الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : والدليل على أن سهم ذي القربى ثابت يستحق مع الغنى والفقر قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى [ الحشر : 7 ] فأضاف الخمس إلى خمسة أصناف بلام التمليك وجمع بينهم بواو التشريك ، فاقتضى الظاهر تساويهم بجميعهم بالأوصاف التي أضافها الله تعالى إليهم ، وهو إنما وصفهم بذي القربى فدل على استحقاقهم إياه باسم القرابة لا بالفقر ، وقال تعالى : فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل [ الروم : 38 ] قال السدي : هم ذوي القربى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم وبني المطلب .

                                                                                                                                            وروى الشافعي عن مطرف بن مازن عن معمر بن راشد عن ابن شهاب قال : أخبرني محمد بن جبير عن أبيه قال لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلت : يا رسول الله ، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما قرابتنا واحدة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد كذا ، وشبك بين أصابعه ، وفي بعض الروايات لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام .

                                                                                                                                            والدلالة في هذا الخبر من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن عثمان بن عفان وجبيرا كانا من أغنياء قريش ، سألاه لم أعطيت بني هاشم وبني المطلب وحرمتنا ، ونحن وهم في القرابة سواء ، فلم يجعل سبب المنع الغنى ؛ فدل على أن الغني فيه كالفقير .

                                                                                                                                            والثاني : أنه كان في بني هاشم وبني المطلب أغنياء وفقراء وقد أعطاهم وكان في عبد شمس أغنياء وفقراء وقد حرمهم : فدل على أنه اعتبر القرابة دون الفقر .

                                                                                                                                            فإن قيل : النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر النصرة دون القرابة : لأن هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا كانوا أخوة وكلهم بنو عبد مناف ، وقد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى ببني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس ونوفل وجميعهم في القرابة سواء ، لما قال في ضم بني المطلب إلى بني هاشم بأنهم شيء واحد ولم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام ليعلمهم أن بني عبد شمس وبني نوفل قد خالفوهم في الجاهلية والإسلام ، فدل على أن العطاء إنما كان لأجل الندرة التي ميزتهم بها دون القرابة التي قد اشتركوا فيها فاختلف أصحابنا لأجل ذلك في سبب الاستحقاق على ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : أن الاستحقاق بالقرابة وحدها دون النصرة ، ولأنه ليس للنصرة فيها تأثير : لأنه لم يذكره عثمان وجبير في طلبهما ولا ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في منعهما ودفع ذلك لمن لا نصرة [ ص: 432 ] فيه من صغير وكبير ورجل وامرأة ومنع من ظهرت من غيرهم ، وإن لم يكن من بني المطلب من قام بالنصرة مقام أبي بكر وعمر وعثمان وأبي دجانة وخالد بن الوليد ، فمنعهم وأعطى من بني المطلب من هو أقل نصرة منهم ، فدل على أنهم استحقوا ذلك بالقرابة لا بالنصرة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الاستحقاق بالقرابة والتقديم بالنصرة كما نقول في الأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب ابنهما في التعصيب بالأب سواء ، ويقدم أحدهما على الآخر للأم وإن اشتركا في التعصيب ، كذلك بني المطلب وإن شاركوا بني عبد مناف وبني نوفل في القرابة قدموا عليهم بما اختصوا به من النصرة .

                                                                                                                                            فإن قيل : فإذا كان التقديم بالنصرة فهلا زال حكمهما بزوالها وقد زالت اليوم . قيل : النصرة في الآباء أوجبت ثبوت حكمها في الأبناء كما نقول في تمييز كفرة أهل الكتاب على المشركين في قبول الجزية : إن حرمة آبائهم حين كانوا على حق أوجبت ثبوتها لأبنائهم وإن زالوا عن الحق .

                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن الاستحقاق بالقرابة وحدها والمنع مع وجودها لسبب آخر كما نقول في ابنين أحدهما قاتل أنهما وإن استويا في البنوة ، فالقاتل ممنوع بعلة ، فكذلك بنو عبد شمس وبنو نوفل وإن ساووا بني هاشم وبني المطلب في القرابة ، فقد كان منهم ما يسقط به حقهم كما يسقط حق الابن القاتل .

                                                                                                                                            فإن قيل : جبير بن مطعم راوي هذا الحديث أسلم بعد فتح خيبر ، فلم يلتفت إلى حديثه في أحكام غنائهما فعن ذلك جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لم يعين الخبر في خمس خيبر ، وقد كان بعدها غنائم يحمل خبره على خمسها .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : قد كان أكثرها فيئا فيستغل في كل عام ، فكان خمسه باقيا .

                                                                                                                                            وروي أن الفضل بن العباس استشفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعلي - رضوان الله عليهما - في عمالة الصدقات ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس فجعل لهم خمس الخمس تنزيها عما يملك بالفقر من الصدقات فلم يجز أن يستحقوه بالفقر المشروط في الصدقات ، ويدل على ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد روي على وجهين يكون في أحدهما نص مسند ، فهو ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : سمعت عليا - رضي الله عنه - يقول اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، أرأيت إن تولينا حقنا من هذا الخمس في كتاب الله فاقسمه في حياتك كي لا ينازعنا أحد بعدك فافعل ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نفعل ذلك . فولانيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمته في حياته ، ثم في ولاية أبي بكر حتى كانت آخر سنة من سني عمر ، فإنه أتاه [ ص: 433 ] مال كثير فعزل حقنا ، ثم أرسل إلي فقلت : لنا عنه العام غناء وبالمسلمين الآن حاجة فاردده عليهم ، فرده عليهم ، فلقيت العباس بعدما خرجت من عند عمر فقال : يا علي ، حرمتنا ! لا ترد علينا أبدا ، وكان رجلا داهيا فلم يدعني إليه أحد بعد عمر .

                                                                                                                                            فدل قول علي للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن رأيت أن تولينا حقنا على أنه حق يختص بهم لا يستحق بالفقر الذي هو في غيرهم .

                                                                                                                                            وأما الوجه الذي يكون إجماعا منعقدا فهو ما رواه الحكم بن عيينة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : لقيت عليا - عليه السلام - عند أحجار الركب فقلت له : بأبي وأمي ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس ؟ فقال علي : أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماس وما كان فقد أوفاناه ، وأما عمر فلم يزل يعطينا حتى جاءه مال السوس والأهواز ، أو قال مال فارس - الشافعي يشك - ، فقال عمر : إن بالمسلمين خلة ، فإن أحببتم تركتم حقكم ، فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم ، فقال العباس لعلي : لا تطمعهم في حقنا ، فقلت يا أبا الفضل ألسنا أحق من أجاب أمير المؤمنين ودفع خلة المسلمين ، فتوفي عمر قبل أن يأتيه مال فيقضيناه . فدل استنزال عمر لهم ثمنه بخلة المسلمين أنهم لم يستحقوه بالفقر الذي قد شاركوا فيه فقراء المسلمين ، ولكنه حق لهم لا يسقط بمطالبتهم ، ولا يؤخر لفقرهم وإنهم يستحقون قضاء ما أخروه من حقهم .

                                                                                                                                            وروى زيد بن هرمز أن نجدة الحروري حين حج في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى ويقول : لمن تراه ؟ قال ابن عباس : لقربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان عمر عوض من ذلك عوضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله : ولأنهم أحد أصناف أهل الخمس ، فوجب ألا يسقط حقهم منه كسائر الأصناف .

                                                                                                                                            ولأن من حرمت عليه الصدقات المفروضات في جميع الأحوال ثبت لهم سهم في الخمس كالنبي - صلى الله عليه وسلم - : ولأنهم عوضوا عن الصدقات المفروضات بخمس الخمس : لقوله - صلى الله عليه وسلم - : أوليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس ، فلما كان تحريم الصدقات عليهم ثابتا لا يزول ، كان ما عوضوه من خمس الخمس ثابتا لهم لا يزول .

                                                                                                                                            وتحريره أن ما تميز به ذوو القربى في الأموال استلزم ثبوته قياسا على تحريم الصدقات .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكن موروثا كان ساقطا ، فهو أن الميراث إذا انتفى عنه رد إلى ما قد أقيم مقامه من وجوه المصالح لقومه في حقه مقام الميراث في حق غيره ، فوجب أن يكون ذلك مصرف ماله .

