الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله - : " ويفرق ثلاثة أخماس الخمس على من سمى الله تعالى ، على اليتامى والمساكين وابن السبيل في بلاد الإسلام يحصون ، ثم يوزع بينهم لكل صنف منهم سهمه ، لا يعطى لأحد منهم سهم صاحبه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال ، وإذ قد مضى الكلام في سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذي القربى من الخمس ، انتقل الكلام إلى باقي السهام وهي ثلاثة أسهم لثلاثة أصناف : سهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لبني السبيل على ما تضمنته الآية من قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل [ الأنفال : 41 ] .

                                                                                                                                            فأما اليتامى فهم الذين مات آباؤهم وإن بقيت أمهاتهم ، فيكون اليتم بموت الآباء دون الأمهات لاختصاص الآباء بالنسب فاختصوا باليتم وسموا بذلك لغة لتفردهم بموت الآباء دون الأمهات كما يقال درة يتيمة لتفردها عن أن يكون لها نظير ، ثم يعتبر فيهم مع فقد الآباء شرطان آخران : هما الصغر والإسلام ، فأما الإسلام فيعتبر فيهم شرعا لا لغة : لأن اليتيم يعم مسلمهم ومشركهم ، إنما خص الشرع بهذا السهم من كان منهم مسلما لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه مال لله تعالى فاختص به أهل طاعته .

                                                                                                                                            والثاني : أنه مال قد ملك من المشركين فكان لغيرهم لا لهم ، وأما الصغر فكان فيهم معتبرا : لقوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتيم بعد الحلم ، لكن اختلف في هذا الشرط ، هل ثبت اعتباره شرعا أم لغة ؟ فقال بعضهم : يثبت اعتباره شرعا للخير ، وإلا فهو في اللغة ينطلق على الصغير والكبير ، وقال آخرون : بل يثبت اعتباره لغة وشرعا : لأن اسم اليتيم في اللغة موضوع لمن كان متضعفا محروما وهذا بالصغار أخص منه بالكبار ، فإذا ثبت اعتبار هذه الشروط الثلاثة في اليتامى فقد اختلف أصحابنا في اعتبار شرط رابع فيهم وهو الفقر على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما وهو مذهب الشافعي : أن الفقر شرط رابع يعتبر في استحقاقهم لهذا السهم من الخمس : لأنه مصروف في ذوي الحاجات ؛ فخرج منهم الاعتبار ، ولأنه إرفاق لمن توجه إليه المعونة والرحمة وهم الفقراء دون الأغنياء .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه لا يعتبر فيهم الفقر ، وأنه مستحق لغنيهم وفقيرهم لذوي القربى اعتبارا بمطلق الاسم : لأنهم لو اعتبر فيهم الفقر لدخلوا في جملة المساكين . ولما كان تخصيصهم بالذكر فائدة ، فعلى الوجه الأول أن الفقر فيهم معتبر يتعلق عليه ثلاثة أحكام :

                                                                                                                                            أحدها : أنه لا فرق فيهم بين من مات أبوه أو قتل : لاشتراكهم في الحاجة المعتبرة فيهم .

                                                                                                                                            [ ص: 438 ] والحكم الثاني : أنه يجوز الاقتصار على بعض اليتامى دون جميعهم كالفقراء .

                                                                                                                                            والحكم الثالث : أنه يجوز أن يجتهد الإمام برأيه في التسوية بينهم والتفضيل كالفقراء .

                                                                                                                                            وعلى الوجه الثاني أن الفقر فيهم غير معتبر يتعلق عليه ثلاثة أحكام تخالف تلك : فالحكم الأول : أنه يختص بذلك من قتل أبوه في الجهاد دون غيره رعاية لنصرة الآباء في الأبناء كذوي القربى .

                                                                                                                                            والحكم الثاني : أن يفرق في جميعهم ولا يخص به بعضهم ، فعلى قول الشافعي يفرق في أيتام جميع الأقاليم ، وعلى قول أبي إسحاق المروزي : يفرق في إقليم ذلك الثغر دون غيره من الأقاليم .

                                                                                                                                            والحكم الثالث : أنه يسوى بينهم من غير تفضيل كذي القربى وأن يسوى بين الذكور والإناث ، بخلاف ذوي القربى : لأن سهم ذوي القربى كالميراث ، ففضل فيه الذكر على الأنثى . وسهم اليتامى عطية كالوقف والوصية يسوى فيه بين الذكر والأنثى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية