الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فإذا تقرر جواز الاستثناء من جنس وغير جنس ، فألفاظ الاستثناء إلا وغير ، وعدا ، وخلا ، وما خلا ، وحاشا وجميعها في الحكم وصحة الاستثناء واحد .

                                                                                                                                            فأما إذا قال له : علي ألف أستثني مائة ، أو أحط مائة ، أو أندر مائة فقد اختلف أصحابنا :

                                                                                                                                            هل يكون ذلك استثناء صحيحا أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يكون استثناء صحيحا ؛ لأنه قد صرح بحكمه فأغنى عن لفظه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يصح الاستثناء به ؛ لأنه موعد بالاستثناء كما إذا قال : أستثني ، أو أحط بغير الاستثناء إذا قال أحط ، أو أندر .

                                                                                                                                            ثم لا يصح الاستثناء إلا أن يكون متصلا ، فإن انفصل بطل لاستقرار الحكم الأول . ولا يخلو إذا اتصل من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            إما أن يرفع كل الجملة .

                                                                                                                                            أو يرفع أقلها .

                                                                                                                                            أو يرفع أكثرها .

                                                                                                                                            فإن رفع كل الجملة كان باطلا كقوله : علي ألف إلا ألفا ؛ لأن هذا رجوع وليس باستثناء .

                                                                                                                                            وإن رفع الأقل صح كقوله : ألف إلا مائة ، أو إلا أربعمائة فيصير الباقي من الألف بعد الاستثناء أربعمائة أكثر الألف ، هو ستمائة ، ويكون هذا المراد بالإقرار ، ولا يكون ما خرج بالاستثناء مرادا باللفظ وجرى مجرى قوله : له علي ستمائة درهم .

                                                                                                                                            ألا ترى - قوله تعالى - : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما [ العنكبوت : 14 ] .

                                                                                                                                            وإن رفع الأكثر كقوله : ألف إلا تسعمائة ، أو إلا ستمائة ، فالذي عليه الفقهاء وأكثر أهل اللغة أنه استثناء صحيح حتى لو بقي من الألف بعد الاستثناء درهم صح .

                                                                                                                                            [ ص: 21 ] قال ابن درستويه النحوي : لا يجوز الاستثناء إلا أن يبقى أكثر من نصف الجملة لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الاستثناء لغة يوجد سماعا ، ولم يرد استثناء أكثر الجملة كما لم يرد استثناء كل الجملة .

                                                                                                                                            والثاني : أن الاستثناء تبع لباقي الجملة فلم يجز أن يكون أكثر منها ؛ لأن الأكثر لا يكون تبعا للأقل .

                                                                                                                                            وهذا خطأ ، قال الله تبارك وتعالى : قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ الحجر : 39 - 42 ] .

                                                                                                                                            فاستثنى الغاوين من المخلصين تارة ، والمخلصين من الغاوين أخرى ، وإحدى الطائفتين أكثر من الأخرى فدل على جواز استثناء الأكثر ، ولأن استثناء الأكثر موجود في كلامهم وظاهر في أشعارهم . قال الشاعر :


                                                                                                                                            ردوا التي نقصت تسعين عن مائة ثم ابعثوا حكما بالحق قوالا



                                                                                                                                            ولأن الخارج بالاستثناء غير داخل في اللفظ ، ولا مراد به فاستوى حكم قليله وكثيره ، وإذا كان كذلك وقال : له علي ألف إلا تسعمائة صح ، وكان المراد باللفظ مائة ، وجرى مجرى قوله : له علي مائة .

                                                                                                                                            فلو قال : له علي ألف ، وألف ، وألف إلا ألفا ، ففي صحة الاستثناء وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه باطل ؛ لأنه استثنى ألفا من الألف فبطل ولزمه ثلاثة آلاف .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : صحيح ؛ لأن إقراره بثلاثة آلاف وإن كان بثلاثة ألفاظ فصح أن يستثني منها ألفا ويبقى عليه ألفان ، وهكذا يصح أن يستثني ألفين ؛ لأنه يعود إلى كل الجملة ، ويبقى عليه ألف .

                                                                                                                                            ومثله في الطلاق أن يقول لها : أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا واحدة فيكون على هذين الوجهين .

                                                                                                                                            [ ص: 22 ] ويجوز أن يتعاقب الاستثناء بعده استثناء ثان ، ويتعقب الثاني ثالث ، ويتعقب الثالث رابع إلا أن كل استثناء يعود إلى ما يليه فيثبت ضد حكمه ؛ لأن الاستثناء إن عاد إلى إثبات كان نفيا وإن عاد إلى نفي كان إثباتا ألا تراه لو قال : رأيت أهل البصرة إلا بني تميم كان ينفي رؤية بني تميم مثبتا لرؤية أهل البصرة .

                                                                                                                                            وقد جاء كتاب الله تعالى بذلك في - قوله تعالى - : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته [ الحجر : 58 - 61 ] فاستثنى آل لوط من المجرمين ثم استثنى امرأته من آل لوط .

                                                                                                                                            فإذا قال : علي ألف إلا خمسمائة إلا ثلاثمائة إلا مائتين إلا مائة كان هذا إقرارا بسبعمائة ؛ لأن قوله : علي ألف إثبات لها ثم إلا خمسة نفي لها من الألف ، فيبقى منها خمسمائة ، ثم قوله إلا ثلاثة إثبات لها من الخمسمائة التي نفاها ، فيضم إلى المثبت فتصير ثمانمائة ثم قوله إلا مائتين نفي لها من الثلاثمائة التي أثبتها ، فتخرج من المثبت فيبقى ستمائة ، ثم قوله إلا مائة إثبات لها من المائتين التي نفاها فتضم إلى الباقي من الإثبات وهو ستمائة درهم فيصير الإقرار بسبعمائة ؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين إثباتين ، ولا بين نفيين ولكن لو قال له : علي ألف إلا مائتين ، وإلا مائة كانا جميعا نفيا من الألف ؛ لأنه جمع بينهما بواو العطف فلم يعد أحدهما إلى الآخر وعاد جميعا إلى الجملة .

                                                                                                                                            فأما إذا قال : له علي ألف إلا ألف إلا مائة ، ففيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                            أحدها : يكون عليه ألف .

                                                                                                                                            والثاني : يكون عليه تسعمائة .

                                                                                                                                            والثالث : يكون عليه مائة .

                                                                                                                                            فإذا قلنا : إن عليه ألفا فوجهه أن الاستثناء الأول رفع جميع الجملة فبطل ، والاستثناء الثاني رجع إلى استثناء باطل فبطل فلزمه آلاف لبطلان الاستثناء منها .

                                                                                                                                            فإذا قلنا : يلزمه تسعمائة فوجهه أن الاستثناء الأول بطل لرفعه الجملة فأقيم الثاني مقامه وهو مائة فصار الباقي من الألف تسعمائة .

                                                                                                                                            وإذا قلنا : يلزمه مائة فوجهه أن الاستثناء الأول إنما يرفع الجملة إذا لم يعقبه استثناء ، فإذا يعقبه استثناء مائة صار الباقي من الاستثناء الأول تسعمائة فإذا رجعت إلى الألف كان الباقي منها مائة .

                                                                                                                                            [ ص: 23 ] ومثله في الطلاق أن يقول : أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة فيكون على الأوجه الثلاثة .

                                                                                                                                            فلو قال : له علي ألف درهم ومائة دينا إلا خمسين فأراد بالخمسين المستثناة جنسا غير الدراهم ، والدنانير قبل منه . وإن أراد أحد الجنسين من الدراهم ، أو الدنانير ، أو هما قبل منه . وإن فات بيانه فعند أبي حنيفة يعود إلى ما يليه . وعندنا أنه يعود إلى المالين المذكورين من الدراهم ، والدنانير ، ثم على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يعود إلى كل واحد منهما جميع الاستثناء فيستثنى من الألف درهم خمسون ومن المائة دينار خمسون .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يعود إليهما نصفين فيستثنى من الدراهم خمسة وعشرون ومن الدنانير خمسة وعشرون .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية