الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما ما لا ينفل من الدور والأرضين فحكمه عندنا حكم الأموال المنفولة ، يكون خمسه لأهل الخمس ، وتقسم أربعة أخماسه بين الغانمين .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : الإمام في الأرضين مخير بين ثلاثة أشياء ، بين أن يقسمها على الغانمين ، أو يقسمها على المسلمين ، أو يقرها في أيدي أهلها المشركين بخراج يضربه عليها وجزية على رقاب أهلها ، تصير خراجا بعد إسلامهم لا تسقط عن رقابهم .

                                                                                                                                            وقال مالك : قد صارت بالغلبة وقفا على المسلمين . فأما أبو حنيفة فاستدل بما روي عن عمر بن الخطاب لما فتح أرض السواد ، أراد أن يقسمه بين الغانمين ، فشاور علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهما - فقال دعها تكون عدة للمسلمين ، فتركها ولم يقسمها وضرب عليها خراجا وروي أنه لما فتحت مصر وكان الأمير عمرو بن العاص ، قال له الزبير اقسمها بين الغانمين ، فقال : لا حتى أكتب إلى عمر ، فكتب إليه فأجابه عمر دعها حتى يغدو [ ص: 406 ] فيهما حبل الحبلة ، ولأنه لما جاز أن يصالحهم على خراجها قبل القدرة ، جاز أن يكون مخيرا فيها بعد القدرة كالرقاب .

                                                                                                                                            وأما مالك فاستدل بقوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ الحشر : 15 ] ، فكان هذا الدعاء منهم لأجل ما انتقل إليهم من فتوح بلادهم التي استبقوها وقفا عليهم ، وبما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عنوة فلم يقسمها وقسم غنائم هوازن ولم يقسم أرضهم : فدل على أن الأرض تصير وقفا لا يجوز أن تقسم ، ولأن الغنائم كانت على عهد من سلف من الأنبياء تنزل نار من السماء تأكلها ؛ فأحلها الله تعالى بعدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمته ، والنار إنما تختص بأكل المنقول دون الأرضين فدل على اختصاص المنقول بالغنيمة المستباحة دون الأرضين .

                                                                                                                                            والدلالة عليها عموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول [ الأنفال : 41 ] وروى مجمع بن جارية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم خيبر بين الغانمين على ثمانية عشر سهما ؛ وذلك أن الغانمين كانوا ألفا وأربعمائة ، منهم مائتا فارس أعطى كل فارس ثلاثة أسهم ، فكان لهم ستمائة سهم ولألف ومائتي رجل ألف ومائتا سهم : صارت جميع السهام ألفا وثمانمائة سهم فقسمها على ثمانية عشر منهم وأعطى كل مائة سهما ، ولذلك روي أن عمر - رضي الله عنه - ملك مائة سهم من خيبر ابتاعها وقال لرسول الله إني قد أصبت ما لم أصب قط مثله وقد أحببت أن أتقرب إلى الله تعالى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس الأصل وسبل الثمرة : فدلت قسمتها وابتياع عمر لها لمائة سهم منها على أنها طلق مملوك ومال مقسوم .

                                                                                                                                            وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على بني قريظة ، فقسم عقارهم من الأرضين والنخيل قسمة الأموال .

                                                                                                                                            وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : عصبة الله ورسوله فخمسها لله ورسوله ، ثم هي لكم مني إنما قربة ، ولأنه مال مغنوم ، فوجب أن يقسم كالمنفول ، ولأن ما استحق به قسمة المنفول استحق به قسمة غير المنفول كالميراث .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة أن عمر - رضي الله عنه - شاور عليا - عليه السلام - في قسم السواد ، فأشار عليه بالترك ، فهو أن عمر - رضي الله عنه - قسم أرض السواد بين الغانمين ، وأشغلوه أربع سنين ، ثم رأى أن الغانمين قد تشاغلوا به عن الجهاد : فاستنزلهم عنه فنزلوا : وترك جرير بن عبد الله البجلي وأكثر قومه وكانت نخيله ربع الناس ، فأبت طائفة منهم أن [ ص: 407 ] ينزلوا فعاوضهم عنه ، وجاءته أم كرز فقالت : إن أبي شهد القادسية وإنه مات ، ولا أنزل عن حقي إلا أن تركبني ناقة زلولا عليها قطيفة حمراء ، وتملأ كفي ذهبا ، ففعل حتى نزلت عن حقها ، وكان قدر ما ملئ به كفها ذهبا نيفا وثمانين مثقالا . فلولا أن قسمة ذلك واجبة ، وأن أملاك الغانمين عليها مستقرة ؛ لما استنزلهم عنها بطيب نفس ومعاوضة . فلما صارت للمسلمين شاور عليا فيها ، فقال : دعها تكون عدة لهم ، فوقفها عليهم وضرب عليها خراجا هو عند الشافعي أجرة وعند أبي العباس بن سريج ثمن . وأما أرض مصر فبعض فتوحها عنوة وبعضها صلحا ، ولم يتعين نزاع عمرو والزبير في أحدهما ولم يكن فيه دليل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسه عن الرقاب فهو أنه منتقض بالمنفول ، فإن عمر صالح نصارى العرب على مضاعفة الصدقة على مواشيهم وزروعهم وسائر أموالهم ؛ وكان ذلك خراجا باسم الصدقة ، ثم لا يمنع ذلك من وجوب قسمه في الغنيمة كذلك الأرضون ، ثم لو سلم من هذا النقص لكان المعنى في الرقاب أنها ليست في وقت خيار الإمام فيها مالا ، وإنما يصير بالاسترقاق مالا وليس للإمام بعد الاسترقاق خيار .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلال مالك بقوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم [ الحشر : 10 ] ، فهو أن هذا منهم لم يتعين أنه للمعنى الذي ادعاه وقد يكون ذلك منهم لتمهيد الأرض لهم وإزالة المشركين عنهم ونصرة الدين بجهادهم ، ثم بما صار إليهم من بلاد الفيء ومواريث العنوة .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن فتح مكة فهو أن مكة فتحت عندنا صلحا ، فالكلام في فتحها يأتي ، وأما أرض هوازن فلم تغنم لأن قتالهم لم يكن فيها ، وإنما قوتلوا بعد خروجهم منها إلى حنين وأحرزوا أموالهم في أوطاس ، فلما أظفر الله تعالى بهم وغنمت أموالهم وسبيت ذراريهم ، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلون إليه بحرمة الرضاع : لأن حليمة مرضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت من هوازن ، وقالوا لو كنا ملحنا للحارث بن أبي شمر ونزلنا معه منزلنا منك لوعى ذاك ، وأنت خير الكفيلين .

                                                                                                                                            وقولهم ملحنا : أي : رضعنا ، وأنشد شاعرهم :


                                                                                                                                            امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر     امنن على نسوة قد كنت ترضعها
                                                                                                                                            إذ فوك تملؤه من محضها الدرر



                                                                                                                                            فقال : اختاروا أموالكم أو ذراريكم ، فقالوا : خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا فنختار أحسابنا على أموالنا ، فقال : أما ما كان لي ولبني هاشم فلله ولكم ، وقال المهاجرون والأنصار : وأما ما لنا فلله ولرسوله ولكم فانكفوا إلى ديارهم التي لا تملك عليهم آمنين وقد أسلموا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بأكل النار المنفول دون الأرضين ، فكان هو المغنوم ، فهو [ ص: 408 ] أنه استدلال ركيك وضعه إسماعيل بن إسحاق القاضي ، ثم فيه دليل على أن الأرض لم تكن تحل للأنبياء من قبل ، فوجب أن تحل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - لقوله : أعطيت ما لم يعط نبي من قبلي : أحلت لي الغنائم على أن النار لا تأكل الفضة ، والذهب . ولا يمنع ذلك من أن تكون غنيمة مقسومة كذلك الأرض .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية