الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ، فليست الذمة المؤبدة إلا لأهل الكتاب ، فإن لم يترافعوا إلينا في أحكامهم تركوا ، وإن ترافعوا فيها إلينا ، فعلى ضربين :

                                                                                                                                            [ ص: 307 ] أحدهما : أن يكونوا من أهل دين واحد ، ففي وجوب الحكم عليهم قولان :

                                                                                                                                            أحدهما - وهو قوله في القديم - : أنه لا يجب ، والحاكم مخير في الحكم بينهم ، وهو إذا حكم عليهم مخيرون في التزام حكمه ، اعتبارا بأهل العهد : لعموم قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم .

                                                                                                                                            والقول الثاني - وهو قوله في الجديد ، واختاره المزني - : أن الحكم بينهم واجب ، فيلزم الحاكم إذا ترافعوا إليه أن يحكم بينهم ، وعليهم إذا حكم أن يلتزموا حكمه ، وإذا استعدى أحدهم على الآخر وجب أن يعديه الحاكم ، وأن يحضر المستعدى عليه ، فإن امتنع من الحضور أجبره وعزره ، وإنما كان كذلك بقول الله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ المائدة : 49 ] . وهذا أمر ، ولقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ التوبة : 29 ] .

                                                                                                                                            قال أصحابنا : والصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا ، فلو لم يلزمهم حكمه لامتنعوا من إقامة الحد عليهم ، ولأننا نجريهم بالدفع عنهم منا ومن غيرنا مجرى المسلمين ، فوجب أن ندفع عنهم بالحكم بينهم في استيفاء الحقوق لهم كما نحكم بين المسلمين ، وبهذا نفرق بينهم وبين المعادين ، لا يلزمنا أن ندفع عنهم غيرنا ، فلم يلزمنا أن نحكم بينهم ، ولا أن ندفع بعضهم عن بعض .

                                                                                                                                            فأما أبو حنيفة فلم يعمل بواحد من القولين على إطلاقه وقال : لا يحكم بينهم إلا أن يجتمعوا على الرضا بحكم الإمام ، فحينئذ يلزم الحاكم أن يحكم بين المترافعين إليه ، ويلزمهم أن يلتزموا حكمه .

                                                                                                                                            والضرب الثاني : أن يكون الحكم بين ذميين من دينين كيهودي ونصراني تحاكما إلينا ، فقد اختلف أصحابنا فيهم : فكان أبو إسحاق المروزي يخرج وجوب الحكم بينهما على قولين ، كما لو كانا على دين واحد : لأن الكفر كله ملة واحدة .

                                                                                                                                            وقال غيره من أصحابنا : أن يحكم بينهما قولا واحدا .

                                                                                                                                            والفرق بين أن يكون من دين واحد أو دينين : أنهما إذا كانا من دين واحد فلم يحكم ، كان لهم حاكم واحد لا يختلفون فيه ، فأمكن وصولهم إلى الحق منه ، وإذا كانا على دينين ، اختلفا في الحكم إن لم يحكم بينهما حاكمنا ، فدعا النصراني إلى حاكم النصارى ، ودعا اليهودي إلى حاكم اليهود ، فتعذر وصول الحق إلا بحاكمنا ، فلذلك لزمه الحكم بينهما .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية