الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان عبدا . وعن ابن عباس : أنه كان عبدا ، يقال له مغيث ، كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس رضي الله عنه : يا عباس ، ألا تعجب من حب مغيث بريرة ، ومن بغض بريرة مغيثا ؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : لو راجعته فإنما هو أبو ولدك ، فقالت يا رسول الله بأمرك ؟ قال : إنما أنا شفيع ، قالت : فلا حاجة لي فيه . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : كان عبدا ( قال الشافعي ) رحمه الله : ولا يشبه العبد الحر : لأن العبد لا يملك نفسه ، ولأن للسيد إخراجه عنها ومنعه منها ، ولا نفقة عليه لولدها ، ولا ولاية ، ولا ميراث بينهما " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما إذا أعتقت الأمة تحت زوج ، وكان عبدا فلها الخيار في فسخ نكاحه : لكمالها ونقصه ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة : ملكت نفسك فاختاري .

                                                                                                                                            فأما إذا أعتقت الأمة وزوجها حر ، فقد اختلف الفقهاء في خيارها ، فذهب الشافعي إلى أنه لا خيار لها .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة : ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة .

                                                                                                                                            ومن التابعين : سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وسليمان بن يسار .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء : ربيعة ، ومالك ، والأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، وصاحباه : لها الخيار . وبه قال النخعي ، والشعبي ، والثوري ، وطاوس : استدلالا برواية إبراهيم بن الأسود عن عائشة قالت : خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، وكان زوجها حرا ، وهذا نص ، قالوا : ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة : " قد ملكت بضعك فاختاري " فجعل علة اختيارها أنها ملكت بضعها ، وهذه العلة موجودة إذا أعتقت تحت حر : لوجودها إذا أعتقت تحت عبد ، فوجب أن يكون لها الخيار في الحالين ، قال : ولأنها أعتقت تحت زوج فوجب أن يكون لها الخيار .

                                                                                                                                            [ ص: 358 ] أصله : إذا كان الزوج عبدا ، ولأنه قد ملك عليها بضعها بعد العتق بمهر ملكه غيرها في الرق ، فوجب أن يكون لها فسخه ، فيصح أن تملك بالحرية ما كان ممنوعا عليها في العبودية .

                                                                                                                                            ودليلنا : ما رواه عروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وعمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خير بريرة ، وكان زوجها عبدا .

                                                                                                                                            فوجه الدليل فيه أن الحكم إذا انتقل مع السبب تعلق الحكم بذلك السبب كما إذا نقل الحكم مع علة تعلق الحكم بتلك العلة ، وقد نقل التخيير بعتقها تحت عبد فوجب أن يكون متعلقا به .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد روى الأسود عن عائشة أنه كان حرا فتعارضت الروايتان في النقل ، وكانت رواية الحرية أثبت في الحكم ، ألا ترى لو شهد شاهدان بحرية رجل وشهد آخران بعبوديته ، كان شهادة الحرية أولى من شهادة العبودية ، كذلك في النقلين المتعارضين .

                                                                                                                                            قيل : روايتنا أنه كان عبدا أولى من روايتهم أنه كان حرا من أربعة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن راوي العبودية عن عائشة ثلاثة : عروة ، والقاسم ، وعمرة ، وراوي الحرية عنها واحد ، وهو الأسود ، ورواية الثلاثة أولى من رواية الواحد : لأنهم من السهو أبعد ، وإلى التواتر والاستفاضة أقرب ، وقد قال الله تعالى : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ البقرة : 282 ] . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد .

                                                                                                                                            والثاني : أن من ذكرنا أخص بعائشة من الأسود : لأن عروة بن الزبير هو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر ، والقاسم بن محمد هو ابن أخيها محمد بن أبي بكر ، وعمرة بنت عبد الرحمن هي بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ، فهم من أهلها يستمعون كلامها مشاهدة من غير حجاب ، والأسود أجنبي لا يسمع كلامها إلا من وراء حجاب ، فكانت روايتهم أولى من روايته .

                                                                                                                                            والثالث : أن نقل العبودية يفيد علة الحكم ، ونقل الحرية لا يفيدها : لأن أحدا لا يجعل حرية الزوج علة في ثبوت الخيار ، والعبودية تجعله علة في ثبوت الخيار ، فكانت رواية العبودية أولى .

                                                                                                                                            والرابع : أنه قد وافق عائشة في رواية العبودية صحابيان ابن عمر وابن عباس ، وما وافقهما في رواية الحرية أحد ، أما ابن عمر فروى أنه كان عبدا ، وأما ابن عباس فروى عنه خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : كان زوج بريرة عبدا أسود ، يقال له مغيث ، كأني أراه يطوف خلفها بالمدينة ، ودموعه تسيل على لحيته ، فقال [ ص: 359 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس : ألا تعجب من شدة حب مغيث بريرة ، ومن شدة بغض بريرة مغيثا ، قال : فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو راجعته ، فإنما هو أبو ولدك ، فقالت : أتأمرني ؟ فقال : إنما أنا شافع ، قالت : فلا حاجة لي فيه .

                                                                                                                                            فأما ترجيحه بأن شهود الحرية أولى من شهود العبودية ، كذلك راوي الحرية أولى من راوي العبودية .

                                                                                                                                            فالجواب عنه : أنه يقال : إن علم شهود الحرية بالعبودية فشهادتهم أولى : لأنهم أزيد علما ممن علم العبودية ، ولم يعلم ما يجدد بعدها من الحرية ، وإن لم يعلم شهود الحرية بالعبودية ، وكان مجهول الحال فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الشهادتين قد تعارضتا فسقطتا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن شهادة العبودية أولى : لأنها تخالف الظاهر من حكم الدار ، فكانت أزيد ممن شهد بالحرية التي هي الغالب من حكم الدار ، ألا ترى أن اللقيط يجري عليه حكم الحرية في الظاهر : لأنه الغالب من حكم الدار ، ولأن أهلها أحرار ، فلم يكن في هذا الاستشهاد ترجيح .

