الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        109 - الحديث الثالث : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال { أقبلت راكبا على حمار أتان ، وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار . مررت بين يدي [ ص: 286 ] بعض الصف فنزلت ، فأرسلت الأتان ترتع . ودخلت في الصف ، فلم ينكر ذلك علي أحد } .

                                        التالي السابق


                                        قوله " حمار أتان " فيه استعمال لفظ " الحمار " في الذكر والأنثى ، كلفظ " الشاة " ولفظ " الإنسان " وفي رواية مسلم { على أتان } ولم يذكر لفظة " حمار " . وقوله : " ناهزت الاحتلام " أي قاربته . وهو يؤنس لقول من قال : إن ابن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ، وقول من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم مات وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة ، خلافا لمن قال غير ذلك مما لا يقارب البلوغ . ولعل قوله " قد ناهزت الاحتلام " ههنا تأكيد لهذا الحكم . وهو عدم بطلان الصلاة بمرور الحمار . لأنه استدل على ذلك بعدم الإنكار . وعدم الإنكار على من هو في مثل هذا السن أدل على هذا الحكم . لأنه لو كان في سن الصغر وعدم التمييز - مثلا - لاحتمل أن يكون عدم الإنكار عليه لعدم مؤاخذته بسبب صغر سنه وعدم تمييزه . وقد استدل ابن عباس بعدم الإنكار عليه ، ولم يستدل بعدم استئنافهم للصلاة .

                                        لأنه أكثر فائدة . فإنه إذا دل عدم إنكارهم على أن هذا الفعل غير ممنوع من فاعله ، دل ذلك على عدم إفساد الصلاة ، إذ لو أفسدها لامتنع إفساد صلاة الناس على المار . ولا ينعكس هذا . وهو أن يقال : ولو لم يفسد لم يمتنع على المار ، لجواز أن لا تفسد الصلاة ويمتنع المرور ، كما تقول في مرور الرجل بين يدي المصلي ، حيث يكون له مندوحة : إنه ممتنع عليه المرور ، وإن لم يفسد الصلاة على المصلي . فثبت بهذا أن عدم الإنكار دليل على الجواز . والجواز دليل على عدم الإفساد ، وأنه لا ينعكس . فكان الاستدلال بعدم الإنكار أكثر فائدة من الاستدلال بعدم استئنافهم الصلاة . ويستدل بالحديث على أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يفسد الصلاة . وقد قال في الحديث " بغير جدار " ولا يلزم من عدم الجدار عدم السترة . [ ص: 287 ] فإن لم يكن ثمة سترة غير الجدار فالاستدلال ظاهر . وإن كان : وقف الاستدلال على أحد أمرين : إما أن يكون هذا المرور وقع دون السترة - أعني بين السترة والإمام - وإما أن يكون الاستدلال وقع بالمرور بين يدي المأمومين أو بعضهم ، لكن قد قالوا : إن سترة الإمام سترة لمن خلفه . فلا يتم الاستدلال إلا بتحقيق إحدى هذه المقدمات ، التي منها : أن سترة الإمام ليست سترة لمن خلفه ، إن لم يكن مجمعا عليها . وعلى الجملة : فالأكثرون من الفقهاء على أنه لا تفسد الصلاة بمرور شيء بين يدي المصلي . ووردت أحاديث معارضة لذلك فمنها : ما دل على انقطاع الصلاة بمرور الكلب والمرأة والحمار .

                                        ومنها : ما دل على انقطاعها بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار . وهذان صحيحان .

                                        ومنها ما دل على انقطاعها بمرور الكلب الأسود والمرأة والحمار واليهودي والنصراني والمجوسي والخنزير . وهذا ضعيف .

                                        فذهب أحمد بن حنبل إلى أن مرور الكلب الأسود يقطعها . ولم نجد لذلك معارضا . قال : وفي قلبي من المرأة والحمار شيء . وإنما ذهب إلى هذا - والله أعلم - لأنه ترك الحديث الضعيف بمرة . ونظر إلى الصحيح . فحمل مطلق " الكلب " في بعض الروايات على تقييده بالأسود ، في بعضها . ولم يجد لذلك معارضا ، فقال به . ونظر إلى المرأة والحمار . فوجد حديث عائشة - الآتي - يعارض أمر المرأة . وحديث ابن عباس - هذا - يعارض أمر الحمار . فتوقف على ذلك وهذه العبارة - التي حكيناها عنه - أجود مما دل عليه كلام الأثرم من جزم القول . عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار . وإنما كان كذلك : لأن جزم القول به يتوقف على أمرين :

                                        أحدهما : أن يتبين تأخر المقتضي لعدم الفساد على المقتضي للفساد . وفي ذلك عسر عند المبالغة في التحقيق .

                                        والثاني : أن يتبين أن مرور المرأة مساو لما حكته عائشة رضي الله عنها من الصلاة إليها وهي راقدة . وليست هذه المقدمة بالبينة عندنا لوجهين :

                                        أحدهما : أنها رضي الله عنها ذكرت أن البيوت يومئذ ليس فيها مصابيح فلعل سبب هذا الحكم : عدم المشاهدة لها .

                                        والثاني : أن قائلا قال : إن مرور المرأة ومشيها لا يساويه في [ ص: 288 ] التشويش على المصلي اعتراضها بين يديه . فلا يساويه في الحكم : لم يكن ذلك بالممتنع . وليس يبعد من تصرف الظاهرية مثل هذا . وقوله . فأرسلت الأتان ترتع " أي ترعى .



                                        وفي الحديث دليل على أن عدم الإنكار حجة على الجواز . وذلك مشروط بأن تنتفي الموانع من الإنكار . ويعلم الاطلاع على الفعل . وهذا ظاهر . ولعل السبب في قول ابن عباس " ولم ينكر ذلك علي أحد " ولم يقل : ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم علي ذلك : أنه ذكر أن هذا الفعل كان بين يدي بعض الصف . وليس يلزم من ذلك اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، لجواز أن يكون الصف ممتدا . فلا يطلع عليه . لفقد شرط الاستدلال بعدم الإنكار على الجواز . وهو الاطلاع مع عدم المانع . أما عدم الإنكار ممن رأى هذا الفعل : فهو متيقن ، فترك المشكوك فيه ، وهو الاستدلال بعدم الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم . وأخذ المتيقن ، وهو الاستدلال بعدم إنكار الرائين للواقعة ، وإن كان يحتمل أن يقال : إن قوله . ولم ينكر ذلك علي أحد " يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، لعموم لفظة " أحد " إلا أن فيه ضعفا ; لأنه لا معنى للاستدلال بعدم إنكار غير الرسول صلى الله عليه وسلم بحضرته ، وعدم إنكاره إلا على بعد .




                                        الخدمات العلمية