الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الآدميون المقدور عليهم والمظفور بهم من المشركين فضربان : عبيد ، وأحرار .

                                                                                                                                            فأما العبيد فمال مغنوم .

                                                                                                                                            وأما الأحرار فضربان : ذرية ، ومقاتلة .

                                                                                                                                            فأما الذرية فهم النساء والصبيان ، ومنهم لا يصيرون بالقهر والغلبة ، مرقوقين وليس للإمام فيهم خيار وعليه أن يقسمهم بين الغانمين بعد إخراج خمسهم . وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان لكونهم مالا مغنوما ، وقسم سبي بني المصطلق بين الغانمين واصطفى صفية بنت حيي من سبي خيبر ، وقسم سبي هوازن بين الناس حتى استنزلته هوازن فنزل واستنزل .

                                                                                                                                            وأما المقاتلة فللإمام فيهم الخيار اجتهادا ونظرا بين أربعة أشياء ومنها ما رآه صالحا :

                                                                                                                                            أحدهما : القتل .

                                                                                                                                            والثاني : الاسترقاق .

                                                                                                                                            والثالث : الفداء بمال أو رجال .

                                                                                                                                            والرابع : المن ، فإن كان ذا قوة يخاف شره ، أو ذا رأي يخاف مكره قتله ، وإن كان مهينا ذا كد وعمل استرقه ، وإن كان ذا مال فاداه بمال ، وإن كان ذا جاه فاداه بمن في أيديهم من الأسرى ، وإن كان ذا خير ورغبة في الإسلام من عليه وأطلقه من غير فداء . فيكون خيارا للإمام أو أمير الجيش ، فمن أسر من المشركين بين هذه الأربعة الأشياء بين القتل أو الاسترقاق أو الفداء بمال أو رجال أو المن .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : هو بالخيار بين شيئين : القتل ، أو الاسترقاق وليس له الفداء والمن .

                                                                                                                                            وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد : هو بالخيار بين ثلاثة أشياء : بين القتل ، أو الاسترقاق ، أو الفداء برجال ، وليس له الفداء بمال ولا المن . ونحن ندل على كل واحد من ذلك على انفراده .

                                                                                                                                            أما القتل فالدليل على جوازه قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ التوبة : 5 ] وقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأسرى أربعة أنفس صبرا ، ومنهم أبو عزة الجمحي وعقبة بن أبي معيط وابن خطل وابن النضر بن الحارث ، فأما أبو عزة الجمحي فإنه أسر يوم بدر فقال : يا محمد من علي ، فمن عليه ، فلما عاد إلى مكة قال سخرت بمحمد ، وعاد لقتاله يوم أحد ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اللهم أوقع أبا عزة ، فلما أسر أتي به فقال : [ ص: 409 ] يا محمد من علي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أمن عليك حتى تأتي مكة فتقول في نادي قريش : سخرت من محمد مرتين ؛ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ، اقتلوه ، فقتل .

                                                                                                                                            وأما عقبة بن أبي معيط فلما أسر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله ، فقال من المصيبة ، فقال : النار ، وأما ابن خطل فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة عام الفتح أباح دم ستة هو منهم ، فتعلق بأستار الكعبة : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعلق بأستار الكعبة فهو آمن وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى الستة وقال : اقتلوهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة ، فلما أقر بذلك قال اقتلوه فقتل .

                                                                                                                                            وأما النضر بن الحارث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتله حين أسر فقتل ، فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم -مكة عام الفتح استقبلته قتيلة بنت النضر بن الحارث وأنشدته :


                                                                                                                                            أمحمد ولدتك خير نجيبة من قومها والفحل فحل معرق     ما كان ضرك لو مننت وربما
                                                                                                                                            من الفتى وهو المغيظ المحنق     فالنضر أقرب من تركت قرابة
                                                                                                                                            وأحقهم إن كان عتق يعتق



                                                                                                                                            فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - لو سمعت شعرها ما قتلته .


                                                                                                                                            فهذا دليل على جواز قتل الأسرى من المشركين .

                                                                                                                                            وأما الدليل على جواز استرقاقهم فقوله تعالى : حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق وفي الآية تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : إذا أثخنتموهم بالظفر فشدوا الوثاق بالأسر .

                                                                                                                                            والثاني : إذا أثخنتموهم بالأسر فشدوا الوثاق بالاسترقاق . وقد استرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبي بني قريظة وهوازن ورجلا من بني عقيل ، فقال له قد أسلمت ، فقال : لو أسلمت قبل هذا لكنت قد أفلحت كل الفلاح .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية