الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
144 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال : جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم ، فقالوا إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا قال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العين نائمة والقلب يقظان . فقالوا : مثله كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة . فقالوا : أولوها له يفقهها . قال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العين نائمة والقلب يقظان .

فقالوا : الدار الجنة ، والداعي محمد ، فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ، ومن عصى محمدا فقد عصى الله ، ومحمد فرق بين الناس
. رواه البخاري .

التالي السابق


144 - ( وعن جابر ) : - رضي الله عنه - ( قال : جاءت ملائكة ) ، أي : جماعة من الملائكة ( إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم ) : الجملة حالية . قال السيد جمال الدين : هذا الحديث يحتمل أن يكون حكاية سمعها جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فحكاه ، وأن يكون إخبارا عما شاهد هو بنفسه وانكشف له . قال ميرك شاه : والاحتمال الأول متعين لما في رواية الترمذي عن حديث جابر أيضا قال : خرج علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما فقال : " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي " إلخ . قال الترمذي بعد تخريجه من طريق قتيبة بن سعيد ، عن الليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد المصري أحد الثقات ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن جابر : هذا حديث مرسل ؛ سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله . أشار البخاري في " صحيحه " إلى رواية سعيد بن أبي هلال تعليقا ، وجاء من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من إسناد أصح من هذا . قال : وفي الباب عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توسد فخذه فرقد ، وكان إذا نام نفخ ، فبينا أنا قاعد إذ أنا برجال عليهم ثياب بيض الله أعلم بما لهم من الجمال ، فجلست طائفة منهم عند رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - وطائفة منهم عند رجليه ، ثم ذكر نحو حديث جابر ثم قال : هذا صحيح اهـ . قال الشيخ ابن حجر العسقلاني : ووصف الترمذي لحديث سعيد بن أبي هلال بأنه مرسل يريد أنه منقطع بين سعيد وجابر ، وقد اعتضد هذا المنقطع بحديث ربيعة الجرشي يعني الآتي في أول الفصل الثاني . قال : وهو عند الطبراني بسند جيد ، وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد ، وابن خزيمة أيضا وصححه ، والظاهر أنهما واقعتان والله أعلم اهـ كلام ميرك شاه رحمه الله تعالى . ( فقالوا ) ، أي : بعض الملائكة لبعض ( إن لصاحبكم ) ، أي : لمحمد ( هذا ) : إشارة إلى محمد ، والمخاطب بعض الملائكة ( مثلا ) : بفتحتين أي صفة كمال تبهر العقول ، إذ المثل هو الصفة العجيبة الشأن ( فاضربوا ) ، أي : بينوا واجعلوا ( له مثلا ) ، أي : تمثيلا وتصويرا للمعنى المعقول في صورة الأمر المحسوس ليكون أوقع تأثيرا في النفوس ( قال ) : بغير الفاء ( بعضهم : إنه نائم ) ، أي : فلا يسمع فلا يفيد ضرب المقال شيئا ( وقال بعضهم ) : وهم الأكملون لمعرفتهم به ما لم يعرفه [ ص: 226 ] الأولون ( إن العين نائمة والقلب ) : بالنصب وقيل : بالرفع ( يقظان ) : غير منصرف وقيل منصرف لمجيء فعلانة منه . قال زين العرب : يقظان منصرف لمجيء فعلانة ، لكنه قد صح في كثير من نسخ " المصابيح " على أنه غير منصرف يعني فلا يفوته شيء مما تقولون ، فإن المدار على المدارك الباطنية دون الحواس الظاهرية . قال الطيبي : هذه مناظرة جرت بينهم بيانا وتحقيقا لما أن النفوس القدسية لا يضعف إدراكها بضعف الحواس أي الحسية لاستراحة القوى البدنية ، بل ربما يقوى إدراكها عند ضعفها كما هو مشاهد عند أرباب الصوفية ( فقالوا : مثله كمثل رجل ) ، أي : عظيم كريم ( بنى دارا ) : يعني قصته كهذه القصة عن آخرها ، لا أن حاله كحال هذا الرجل فإنه في مقابلة الداعي لا الباني ، اللهم إلا أن يقدر مضاف ، ويقال : كمثل داعي رجل بنى دارا ( وجعل ) ، أي : الباني ( فيها ) ، أي : في الدار ( مأدبة ) : بضم الدال وتفتح ، طعام عام يدعى الناس إليه كالوليمة ، وقيل بالفتح مصدر ميمي بمعنى الأدب وهو الدعاء إلى طعام كالمعتبة . بمعنى العتبة فعلى هذا يتعين الضم ( وبعث داعيا ) : يدعو الناس إكراما لهم ( إليها ) ، أي : إلى ما يوصل إليها إيماء إلى قوله تعالى : ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان ) ( فمن أجاب الداعي ) ، أي : قبل دعاءه ( دخل الدار وأكل من المأدبة ) : على وجه الإكرام وتمام الإنعام ( ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ) : بل طرد من الباب وحرم من الثواب واستحق العقاب ( فقالوا ) ، أي : فقال بعض الملائكة لبعض ( أولوها له ) ، أي : فسروا الحكاية التمثيلية لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أول تأويلا إذا فسر . بما يئول إليه الشيء ( يفقهها ) : بالجزم جواب الأمر أي يفهمها ثم يفهمها ( قال بعضهم ) : باعتبار ما في ظنه ( إنه نائم ) : فهو غير فاهم ( وقال بعضهم إن العين ) ، أي : عينه ( نائمة والقلب ) ، أي : قلبه ( يقظان ) : فيدرك البيان وكرروا هذا لينبه السامعون إلى هذه المنقبة العظيمة ، وهي نوم العين ويقظة القلب ( فقالوا : الدار ) : أي مثلها ( الجنة ) ، أي : نفسها فإنها دار المتقين كما في القرآن المبين ، والمأدبة نعيمها وترك بيانها لظهورها ، وقيل : لاشتمال الجنة عليها لأنها دار المأدبة ( والداعي محمد ) : قال تعالى في حقه : ( وداعيا إلى الله بإذنه ) ( فمن أطاع ) : الفاء للسببية ، أي : لما كان هو الداعي فمن أطاع ( محمدا فقد أطاع الله ) . قال الطيبي : روعي في التأويل حسن أدب حيث لم يصرح بالمشبه بالرجل ، لكن لمح إليه في قوله : فقد أطاع الله ( ومن عصى محمدا ) : أظهر الضمير مبالغة في تعظيمه وحمده قال ابن حجر : وبه يندفع وهم الرجوع إلى غيره ( فقد عصى الله ، ومحمد فرق بين الناس ) . روي مشددا على صيغة الفعل ومخففا على المصدر كذا قاله الطيبي ، وقال السيد جمال الدين : مصدر وصف به للمبالغة ، أي : فارق بين المؤمن والكافر والصالح والفاسق ، وقال ميرك شاه : كذا وقع عند أكثر رواة البخاري بسكون الراء والتنوين . ( رواه البخاري ) .

[ ص: 227 ]



الخدمات العلمية