الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1572 [ ص: 375 ] حديث ثالث وأربعون لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم .

التالي السابق


هذا أصح حديث يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب لا يختلف أهل العلم بالحديث في ذلك ، والمجن الترس والدرق وذلك معروف يستغني عن التفسير ، والذي عول عليه مالك وجعله أصلا يرد إليه قيمة العروض المسروقة كلها في هذا الباب هو هذا الحديث فمن سرق شيئا من الأشياء التي يحل تملكها إذا كان لها مالك وكانت في حرز فسرق السارق شيئا منها وأخرجه عن حرزه وبان به وبلغ في قيمته عند التقويم في حين السرقة ثلاثة دراهم كيلا من ورق طيبة لا دلسة فيها وجب قطع يد السارق لذلك كان حرا أو [ ص: 376 ] عبدا شريفا كان أو وضيعا إذا كان بالغا مكلفا تجري عليه الفرائض ، والحدود ، ولم يكن عبدا سرق من مال سيده ، ولا خائنا فيما اؤتمن عليه ، وإن نقصت قيمة المسروق عن ثلاثة دراهم لم يجب قطعه وكان عليه الغرم ، وإن رأى الحاكم باجتهاده أن يؤدبه بالدرة ، أو بالسوط ضربا غير مبرح أدبه كذلك ، فإن كان المسروق ذهبا عينا ، أو تبرا مصوغا أو غير مصوغ لم ينظر فيه إلى قيمة الثلاثة دراهم وروعي فيه ربع دينار واعتبر ذلك ، فإن بلغ ربع دينار وزنا قطع يد سارقه على الشروط التي وصفنا ، وإن كان المسروق فضة اعتبر فيه وزن الثلاثة دراهم المذكورة ، فإن بلغ ذلك الوزن ، ففيه القطع وما عدا الذهب ، والورق فالاعتبار في تقويمه عند مالك ، وأصحابه لثلاثة دراهم المذكورة دون مراعاة ربع دينار ، فقف على هذا وافهمه . وبهذا كله قال أحمد بن حنبل في الذهب والفضة وتقويم العروض كقول مالك سواء لا يخالف في شيء من ذلك ؛ قال أحمد إن سرق من الذهب ربع دينار فصاعدا قطعت يده ، وإن سرق من الدراهم ثلاثة دراهم فصاعدا قطعت يده ، وإن سرق عرضا ، قوم ، فإن بلغت قيمته ثلاثة دراهم قطعت يده ، وهذا وقول مالك سواء .

والحجة لمن ذهب هذا المذهب حديث ابن عمر المذكور في هذا الباب وقرأت على عبد الوارث بن سفيان ، وسعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم [ ص: 377 ] قال : حدثنا عبد الله بن روح المديني ، قال : حدثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رجلا سرق جحفة فأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم فقطعه ، وقال ابن جريج : أخبرنا إسماعيل بن أمية أن نافعا حدثه أن عبد الله بن عمر حدثهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يد رجل سرق ترسا من صنعة النساء ثمنه ثلاثة دراهم ، وقال أيوب ، وعبيد الله ، ( وعبد الله ) ابنا عمر وأسامة بن زيد ، وغيرهم ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم كما قال مالك : والمعنى كله واحد لم يختلف فيه ؛ لأن الترس والحجفة والمجن شيء واحد , وهي أسماء مختلفة لمعنى واحد .

وأما حديث الربع دينار فحدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن إسماعيل ، قال : حدثنا الحميدي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا أربعة عن عمرة ، عن عائشة لم يرفعوه : عبد الله [ ص: 378 ] بن أبي بكر ورزيق بن حكيم الأيلي ، وعبد ربه بن سعيد ويحيى بن سعيد إلا أن في حديث يحيى ما دل على الرفع لقوله - صلى الله عليه وسلم - ما نسيت ، ولا طال علي القطع في ربع دينار فصاعدا . قال : وحدثنا الزهري وكان أحفظهم قال : أخبرتني عمرة ، عن عائشة أنها سمعتها تقول إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقطع في ربع دينار فرفعه الزهري وهو أحفظهم .

قال أبو عمر : رفع هذا الحديث صحيح من رواية ابن شهاب ، وغيره ، وسنذكر الإشارة في باب يحيى بن سعيد من هذا الكتاب إن شاء الله . وهو حديث مدني ثابت لا مدفع فيه أيضا ، ولا مطعن لأحد ، وعليه عول مالك وأهل المدينة ، والشافعي وفقهاء وجماعة أصحاب الحديث فيمن سرق ربع دينار ذهبا أنه يقطع لكن الشافعي جعل هذا الحديث أصلا رد إليه تقويم العروض فمن سرق عنده من ذهب تبرا و عين ربع دينار على ما ذكرنا [ ص: 379 ] من شروط السرقة وجب عليه القطع ، ومن سرق فضة وزن ثلاثة دراهم كيلا فعليه أيضا القطع إذا كانت ربع دينار ، لأن الثلاثة دراهم التي قوم بها المجن في حديث ابن عمر وقوم بها عثمان إلا تريجة كانت عندهم في ذلك الوقت من صرف اثني عشر درهما بدينار ، ومن سرق عند الشافعي شيئا من العروض قوم بالربع دينار لا بالثلاثة دراهم على غلاء الذهب ورخصه ، فإن بلغ العرض المسروق ربع دينار بالتقويم قطع سارقه وهو قول إسحاق بن راهويه ، وأبي ثور ، وجماعة من التابعين ، وقال داود بن علي لا تقطع اليد في أقل من ربع دينار عينا من الذهب ، أو قيمة ذلك من كل شيء . قال : وحديث ابن عمر في تقويم المجن بثلاثة دراهم إنما كان ذلك ، لأن الثلاثة دراهم كانت يومئذ قيمة ربع دينار ، لأن الدية كانت تقوم اثني عشر ألف درهم بدينار قال : فليس في حديث ابن عمر خلاف لحديث عائشة في الربع دينار ولو خالفه كانت الحجة فيما روته عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : القطع في ربع دينار ، وأما حديث ابن عمر فليس فيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : اقطعوا اليد في ثلاثة دراهم . وإنما ذلك من قول ابن عمر أن قيمة المجن [ ص: 380 ] كانت ثلاثة دراهم يومئذ فاحتمل ما ذكرنا على أنه قد خالفه غيره في ذلك ، وقال سفيان الثوري ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ومحمد لا يقطع اليد إلا في عشرة دراهم يعني كيلا ، أو دينار ذهبا عينا أو وزنا ، ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل . وحجة من ذهب هذا المذهب ما حدثناه عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قيمة المجن الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم . وحدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا قاسم ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا يوسف قال ابن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قوم : المجن الذي قطع فيه النبي عليه السلام عشرة دراهم وحدثنا سعيد بن نصر وأحمد بن محمد قالا : حدثنا وهب بن مسرة ، وقاسم بن أصبغ قالا : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا ابن نمير ، وعبد الأعلى قالا : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن أيوب بن موسى ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم . [ ص: 381 ] قال أبو عمر : اختلفت الآثار في ثمن المجن فروى ابن عمر ما وصفنا . وروى ابن عباس ما ذكرنا ، وكذلك روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، وقد روي أن ثمنه كان دينارا ، أو عشرة دراهم هكذا ، وروي أن ثمنه كان ثلاثة دراهم أو خمسة دراهم . رواه سعيد ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا ، وخالف شعبة سعيدا فرواه ، عن قتادة قال : سمعت أنسا يقول : سرق رجل مجنا على عهد أبي بكر فقوم خمسة دراهم فقطع ، وهذا عند أهل الحديث أولى من حديث سعيد ، وليس في شيء من هذه الأسانيد التي وردت بذكر المجن أصح من إسناد حديث ابن عمر عند أهل العلم بالنقل ، وكان ابن شبرمة ، وابن أبي ليلى يقولان تقطع اليد في خمسة دراهم فصاعدا ذهبا إلى حديث يرويه الثوري ، عن عيسى بن أبي عزة ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في قيمة خمسة دراهم ، والشعبي لم يسمع من ابن مسعود ، وهذا الحديث عندهم ضعيف ، وقد اختلف في حديث أنس كما ذكرنا ، وإنما مال الشافعي رحمه الله في التقويم إلى حديث الربع دينار ، لأنه حديث مدني صحيح رواه جماعة الأئمة بالمدينة وترك حديث ابن عمر لما رآه - والله أعلم - من اختلاف الصحابة في المجن الذي قطع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ابن عمر يقول : ثلاثة دراهم ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمرو يقولان : عشرة دراهم ، وغيرهم يقول : ما وصفنا . وحديث عائشة في الربع [ ص: 382 ] دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عن عائشة إلا أن بعضهم وقفه ، ورفعه من يجب العمل بقوله لحفظه وعدالته ، حدثنا سعيد بن نصر ، وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، قال : حدثنا سليمان بن داود ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن عمرة ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقطع في ربع دينار ، وكذلك رواه معمر ، وابن عيينة ويونس بن يزيد ، وابن مسافر ، وسائر أصحاب ابن شهاب متصلا مرفوعا وحسبك بابن شهاب ، وقد ذكرنا الآثار عنه وعن غيره في ذلك عند ذكر يحيى بن سعيد ، عن عمرة من كتابنا هذا ، والحمد لله .

والقطع في السرقة من مفصل الكوع تقطع يده اليمنى في أول سرقته وتحسم بالنار إن خشي عليه التلف ، ثم إن عاد فسرق قطعت رجله اليسرى من المفصل تحت الكعبين ثم إن عاد فسرق قطعت رجله اليسرى من المفصل تحت الكعبين ثم إن عاد فسرق قطعت يده اليسرى ثم إن عاد ضرب عشرة [ ص: 383 ] أسواط ، أو أقل على قدر ما يراه الحاكم اجتهادا لذنبه وردعا للساق ثم حبسه ، وعلى هذا الترتيب في قطع اليد ثم الرجل ثم اليد ثم الرجل على ما وصفنا - مذهب جماعة فقهاء الأمصار أهل الفقه ، والأثر وهو عمل الصحابة ، والتابعين بالمدينة ، وغيرها ، وشذ قوم ، عن الجمهور فلم يروا قطع رجل السارق ، ولم نعده خلافا فتركناهم . روي ذلك عن ربيعة وبه قال أصحاب داود وأجمع الفقهاء على أن السرقة إذا وجدها صاحبها بعينها بيد السارق قبل أن يقطع ، أو بعد ذلك كله أخذها ، وإنها ماله لا يزيل ملكها عنه قطع يد السارق ، واختلفوا في وجوب الغرم على السارق إذا قطع وفاتت السرقة عنده فقال : الثوري ، وسائر الكوفيين إذا قطع السارق فلا غرم عليه وهو قول الطبري وحجة من ذهب هذا المذهب حديث المسور بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن عبد الرحمن بن عوف ، وبعضهم يرويه عن المسور ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أقيم على السارق الحد فلا غرم عليه .

قال أبو عمر : هذا حديث ليس بالقوي ، ولا تقوم به حجة ، وقد قال الطبري : القياس أن عليه غرم ما استهلك ولكن تركنا ذلك اتباعا للأثر في ذلك يعني الحديث الذي ذكرنا ، عن عبد الرحمن بن عوف . [ ص: 384 ] قال أبو عمر : ترك القياس لضعف جائز ، لأن الضعف لا يوجب حكما ، وقال مالك وأصحابه إن كان موسرا غرم ، وإن كان معسرا لم يتبع به دينا ، ولم يكن عليه شيء ، ويروى مثل ذلك عن الزهري ، وقال الشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل ، وإسحاق ، وأبو ثور وداود وهو قول الحسن وحماد بن أبي سليمان : يغرم السارق قيمة السرقة موسرا كان أو معسرا ، وتكون دينا عليه متى أيسر أداه ، وقال الشافعي رحمه الله : أغرم السارق ما سرق قطع أو لم يقطع ، وكذلك إذا قطع الطريق قال : الحمد لله عز وجل فلا يسقط حد الله غرم ما أتلف للعباد .




الخدمات العلمية