فصل : وأما الشرط الثالث : وهو ، فقد ينعقد على أحد وجهين ، إما بالبذل والقبول ، وإما بالطلب والإيجاب ، ولهما فيه ثلاثة أقوال : صفة العقد وكيفيته
أحدهما : أن يعقد له بلفظ الماضي .
والثاني : بلفظ المستقبل .
والثالث : بلفظ الأمر .
فإن عقداه بلفظ الماضي فضربان :
أحدهما : أن يعقداه بالبذل والقبول . والثاني : بالطلب والإيجاب .
فأما عقده بالبذل والقبول ، فهو أن يبدأ الولي ، فيقول : قد زوجتك بنتي على صداق ألف درهم ، ويقول الزوج : قد قبلت نكاحها على هذا الصداق ، فيكون قد ابتدأ به الولي بذلا ، وما أجابه الزوج قبولا ، وإذا كان هكذا ، فللزوج في قبوله ثلاثة أحوال :
أحدها : أن يقول : قبلت نكاحها على هذا الصداق .
والثاني : أن يقول : قبلت ولا يذكر الصداق .
والثالث : أن يقول : قبلت ولا يذكر النكاح ولا الصداق .
فأما الحال الأولى : وهو أن يقول : قبلت نكاحها على هذا الصداق ، فقد انعقد النكاح على الصداق المسمى إذا كان قبول الزوج على الفور من بذل الولي ، ولو قال الزوج : قبلت نكاحها على صداق خمسمائة ، وقد بذلها الولي له بصداق ألف انعقد الصداق ، ولم تلزم فيه أحد الصداقين ، وكان لها مهر المثل : لأن الألف لم يقبلها الزوج والخمسمائة لم يرض بها المولى .
وقال أبو حنيفة : ينعقد على صداق خمسمائة : لأنها أقل فصارا مجتمعين عليها ، وإن تفرد الولي بالزيادة ، وهذا خطأ لما ذكرنا .
وأما الحال الثانية : وهو أن يقول قبلت نكاحها ، ولا يذكر قبول الصداق ، فيصح النكاح بقبوله ، ولا يلزم المسمى : لأنه لم يذكره في القبول ، وليكون لها مهر المثل .
وقال أبو حنيفة : يلزم فيه الصداق المسمى بقبول النكاح والذي يتضمنه كالبيع إذا قال : بعتك عبدي بألف ، فقال المشتري : قبلت هذا البيع لزمه ذلك الثمن ، وإن لم يصرح به في قبوله ، كذلك النكاح .
وهذا خطأ : لأن البيع لا ينعقد إلا بثمن ، فكان قبوله البيع قبولا لما تضمنه من الثمن وإن لم يصرح به في قبوله ، وليس كذلك النكاح : لأنه قد يصح بغير الصداق فلم يكن قبوله لنكاح قبولا لما يتضمنه من الصداق حتى يصرح به في قبوله .
وأما الحال الثالثة : وهو أن يقول : قبلت ويمسك ، فلا يذكر النكاح ولا الصداق في قبوله ، ففيه قولان ، وهو ظاهر كلامه هاهنا ، وقد نص عليه صريحا في كتاب " الأم " ورواه البويطي ، وقاله جمهور أصحابنا أن النكاح باطل .
[ ص: 160 ] والقول الثاني : قاله في كتاب " التعريض بالخطبة من كتب الأمالي " : إن النكاح صحيح ، وبه قال أبو حنيفة استدلالا بأمرين :
أحدهما : أن قوله : قبلت إنما هو جواب للبذل الصريح وجواب الصريح يكون صريحا كقوله تعالى : فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم [ الأعراف : 44 ] أي نعم وجدناه ، وكقوله : ألست بربكم قالوا بلى [ الأعراف : 172 ] أي بلى أنت ربنا ، وكما لو ادعى رجل على رجل ألف درهم فسأله الحاكم عنها ، وقال له عليك ألف ؟ فقال : نعم ، كان إقرارا منه بالألف وجرى مجرى قوله : نعم له علي ألف ، فكذلك يجب أن يكون قوله في النكاح قد قبلت بعد تقدم البذل الصريح قبولا صريحا ، فجرى مجرى قوله : قبلت نكاحها .
والثاني : إن البذل والقبول معتبر في عقد النكاح ، كاعتباره في عقد البيع ، ثم ثبت أنه لو قال البائع : بعتك عبدي هذا بألف ، فقال المشتري : قبلت ، فإن البيع قد انعقد ، وجرى ذلك مجرى قوله : قبلت هذا البيع ، ويجب أن يكون النكاح بمثابته ، قد زوجتكها ، فقال الزوج : قبلت أن ينعقد النكاح ، فجرى مجرى قوله : قبلت نكاحها ، فعلى هذا القول إذا جعلناه قبولا صحيحا يكون قبولا للنكاح والصداق جميعا : لأن القبول مطلق ، فرجع إلى ما تقدم من ذكر النكاح والصداق ، وخالف قوله : قبلت نكاحها ، حيث جعلناه راجعا إلى قبول النكاح الذي سماه دون الصداق الذي أغفله : لأن مع التسمية تصير تخصيصا ومع الإطلاق يكون عموما .
وإذا قيل بالقول الأول إن النكاح باطل ، وهو أصح القولين ، فدليله : ما قدمناه أن عقد النكاح لا يتم إلا بصريح اللفظ دون المعنى .
وقوله : قبلت ، فيه معنى التصريح ، وليس بصريح فينعقد به النكاح وجاز أن ينعقد به البيع : لأنه يتم بالصريح وبمعنى الصريح بخلاف النكاح ، وليس إطلاق جواب الصريح يكون صريحا في جميع الأحوال ، ألا ترى لو قالت امرأة لزوجها : طلقني ثلاثا ، فقال : نعم ، لم يكن ذلك صريحا في طلاقها ، وإن كان جوابا ، ولو قال : نعم أنت طالق لم تكن ثلاثا وإن سألته ثلاثا ، فلم يسلم الاستدلال بالبيع لما ذكرنا من الفرق بينهما ، ولا كان إطلاق الجواب كالصريح ، لما ذكرنا ، فأما إذا قرن النكاح بينهما بواسط من حاكم أو خطيب ، فقال للولي : زوجته فلانة ، فقال : نعم ، فقال الزوج : قبلت نكاحها ، فقال : نعم ، لم ينعقد النكاح قولا واحدا : لأن صريح اللفظ لم يؤخذ من واحد منهما .
وقال أبو حنيفة : ينعقد بناء على أصله واعتبارا بالبيع في ، إن البيع منعقد ، فكذلك النكاح ، وهذا خطأ لما ذكرنا من أن معنى الصريح لا يقوم في النكاح مقام الصريح ، ويقوم في البيع مقام الصريح ، ولأن النكاح لما خالف البيع في تغليظه بالولي [ ص: 161 ] خالفه في تغليظه بصريح اللفظ دون معناه ، ولأن قوله " نعم " إقرار ، وبضع المنكوحة لا يملك بالإقرار فهذا حكم عقد النكاح بالبذل والقبول . أن رجلا لو قال للبائع بعته عبدك هذا بألف ؟ فقال : نعم ، وقال للمشتري : أشتريته بالألف ، فقال : نعم