                                                                                                                                            [ ص: 434 ] وأما الجواب عن قوله إن سقوط حقه من الصفي بموته يوجب سقوط حقه من غيره ، فهو أن الحق من الصفي غير مقدر ، فلا يكون ثابتا بعد موته ، وإنما كان يأخذ من الغنيمة ما شاء باختياره واختياره للصفي معدوم بعد موته فسقط بخلاف غيره .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة في سقوط سهم ذي القربى لقوله تعالى : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ الحشر : 7 ] من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه راجع إلى جميع الخمس وليس هو دولة بين الأغنياء : لأن سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل يستحق بالفقر .

                                                                                                                                            والثاني : أنه سهم ذي القربى ليست هو دولة بين الأغنياء : لأنه يشترك فيه الأغنياء والفقراء ، وما كان دولة بين الأغنياء خرج عن أن يكون فيه حق للفقراء .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلاله بحديث علي ( عليه السلام ) أنه رد سهم ذي القربى لغناهم على المسلمين لخلتهم وفقرهم فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه اختار ترك حقه ومن يترك حقه باختياره لم يدل على سقوط استحقاقه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه أخره لخلة المسلمين ليأخذ عوضه عند استغنائهم ، فكان حقه ثابتا باقيا وهو أدل شيء على ثبوت استحقاقه .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسه على الصدقات مع جواز أن يدفع من الصدقات إلى أغنياء العاملين والمؤلفة قلوبهم والغارمين فهو أن الصدقة مواساة ، فجاز أن يكون الفقراء أحق بها ، والخمس يملك من غنائم المشركين قهرا لا بالمواساة ، فجاز أن يشترك فيه الفقراء والأغنياء كالغانمين .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم عن اليتامى والمساكين فهو أن ما أخذ باسم المسكنة والفقر جاز أن يكون الفقر فيه شرطا ، وما أخذ باسم القرابة كانت القرابة شرطا فيه إذا وجدت ولم يكن الفقر شرطا ، وما أخذ باسم القرابة كانت القرابة كالميراث ، والله أعلم .

                                                                                                                                            ( قال الشافعي ) فيعطى سهم ذي القربى في ذي القربى حيث كانوا ، ولا يفضل أحد على أحد حضر القتال أو لم يحضر إلا سهمه في الغنيمة كسهم العامة ولا فقير على غني ، ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهما لأنهم أعطوا باسم القرابة ، فإن قيل : فقد أعطى بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل ؛ قيل : لأن بعضهم كان ذا ولد ، فإذا أعطاه حظه وحظ غيره فقد أعطاه أكثر من غيره ، والدلالة على صحة ما حكيت من التسوية أن كل من لقيت من علماء أصحابنا لم يختلفوا في ذلك وأن باسم القرابة أعطوا . وإن حديث جبير بن مطعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب " .

                                                                                                                                            [ ص: 435 ] قال الماوردي : وهذا صحيح وقد مضى الكلام في أن سهم ذي القربى ثابت وثبوته يقتضي إبانة أحكامهم فيه وذلك يشتمل على خمسة فصول :

                                                                                                                                            فالفصل الأول : في ذي القربى من هم ؟ وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وجميعهم بنو عبد مناف ، وكان لعبد مناف مع هؤلاء الأربعة خامس اسمه عمرو وليس له عقب ، فأما هاشم فهو جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، فهاشم في عمود الشرف الذي تعدى شرفه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أخوته ، والمطلب أخوه والشافعي من ولده ، ثم عبد شمس أخوهما وعثمان من ولده ، ثم نوفل أخوهم وجبير بن مطعم من ولده : فاختص بسهم ذي القربى بنو هاشم وبنو المطلب دون بني عبد شمس ونوفل لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام يعني أنهم كانوا متناصرين بحلف عقدوه بينهم في الجاهلية ويتميز به عن بني عبد شمس ونوفل : ولهذا الحلف دخل بنو المطلب مع بني هاشم الشعب بمكة حين دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئا كما قسم لبني هاشم وبني المطلب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية