الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " وقال عمر لكعب في جرادتين ما جعلت في نفسك ؟ قال درهمين ، قال بخ درهمان خير من مائة جرادة افعل ما جعلت في نفسك ، وروي عنه أنه قال في جرادة تمرة ، وقال ابن عباس في جرادة تصدق بقبضة طعام وليأخذن بقبضة جرادات فدل ذلك على أنهما رأيا في ذلك القيمة فأمرا بالاحتياط " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح ، الجراد من صيد البر حرام على المحرم ، وهو مضمون بالجزاء .

                                                                                                                                            وقالت طائفة : هو من صيد البحر من بئر جوث ، ولا جزاء فيه ، وبه قال من الصحابة أبو سعيد الخدري ، ومن التابعين عروة بن الزبير .

                                                                                                                                            ومن الفقهاء داود بن علي الظاهري استدلالا برواية أبي المهزم عن أبي هريرة قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة فلقينا رجلا من جراد فجعلنا نقتلهم بسياطنا وعصينا فأسقط في أيدينا ، وقلنا : ما صنعنا ونحن محرمون ، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا بأس ، صيد البحر فلما جعله النبي صلى الله عليه وسلم من صيد البحر علم أنه لا جزاء فيه ، كما لا جزاء في صيد البحر : ولأن الجراد كصيد البحر في أنه مأكول ميتا فوجب أن يكون كصيد البحر في أنه غير مضمون بالجزاء .

                                                                                                                                            والدلالة عليهم : رواية أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن مريم بنت عمران سألت ربها أن يطعمها لحما لا دم فيه ، فأطعمها الجراد ، فقالت : اللهم أعشه بغير رضاع ، وتابع بيته بغير شياع .

                                                                                                                                            [ ص: 333 ] قال ابن قتيبة : الشياع دعاء الداعي ، أي : يتابع بيته في الطيران : لأنه منع بعضه بعضا ، ويأتلف من غير أن يشايع كما تشايع الغنم ، فهذا الحديث يدل على أنه من صيد البر من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنها سألت ربها أن يطعمها لحما لا دم فيه ، وقد علمت أن صيد البحر لا دم فيه ، فأطعمها الجراد ، وليس في صيد البر لحم لا دم فيه سوى الجراد .

                                                                                                                                            والثاني : قول مريم : اللهم أعشه بغير رضاع ، وتابع بيته بغير شياع ، فدعت ربها أن يخصه بذلك بعد أن لم يكن مخصوصا ، فعلم أنه كان قبل دعوتها يعيش برضاع ، ولا يجتمع بغير شياع ، وذلك " من صفات صيد البر : ولأن صيد البحر : ما كان عيشه في البحر ، وعيش الجراد في البر ، وموته في البحر ، فعلم أنه من صيد البر دون البحر ، وإذا كان هكذا وجب فيه الجزاء : لقوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] ، وروى يوسف بن ماهك عن عبد الله بن أبي عمار أخبره أنه أقبل مع معاذ بن جبل وكعب الأحبار في أناس محرمين من بيت المقدس بغمرة ، حتى إذا كنا ببعض الطريق ، وكعب على نار يصطلي مر به رجل من جراد ، فأخذ جرادتين فقتلهما ونسي إحرامه ، ثم ذكر إحرامه فألقاهما ، فلما قدمنا المدينة قص كعب قصة الجرادتين على عمر فقال : ما جعلت في نفسك ، قال : درهمين ، قال عمر : بخ درهمان خير من مائة جرادة ، فدل حديث كعب على جواز الإحرام قبل الميقات ، وأن قاتل الصيد ناسيا كالعامد ، وأن الجراد من صيد البر ، وأنه مضمون بالجزاء وأن فيه قيمته : لأنه صيد مأكول يأوي البر .

                                                                                                                                            فوجب أن يكون مضمونا بالجزاء كسائر القيود ، فأما استدلالهم بالخبر فضعيف : لأن أبا المهزم مجهول ، وأما جواز أكلها بعد الموت فلا يمنع من اختلاف حكمها في الحياة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية