الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : " وأصل الحنطة والتمر الكيل فلا يجوز أن يباع الجنس الواحد بمثله وزنا بوزن ، ولا وزنا بكيل : لأن الصاع يكون وزنه أرطالا وصاع دونه أو أكثر منه ، فلو كيلا كان صاع بأكثر من صاع كيلا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            كل شيء فيه الربا إذا بيع بجنسه فالاعتبار في تماثله بالكيل والوزن عادة أهل الحجاز في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن كان بالحجاز في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أصله الكيل ، فلا يجوز أن يباع بعضه ببعض إلا كيلا .

                                                                                                                                            وما كان موزونا كان أصله الوزن ، فلا يجوز أن يباع بعضه ببعض إلا وزنا ، ولا اعتبار بعادة غير أهل الحجاز ولا بما أحدثه أهل الحجاز بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                            وقال مالك : يجوز أن يباع ما كان مكيلا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزنا بوزن ، كالتمر الذي قد جرت عادة أهل البصرة ببيعه وزنا ، ولا يجوز أن يباع ما كان موزونا كيلا بكيل . وقال أبو حنيفة : أما الأربعة المنصوص عليها فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلا كيلا بكيل .

                                                                                                                                            ولا اعتبار بما أحدثه الناس من بعد ، وأما ما سوى الأربعة فالاعتبار فيها بعادة الناس في بلدانهم وأزمانهم ولا اعتبار بالحجاز ولا بما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                            فأما مالك فاستدل على ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه " نهى عن بيع البر بالبر إلا مثلا بمثل " . والتماثل معلوم بالوزن كما هو معلوم بالكيل .

                                                                                                                                            قال : ولأن الوزن أخص من الكيل ، فلذلك جاز بيع المكيل وزنا ، ولم يجز بيع الموزون كيلا .

                                                                                                                                            وأما أبو حنيفة فاستدل بأن الأربعة منصوص على الكيل فيها فلم يجز مخالفة النص ، وما سوى الأربعة فالاعتبار فيه بالعادة .

                                                                                                                                            وعادة أهل الوقت أولى أن تكون معتبرة من أوقات سالفة وبلا مخالفة : لأن التفاضل موجود بمقادير الوقت .

                                                                                                                                            والدلالة على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلا بكيل يدا بيد " . فنص على التساوي بالكيل فاقتضى ألا يعتبر فيه التساوي بالوزن : لأنه قد يخالف ما أمر به من الكيل ، ولأنه قد يتساوى البر بالبر كيلا ويتفاضلان وزنا ، كما أنهما قد يتساويان وزنا [ ص: 107 ] ويتفاضلان كيلا ، والتفاضل فيه محرم ، فلو اعتبر التساوي بالوزن : لأنه أخص لاقتضى ألا يعتبر التساوي بالكيل لأنه ليس أخص .

                                                                                                                                            ولأنه ربما أدى إلى التفاضل في الوزن الذي هو أخص ، فلما جاز اعتبار التساوي فيه بالكيل وإن جاز التفاضل في الوزن ، وجب ألا يجوز اعتبار التساوي بالوزن لجواز التفاضل في الكيل ، ولو كان مخيرا في اعتبار التساوي فيه بالكيل والوزن لكان مخيرا بين أن يجري عليه حكم التماثل فيحل أو يجري عليه حكم التفاضل فيحرم . وهذا متناقض .

                                                                                                                                            وأما أبو حنيفة فالدلالة عليه ما روى طاوس عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " المكيال مكيال أهل المدينة ، والوزن وزن أهل مكة " .

                                                                                                                                            وليس هذا القول إخبارا منه بانفراد المدينة بالمكيال ومكة بالميزان : لأن مكيال غير المدينة وميزان غير مكة يجوز التبايع به ، واعتبار التماثل فيه ، فعلم أن مراده عادة أهل المدينة فيما يكيلونه وعادة أهل مكة فيما يزنونه .

                                                                                                                                            ولأنه لو أحدث الناس عادة في الدراهم والدنانير أن يتبايعوها عددا لم يجز أن يكون العدد معتبرا في بعضها ببعض اعتبارا بما كانت عليه في الحجاز من قبل .

                                                                                                                                            وكذا الأربعة التي قد ورد فيها النص ، لو خالف الناس فيها العادة لم يجز أن يكون الحادث رافعا لسالف العادة ، فوجب أن يكون ما سوى ذلك معتبرا في تماثله بسالف العادة .

                                                                                                                                            وتحرير ذلك علة أنه جنس يحرم فيه التفاضل فوجب أن يكون اعتبار التماثل فيه بالمقدار المعهود على زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالذهب والفضة والأشياء الأربعة .

                                                                                                                                            وهذه علة تعم مالكا وأبا حنيفة وفيها انفصال عما استدلا به .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن اعتبار المكيل والموزون بما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكيلا أو موزونا لم يخل حال الجنس الذي فيه الربا من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون معروف الحال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مجهول الحال .

                                                                                                                                            فإن كان معروف الحال راعيت فيه ما عرف من حاله ، فإن كان مكيلا جعلت الكيل فيه أصلا ومنعت من بيعه وزنا ، وإن كان موزونا جعلت الوزن فيه أصلا ومنعت من بيعه كيلا .

                                                                                                                                            فعلى هذا قد كانت الحبوب على عهده مكيلة ، والأدهان مكيلة ، والألبان مكيلة ، وكذلك التمر والزبيب وإن كان مجهول الحال أو كان من مأكل غير الحجاز راعيت فيه عرف أهل الوقت في أغلب البلاد فجعلته أصلا .

                                                                                                                                            فإن كان العرف وزنا جعلت أصله الوزن ، وإن كان العرف كيلا جعلت أصله كيلا .

                                                                                                                                            [ ص: 108 ] وإن لم يكن للناس فيه عرف غالب ، فكانت عادتهم تستوي في كيله ووزنه ، فقد اختلف فيه أصحابنا على أربعة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : تباع وزنا : لأن الوزن أخص .

                                                                                                                                            والثاني : تباع كيلا : لأن الكيل في المأكولات نص .

                                                                                                                                            والثالث : أنه يعتبر بأشبه الأشياء به مما عرف حاله على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيلحق به : لأن الأشباه متقاربة .

                                                                                                                                            والرابع : أنه مخير فيه بين الوزن والكيل لاستواء العرف فيه . .

                                                                                                                                            فصل : إذا كانت ضيعة أو قرية يتساوى طعامها في الكيل والوزن ، ولا يفضل بعضه على بعض بما قد عرف من حاله أن التماثل فيه بالكيل ، فقد اختلف أصحابنا - هل يجوز بيع بعضه ببعض وزنا ؟ - على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز : لما فيه من مخالفة النص وتغيير العرف .

                                                                                                                                            والثاني : يجوز ، ويكون الوزن فيه نائبا عن الكيل للعلم بموافقته ، كما كان مكيال العراق نائبا عن مكيال الحجاز لموافقته في المساواة بين المكيلين .

                                                                                                                                            فصل : إذا تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام جزافا ، ثم كيلا من بعد فوجدتا سواء ، كان البيع باطلا : لأن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل ، ولو تبايعا على المكايلة والمماثلة صح البيع .

                                                                                                                                            فإن كانتا سواء لزم العقد ولا خيار لواحد منهما ، ولو فضلت إحدى الصبرتين على الأخرى ، ففيه قولان :

                                                                                                                                            أحدهما : بطلان العقد : لأن العقد يتناول جميع الصبرتين مع ظهور التفاضل .

                                                                                                                                            والقول الثاني : جواز العقد : لاشتراط التماثل . فعلى هذا يأخذ صاحب الفضل زيادته ويكون لصاحب الصبرة الناقصة الخيار في فسخ البيع لتفريق الصفقة أو إمضاء البيع بمثل صبرته .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية