الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
3395 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال : بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، فلما كان عمر نهانا عنه ، فانتهينا . رواه أبو داود .

التالي السابق


3395 - ( وعن جابر قال : بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ) : أي في زمانه ( وأبي بكر ، فلما كان عمر ) : أي وجد وصار خليفة ( نهانا عنه ) : أي عن بيع أم الولد ( فانتهينا ) : قال التوربشتي : يحتمل أن النسخ لم يبلغ العموم في عهد الرسالة ، ويحتمل أن بيعهم في زمان النبي - عليه الصلاة والسلام - كان قبل النسخ ، وهذا أولى التأويلين ، وأما بيعهم في خلافة أبي بكر ، فلعل ذلك كان في قضية فرد فلم يعلم به أبو بكر - رضي الله عنه - ولا من كان عنده علم بذلك ، فحسب جابر أن الناس كانوا على تجويزه فحدث ما تقرر عنده في أول الأمر ، فلما اشتهر نسخه في زمان عمر - رضي الله عنه - عاد إلى قول الجماعة ، يدل عليه قوله : فلما كان عمر نهانا عنه فانتهينا ، وقوله : هذا من أقوى الدلائل على بطلان بيع أمهات الأولاد ، وذلك أن الصحابة لو لم يعلموا أن الحق مع عمر لم يتابعوه عليه ، ولم يسكتوا عنه أيضا ، ولو علموا أنه يقول ذلك عن رأي واجتهاد لجوزوا خلافه ، لا سيما الفقهاء منهم ، وإن وافقه بعضهم خالفه آخرون ، ويشهد لصحة هذا التأويل حديث ابن عباس : إذا ولدت أمة الرجل منه فهي معتقة عن دبر منه . فإن قيل : أوليس علي - رضي الله عنه - قد خالف القائلين ببطلانه ؟ قيل : لم ينقل عن علي كرم الله وجهه خلاف إجماع آراء الصحابة على ما قال عمر ، ولم يصح عنه أنه قضى بجواز بيعهن ، أو أمر بالقضاء به ، بل الذي صح عنه أنه كان مترددا في القول به ، وقد سأل شريحا عن قضائه فيه أيام خلافته بالكوفة ، فحدثه أنه يقضي فيه بما اتفق عليه الصحابة عند نهي عمر عن بيعهن منذ ولاه عمر القضاء بها فقال لشريح : فاقض فيه بما كنت تقضي حين يكون للناس جماعة فأرى فيه ما [ ص: 2228 ] رأى عمر ، وفاوض فيه علماء الصحابة ، وهذا الذي نقل عنه محمول على أن النسخ لم يبلغه أو لم يحضر المدينة يوم فاوض عمر علماء الصحابة فيه ، وجملة القول أن إجماعهم في زمانه على ما حكم هو به لا يدخله النقض بأن يرى أحدهم بعد ذلك خلافه اجتهادا ، والقوم رأوا ذلك توقيفا ، لا سيما ولا يقطع على القول بخلافه ، وإنما تردد فيه ترددا . وقال الشمني : يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشعر ببيعهم إياها ، ولا يكون حجة إلا إذا علم به وأقرهم عليه ، ويحتمل أن يكون ذلك أول الأمر ، ثم نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ولم يعلم به أبو بكر لقصر مدة خلافته واشتغاله بأمور المسلمين ، ثم نهى عنه عمر لما بلغه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه ، كما قيل في حديث جابر في المتعة الذي رواه مسلم : كنا نتمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، حتى نهانا عمر .

قال ابن الهمام : أم الولد تصدق لغة على ما إذا ثبت نسبه من له ولد ثابت النسب . وفي عرف الفقهاء أخص من ذلك ، وهي الأمة التي يثبت نسب ولدها من مالك كلها أو بعضها ، ولا يجوز بيعها ولا تمليكها ولا هبتها ، بل إذا مات سيدها ولم ينجز عتقها تعتق بموته من جميع المال ولا تسعى لغريم ، وإن كان السيد مديونا مستغرقا . وهذا مذهب جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء إلا من لا يعتد به ، كبشر المريسي وبعض الظاهرية ، فقالوا : يجوز بيعها ، واحتجوا بحديث جابر ، ونقل هذا المذهب عن الصديق وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وابن الزبير ، لكن عن ابن مسعود بسند صحيح ، وابن عباس : تعتق من نصيب ولدها . ذكره ابن قدامة . فهذا يصرح برجوعهما على تقدير صحة الرواية الأولى عنهما . ( رواه أبو داود ) : وقال الحاكم : على شرط مسلم .

وأخرج النسائي عن زيد العمي إلى أبي سعيد الخدري : كنا نبيعهن في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وصححه الحاكم ، وأعله العقيلي بزيد العمي ، وقال النسائي : زيد العمي ليس بالقوي ، واستدل بعضهم للجمهور بما في أبي داود من طريق محمد بن إسحاق ، عن خطاب بن صالح ، عن أمه ، عن سلامة بنت معقل امرأة من خارجة بن قيس غيلان ، وذكر البيهقي أنه أحسن شيء روي عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - في هذا الباب قالت : قدم ابن عمي في الجاهلية فباعني من الحباب بن عمر أخي أبي اليسر بن عمر ، فولدت له عبد الرحمن بن الحباب ، ثم هلك فقالت امرأته : الآن والله تباعين في دينه ، فأتيت رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فقلت : يا رسول الله ! إني امرأة من خارجة بن قيس غيلان قدم بي عمي المدينة في الجاهلية ، فباعني من الحباب بن عمر أخي أبي اليسر بن عمر ، فولدت له عبد الرحمن فمات فقالت امرأته : الآن تباعين في دينه ، فقال عليه السلام : من ولي الحباب ، قيل : أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو ، فبعث إليه : أعتقوها ، فإذا سمعتم برقيق قدم علي فأتوني أعوضكم . قالت : فأعتقوني ، وقدم على رسول الله - عليه الصلاة والسلام - رقيق فعوضهم عني غلاما ، ولا يخفى أن هذا لا يدل على أنها تعتق بمجرد موته ، بل على أنه سألهم أن يعتقوها ويعوضهم ، فيحتمل أن يراد بأعتقوا خلوا سبيلها كما فسره البيهقي ، وأن العوض من باب الفضل منه عليه السلام ، لكن هذا احتمال غير ظاهر ، والعبرة للظاهر ، فلا يصار إلى هذا إلا بدليل من خارج يوجبه ويعينه ، فمن ذلك ما ذكره المصنف يعني صاحب الهداية أنه عليه السلام قال في مارية القبطية : أعتقها ولدها . وطريقه معلول بأبي بكر بن عبد الله بن سيرين ، وحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس ، وبسند ابن ماجه ، ورواه ابن عدي ، لكن أعله ابن سيرين فقط ، فإنه يروي أن حسينا ممن يكتب حديثه .

وأخرج ابن ماجه أيضا عن شريك ، عن حسين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام - : " أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته " . ورواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد ، وهذا توثيق لحسين ، ورواه أبو يعلى الموصلي في مسنده ، حدثنا زفر ، حدثنا إسماعيل بن أبي قبيس ، حدثنا أبو علي حسين بن عبد الله ، عن عكرمة ، عن ابن عباس عنه عليه السلام قال : أيما رجل ولدت منه أمة فهي معتقة عن دبر [ ص: 2229 ] منه . والطرق كثيرة في هذا المعنى ، ولذا قال الأصحاب : إنه مشهور تلقته الأمة بالقبول ، وإذ قد كثرت طرق هذا المعنى وتعددت واشتهرت فلا يضره وقوع راو ضعيف فيه ، مع أن ابن القطان قال في كتابه : وقد روي بإسناد جيد . قال قاسم بن أصبغ في كتابه : حدثنا محمد بن وضاح ، ثنا مصعب بن سعيد أبو خيثمة المصيصي ، ثنا عبد الله بن عمر ، وهو الرقي ، عن عبد الكريم الجزري ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما ولدت مارية إبراهيم قال عليه السلام : أعتقها ولدها . ومن طريق ابن أصبغ رواه ابن عبد البر في التمهيد ، ومما يدل على صحة حديث : أعتقها ولدها . ما قال الخطابي : ثبت أنه عليه السلام قال : إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ، ولو كانت مارية جارية لبيعت وصار ثمنها صدقة . وعنه عليه السلام أنه نهى عن التفريق بين الأولاد والأمهات ، وفي بيعهن تفريق ، وإذا ثبت قوله : أعتقها . . . . إلخ . وهو متأخر عن الموت إجماعا وجب تأويله على مجاز الأول ، فيثبت في الحال بعض موجب العتق من امتناع تمليكها . وروى الدارقطني عن يونس بن محمد ، عن عبد العزيز بن مسلم ، عن عبد الله بن يسار ، عن ابن عمر : أنه عليه السلام نهى عن بيع أمهات الأولاد فقال : لا يبعن . وفي رواية له : لا يسعين . وفي رواية : ولا يجعلن من الثلث ولا يوهبن ولا يورثن يستمتع بها سيدها ما دام حيا فإذا مات فهي حرة . أخرجه بسند فيه عبد الله بن جعفر ، عن عبد الله بن دينار ، وأعله ابن عدي بعبد الله بن جعفر بن نجيح المدني ، وأسند تضعيفه إلى النسائي وغيره ، ولينه هو وقال : يكتب حديثه ، ثم أخرجه عن أحمد بن عبد الله العنبري ، عن معتمر ، عن عبد الله بن عمر موقوفا عليه . وأخرجه أيضا عن فليح بن سليمان عن عبد الله بن دينار عن عمر موقوفا . قال ابن القطان : رواتهم ثقات . وعندي أن الذي أسنده خير ممن وقفه .

وأخرج مالك في الموطأ عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب قال : أيما وليدة ولدت من سيدها فإنه لا يبيعها ولا يهبها ولا يورثها وهو يتمتع منها ، وإذا مات فهي حرة . وهكذا رواه سفيان الثوري ، وسليمان بن بلال وغيرهما عن عمر موقوفا . وأخرج الدارقطني من طريق عبد الرحمن الأفريقي ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر أعتق أمهات الأولاد وقال : أعتقهن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - والأفريقي وإن كان غير حجة ، فقد تقدم ما يعضد رفعه معه ترجيح ابن القطان ، فثبت الرفع بما قلنا ، ولا شك في ثبوت وقفه على عمر ، وذكر محمد في الأصل حديث سعيد بن المسيب قال : أمر رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بعتق أمهات الأولاد من غير الثلاث وقال : لا يبعن في دين . وعدم مخالفة أحد لعمر حين أفتى به وأخبر ، فانعقد إجماع الصحابة على بيعهن ، فهذا يوجب أحد الأمرين إما أن بيع أمهات الأولاد في زمنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن بعلمه ، وإن كان مثل قول الراوي : كنا نفعل في عهد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - حكمه الرفع ، لكن ظاهرا لا قطعا ، فإذا قام دليل في خصوص منه وجب اعتباره ، وأما أنه كان يعلمه ويقره ثم نسخ ولم يظهر الناسخ لأبي بكر - رضي الله عنه - لقصر مدته مع اشتغاله فيها بحروب مسيلمة وأهل الردة ، ومانعي الزكاة ، ثم ظهر بعده كما عن ابن عمر : كنا نخابر أربعين سنة ، ولا نرى بذلك بأسا ، حتى أخبرنا رافع بن خديج أنه - عليه الصلاة والسلام - نهى عن المخابرة فتركناها ، وهذا إذا قصرنا النظر على الموقوف أما بملاحظة المرفوعات المتعاضدة فلا شك ، ومما يدل على ثبوت ذلك الإجماع ما أسنده عبد الرزاق أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة السلماني قال : سمعت عليا يقول : اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن . فقلت له : رأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة . فضحك علي كرم الله وجهه . واعلم أن رجوع علي - رضي الله عنه - يقتضي أنه يرى اشتراط انقراض العصر في تقرر الإجماع ، والمرجح خلافه ، وسئل داود عن بيع أم الولد فقال : يجوز لأنا اتفقنا على جواز بيعها قبل أن تصير أم ولد ، فوجب أن تبقى كذلك ، إذ الأصل في كل ثابت دوامه واستمراره ، وكان أبو سعيد البرذعي حاضرا ، فعارضه فقال : قد زالت تلك الحالة بالإطلاق ، وامتنع بيعها لما حبلت بولد سيدها ، والأصل في كل ثابت دوامه فانقطع داود ، وكان له أن يجيب ويقول : الزوال كان لمانع عرض وهو قيام الولد في بطنها وزال بانفصاله فعاد ما كان ، فيبقى إلى أن يثبت المزيل اهـ . وهو نهاية التحقيق ، والله ولي التوفيق .




الخدمات العلمية