                                                                                                                                            فإن قالوا : تستعمل الروايتين ، فتحمل رواية من نقل العبودية على أنه كان عبدا وقت العقد ، ورواية من نقل الحرية على أنه كان حرا وقت العتق : لأن الحرية تطرأ على الرق ، ولا يطرأ الرق على الحرية ، فكان ذلك أولى ممن استعمل إحدى الروايتين دون الأخرى .

                                                                                                                                            والجواب عن هذا الاستعمال من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه تأويل يبطل بخبرين :

                                                                                                                                            أحد الخبرين : أن أسامة روى عن القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبريرة : " إن شئت أن تستقري تحت هذا العبد ، وإن شئت فارقتيه " ، فيقال إنه كان في وقت التخيير عبدا .

                                                                                                                                            والخبر الثاني : ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : أنه كان عبدا ، فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختارت نفسها ، ولو كان حرا لم يخيرها .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أننا نقابل هذا الاستعمال بمثله من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كان حرا قبل السبي وعبدا بعد السبي عند العقد والتخيير .

                                                                                                                                            والثاني : أنه كان عبدا وقت العتق وحرا وقت التخيير ، فتكون لها الخيار في أحد [ ص: 360 ] المذهبين ، ويدل على صحة ما ذهبنا إليه أيضا ما رواه ابن موهب ، عن القاسم ، عن عائشة ، أنه كان لها غلام وجارية ، فأرادت عتقها ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابدئي بالغلام ، فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم عتق الزوج إلا لفائدة ، ولا فائدة إلا سقوط خيار الزوجة ، على أنه قد روي أنه قال لها : ابدئي بالغلام : لأن لا يكون للزوجة خيار ، فكان هذا نصا صريحا .

                                                                                                                                            ويدل عليه من طريق القياس : أنها كافأت زوجها في الفضيلة ، فوجب أن لا يثبت لها بذلك خيار كما لو أسلمت تحت مسلم أو أفاقت من جنون تحت عاقل ، ولأن ما لم يثبت به الخيار في ابتداء النكاح لم يثبت به الخيار في أثناء النكاح كالعمى طردا ، وكالجب عكسا ، ولأن ما لزم من عقود المعاوضات لم يثبت فيه من غير عيب خيار كالبيع .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بقوله : " قد ملكت بضعك فاختاري " فهو أن هذا اللفظ ما نقله غيرهم ولا وجد إلا في كتبهم ، ثم يكون معناه : قد ملكت نفسك تحت العبد فاختاري ، فلم يكن لها أن تختار نفسها تحت الحر .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الزوج إذا كان عبدا ، فالمعنى فيه نقصه بالرق عن كمالها بالحرية ، فذلك كان عيبا يوجب الخيار ، وليس كذلك عتقها مع الحر .

                                                                                                                                            وأما استدلالهم بأنه قد ملك عليها بضعها بمهر ملكه غيرها ، فلا تأثير لهذا المعنى واستحقاق الخيار : لأنها لو كانت مكاتبة وقت العقد فملكت مهرها ثم أعتقت كان لها الخيار ، فبطل أن يكون استحقاقه لهذه العلة ، وبطل أن يكون العلة : لأنها قد ملكت بالعتق ما ملك عليها في الرق : لأنها لو أوجرت ثم عتقت لم يكن لها في فسخ الإجارة خيار ، فلم يصح التعليل بواحد من الأمرين ، فبطل الاستدلال ، والله أعلم .

                                                                                                                                            قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : " فلهذا - والله أعلم - كان لها الخيار إذا أعتقت ، ما لم يصبها زوجها بعد العتق ، ولا أعلم في تأقيت الخيار شيئا يتبع إلا قول حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يمسها " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وإذا ثبت أن لا خيار لها إذا أعتقت إلا أن يكون زوجها عبدا فلها أن تختار الفسخ بحكم حاكم ، وغير حكمه بخلاف الفسخ بالعيوب : لأن خيارها بالعتق غير متفق عليه فلم يفتقر إلى حاكم ، وخيارها بالعيب مختلف فيه فافتقر إلى حاكم ، وإذا كان كذلك فهل يكون خيارها على الفور أو التراخي فيه ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : أنه على الفور معتبرا بالمكنة : لأنه خيار عيب ثبت لرفع ضرر فاقتضى أن يكون على الفور كالخيار بالعتق في البيوع .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه ممتد بعد العتق إلى ثلاثة أيام هي آخر حد القليل ، وأول حد الكثير ، واعتبارا بالخيار في المصراة ثلاثا ، بأنه جعل الخيار خيار ثلاث .

                                                                                                                                            [ ص: 361 ] والقول الثالث : أنه على التراخي ما لم تصرح بالرضى أو التمكين من نفسها : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة : لما رأى مغيثا باكيا : " لو راجعتيه فإنه أبو ولدك " ، ولعل ذلك كان بعد زمان من عتقها ، فلولا امتداد خيارها على التراخي لأبطله ، وقد روى محمد بن خزيمة عن ابن إسحاق بإسناد رفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة : " لك الخيار ما لم يصبك " ، وهذا نص إن صح ، ولأنه قول ابن عمر وحفصة وليس يعرف لهما فيه خلاف ، ولأن طلب الأحظ في هذا الخيار مثبته يحتاج إلى فكر وارتياء ، فتراخى زمانه ليعرف بامتداده أحظ الأمرين لها ، وخالف خيار العيوب التي لا يشتبه الأحظ منها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية