الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        118 - الحديث الثامن : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما [ ص: 304 ] عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { من أكل ثوما أو بصلا . فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا . وليقعد في بيته . وأتي بقدر فيه خضرات من بقول . فوجد لها ريحا ، فسأل ؟ فأخبر بما فيها من البقول . فقال : قربوها إلى بعض أصحابي . فلما رآه كره أكلها . قال : كل . فإني أناجي من لا تناجي } .

                                        التالي السابق


                                        الكلام عليه من وجوه :

                                        أحدها : هذا الحديث صريح في التخلف عن الجماعة في المساجد بسبب أكل هذه الأمور . واللازم عن ذلك أحد أمرين : إما أن يكون أكل هذه الأمور مباحا ، وصلاة الجماعة غير واجبة على الأعيان ، أو تكون الجماعة واجبة على الأعيان ، ويمتنع أكل هذه الأشياء إذا آذت ، إن حملنا النهي عن القربان على التحريم ، وجمهور الأمة : على إباحة أكلها . لقوله عليه السلام { ليس لي تحريم ما أحل الله ، ولكني أكرهه } ولأنه علل بشيء يختص به . وهو قوله عليه السلام { فإني أناجي من لا تناجي } ويلزم من هذا : أن لا تكون الجماعة في المسجد واجبة على الأعيان . وتقريره : أن يقال : أكل هذه الأمور جائز بما ذكرناه . ومن لوازمه : ترك صلاة الجماعة في حق آكلها للحديث . ولازم الجائز جائز . فترك الجماعة في حق آكلها جائز . وذلك ينافي الوجوب عليه ونقل عن أهل الظاهر - أو بعضهم - تحريم أكل الثوم ، بناء على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان . وتقرير هذا ، أن يقال : صلاة الجماعة واجبة على الأعيان . ولا تتم إلا بترك [ ص: 305 ] أكل الثوم لهذا الحديث . وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . فترك أكل الثوم واجب .

                                        الثاني : قوله " مسجدنا " تعلق به بعضهم في أن هذا النهي مخصوص بمسجد الرسول . وربما يتأكد ذلك بأنه كان مهبط الملك بالوحي . والصحيح المشهور خلاف ذلك ، وأنه عام لما جاء في بعض الروايات . " مساجدنا " ويكون " مسجدنا " للجنس ، أو لضرب المثال . فإن هذا النهي معلل : إما بتأذي الآدميين ، أو بتأذي الملائكة الحاضرين . وذلك يوجد في المساجد كلها .

                                        الثالث : قوله " وأتي بقدر فيه خضرات " قيل إن لفظة " القدر " تصحيف . وأن الصواب " ببدر " بالباء . والبدر الطبق . وقد ورد ذلك مفسرا في موضع آخر ، ومما استبعد به لفظة " القدر " أنها تشعر بالطبخ ، وقد ورد الإذن بأكلها مطبوخة . وأما " البدر " الذي هو الطبق : فلا يشعر كونها فيه بالطبخ . فجاز أن تكون نيئة . فلا يعارض ذلك الإذن في أكلها مطبوخة . بل ربما يدعى . أن ظاهر كونها في الطبق : أن تكون نيئة .

                                        الرابع قوله " قربوها إلى بعض أصحابه " يقتضي ما ذكرناه من إباحة أكلها وترجيح مذهب الجمهور . الخامس : قد يستدل به على أن أكل هذه الأمور من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة ، وقد يقال إن هذا الكلام خرج مخرج الزجر عنها ، فلا يقتضي ذلك : أن يكون عذرا في ترك الجماعة ، إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة ، ويبعد هذا من وجه تقريبه إلى بعض أصحابه . فإن ذلك ينافي الزجر ، وأما حديث جابر الأخير وهو :

                                        119 - الحديث التاسع : عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { من أكل الثوم والبصل والكراث فلا يقربن مسجدنا . فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنسان } .



                                        وفي رواية " بنو آدم " [ ص: 306 ] ففيه زيادة " الكراث " وهو في معنى الأول . إذ العلة تشمله . وقد توسع القائسون في هذا ، حتى ذهب بعضهم إلى أن من به بخر ، أو جرح منه ريح يجرى هذا المجرى ، كما أنهم توسعوا ، وأجروا حكم المجامع التي ليست بمساجد - كمصلى العيد ، ومجمع الولائم - مجرى المساجد لمشاركتها في تأذي الناس بها . وقوله عليه السلام " فإن الملائكة تتأذى " إشارة إلى التعليل بهذا . وقوله في حديث آخر " يؤذينا بريح الثوم " يقتضي ظاهره : التعليل بتأذي بني آدم . ولا تنافي بينهما . والظاهر : أن كل واحد منهما علة مستقلة .




                                        الخدمات العلمية