهنا بالخيار بين المقام أو الفسخ ، فإن فسخت رجعت بمهر المثل إن طلقت بعد الدخول أو بنصفه إن طلقت قبله . وإن أقامت أخذت العبد ناقصا ، وما أوجبه ضمان الجناية وهو نصف القيمة ، ولا اعتبار بما زاد عليه من ضمان النقص باليد الضامنة على هذا القول . ألا تراه لو نقصت قيمته من غير جناية لم يضمنها على هذا القول إذا أقامت ولم يفسخ هذا إن كان الطلاق بعد الدخول ، فإن كان قبله أخذت نصفه وربع القيمة بالجناية .

                                                                                                                                            وإن كان النقصان بجناية أجنبي ، كأنه قطع إحدى يديه ، أو فقأ إحدى عينيه ، فعلى الجاني نصف القيمة أرش الجناية ، ويضمن الزوج نقصان القيمة قل أو كثر ضمان اليد ، ثم يترتب حقها فيما ترجع به على ما مضى من القولين .

                                                                                                                                            إن قلنا : إنها ترجع مع التلف بالقيمة ، رجعت عليه إن طلقت بعد الدخول بالعبد الناقص ، ورجعت معه بأكثر الأمرين من ضمان الجناية وهو نصف القيمة ، أو ضمان اليد وهو نقصان القيمة . وهي بالخيار في الرجوع على من شاءت منهما . فإن رجعت على الجاني رجعت عليه بنصف القيمة ، فإن كان هو الأكثر فقد استوفت ولم يرجع على الزوج بشيء ولا يرجع الزوج على الجاني بشيء ، وإن كان هو الأقل رجعت بالباقي من نقصان القيمة على الزوج ولم يرجع به الزوج على الجاني ، وإن رجعت على الزوج رجعت عليه بنقصان القيمة ، فإن كان هو الأكثر فقد استوفت ورجع الزوج على الجاني بنصف القيمة ، وإن كان هو الأقل رجعت على الجاني بالباقي من نصف القيمة ، ورجع الزوج عليه بما غرم من نقصان القيمة .

                                                                                                                                            [ ص: 431 ] فإن طلقت قبل الدخول رجعت بنصف ذلك .

                                                                                                                                            وإن قلنا : إنها ترجع مع التلف بمهر المثل على قوله في الجديد ، فهي بالخيار بين المقام أو الفسخ ، فإن فسخت رجعت على الزوج بمهر المثل إن طلقت بعد الدخول ، وبنصفه إن طلقت قبله ، ورجع الزوج على الجاني بنصف القيمة أرش الجناية ، وإن أقامت كان لها إن طلقت بعد الدخول أخذ العبد ونصف القيمة التي هي أرش الجناية ، سواء كانت أقل الأمرين أو أكثرهما ، فإن كان هو الأقل كان لها الخـيار في الرجوع به على من شاءت منهما ، فإن رجعت به على الزوج رجع به الزوج على الجاني ، وإن رجعت به على الجاني لم يرجع به الجاني على أحد . وإن كان نصف القيمة هو الأكثر لم يكن لها أن ترجع على الزوج إلا بنقصان القيمة ، وترجع بالباقي من النصف على الجاني ، ويرجع عليه الزوج بما غرم من نقصان القيمة ، وإن رجعت على الجاني رجعت عليه بنصف القيمة وقد استوفت ، وإن كان الطلاق قبل الدخول رجعت بالنصف من ذلك ، ورجع الزوج بالنصف الآخر .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية