الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
633 [ ص: 337 ] حديث موف أربعين لنافع ، عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر رمضان فقال : لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فاقدروا له .

التالي السابق


وقد مضى تفسير قوله : فإن غم عليكم في باب ثور بن زيد ومضى هناك كثير من معاني هذا الباب مما لا يعاد هاهنا ، وهكذا روى هذا الحديث جماعة أصحاب نافع ، عن نافع ، عن ابن عمر قالوا فيه : فإن غم عليكم فاقدروا له ، وكذلك رواه سالم ، عن ابن عمر ، عن النبي عليه السلام ، فإن غم عليكم فاقدروا له ، وكذلك رواه مالك ، عن عبد الله بن دينار ، وسنذكره في بابه إن شاء الله . [ ص: 338 ] وذكر الشافعي هذا الحديث فقال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين . لم يقل فاقدروا له ، والمحفوظ في حديث ابن عمر فاقدروا له ، وقد ذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهلال شهر رمضان إذا رأيتموه فصوموا ثم إذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين يوما . قال عبد الرزاق وأخبرنا عبد العزيز بن أبي رواد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله جعل الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين . فهذا ما في حديث ابن عمر . وروى ابن عباس ، وأبو هريرة وحذيفة [ ص: 339 ] ، وأبو بكرة وطلق الحنفي ، وغيرهم ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدد ثلاثين . بمعنى واحد ، وقد ذكرنا حديث ابن عباس فيما سلف من كتابنا ( هذا ) في باب ثور بن زيد ، وأما حديث أبي هريرة فروي عنه من وجوه من حديث سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، والأعرج ومحمد بن زياد ، وغيرهم ، وهي ثابتة وسائر الطرق في هذا الحديث كلها حسان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر مالك في موطئه حديث ابن عمر هذا وأردفه بحديث ابن عباس فكأنه - والله أعلم - ذهب إلى أن معنى حديث ابن عمر في قوله فاقدروا له أن يكمل شعبان ثلاثين يوما إذا غم الهلال على ما قال ابن عباس : وعلى هذا المذهب جمهور أهل العلم أن لا يصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان ، واليقين في ذلك رؤية الهلال ، أو بإكمال شعبان ثلاثين يوما ، وكذلك لا يقضى بخروج رمضان إلا بمثل ذلك أيضا من اليقين ، وهذا أصل مستعمل عند أهل العلم أن لا تزول عن أصل أنت عليه إلا بيقين مثله ، وأن لا يترك اليقين [ ص: 340 ] بالشك قال الله عز وجل : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) يريد - والله أعلم - من علم منكم بدخول الشهر ، والعلم في ذلك ينقسم قسمين أحدهما ضروري ، والآخر غلبة ظن فالضروري أن يرى الإنسان الهلال بعينه في جماعة كان أو وحده ، أو يستفيض الخبر عنده حتى يبلغ إلى حد يوجب العلم ، أو يتم شعبان ثلاثين يوما ، فهذا كله يقين بعلم ضرورة ، ولا يمكن للمرء أن يشكك في ذلك نفسه ، وأما غلبة الظن فأن يشهد بذلك شاهدان عدلان ، وهذا معنى قول الله عز وجل ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) وهو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : فإن غم عليكم فاقدروا له عند أكثر أهل العلم أن لا يصام رمضان ، ولا يفطر منه إلا برؤية صحيحة ، أو إكمال شعبان ثلاثين يوما ، وإنما وجب أن يكون ذلك عند العلماء كذلك ، لأن الشهر معلوم أنه قد يكون تسعة وعشرين يوما ويكون ثلاثين يوما هذا مما يعلم عيانا واضطرارا ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : من حديث ابن عمر نحن أمة أمية لا نكتب ، ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا وعقد الإبهام في الثالثة ، والشهر [ ص: 341 ] هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين يوما ، وقد ذكرنا هذا الخبر ومثله في باب عبد الله بن دينار عند قوله - صلى الله عليه وسلم - : الشهر تسع وعشرون ، وذكرنا في باب ثور بن زيد خبر ابن مسعود لما صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسعا وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين فلما كان معلوما أن الشهر قد يكون تسعا وعشرين ، وقد يكون ثلاثين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فإن غم عليكم فاقدروا له . يريد - والله أعلم - بأن يكملوا العدة ثلاثين يوما ، أو يرى الهلال قبل ذلك لتسع وعشرين ، وهكذا رواه أبو هريرة ، وابن عباس وحذيفة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروايتهم تفسير حديث ابن عمر في قوله فاقدروا له فواجب أن لا يصام يوم الشك على أنه من رمضان ، وأن لا يقضى بدخول شهر إلا بيقين رؤيته ، أو تمام عدده ، وأما ابن عمر فله مذهب ذهب إليه وتأوله في معنى ما رواه من قوله - صلى الله عليه وسلم - فاقدروا له وأكثر أهل العلم في ذلك على خلافه ، وسنذكر مذهبه في ذلك عنه ونذكر من تابعه عليه بعد في هذا الباب إن شاء الله .

وقال أهل اللغة فاقدروا له كقوله قدروا له يقال : قدرت الشيء ، وقدرته وأقدرته . [ ص: 342 ]

قال أبو عمر : أما صوم يوم الشك تطوعا فقد مضى القول فيه في باب ثور بن زيد ، وأما صومه على أن يكون من رمضان إن ظهر الهلال خوفا أن يكون من رمضان وهل يجزئ ذلك إن ثبت أنه من رمضان أم لا فقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا فجملة قول مالك ، وأصحابه في ذلك أن يوم الشك لا يصام على الاحتياط خوفا أن يكون من رمضان ويجوز صومه تطوعا ، ومن صامه تطوعا ، أو احتياطا ثم ثبت أنه من رمضان وكان عليه قضاؤه ، وإن أصبح فيه ينوي الفطر ، ولم يأكل أو أكل ثم صح أنه من رمضان كف عن الأكل في بقية يومه وقضاه ، وإن أكل بعد علمه بذلك لم يكن عليه كفارة إلا أن يقصد الانتهاك من حرمة اليوم عالما بما في ذلك من الإثم فيكفر حينئذ إن كان لم يأكل فيه شيئا حتى ورد أنه من رمضان ثم أكل متعمدا منتهكا لحرمة الشهر ، وقد مضى القول فيما يجب على من أفطر عامدا في رمضان بأكل أو غيره بأتم ما يكون في باب ابن شهاب ، عن مالك ، عن حميد بن عبد الرحمن ، والحمد لله . ذكر عبد الرزاق قال : أخبرنا داود بن قيس قال : سألت القاسم بن محمد ، عن صيام اليوم الذي يشك فيه من رمضان فقال : إذا كان مغيما يتحرى أنه من رمضان فلا يصمه ، وقال الوليد [ ص: 343 ] بن مزيد قلت للأوزاعي إن صام رجل آخر يوم من شعبان تطوعا ، أو خوفا أن يكون من رمضان ثم صح أنه من رمضان أيجزئه ؟ قال : نعم لصومه ، وقال : الحسن بن حي أكره صوم يوم الشك ، فإن صامه أحد على ذلك فعليه القضاء إن ثبت أنه من رمضان ، وقال ابن علية لا ينبغي لأحد أن يتقدم رمضان بصوم ، فإن فعل ثم صح أنه من رمضان أجزأ عنه ، وقال الثوري إذا أصبح الرجل في اليوم الذي يشك فيه ، ولم ينو الصوم ثم بلغه أنه من رمضان قال : يتم صومه ويقضي يوما مكانه . قال : فإن أصبح في ذلك اليوم وهو ينوي الصوم ، وقال : أنظر فإن كان من رمضان صمت وإلا لم أصم ، فأصبح على ذلك أنه من رمضان قال : يجزئه إذا نوى ذلك من الليل ، وقال ربيعة بن عبد الرحمن وحماد بن أبي سليمان ، وابن أبي ليلى من صام يوم الشك على أنه من رمضان لم يجزه وعليه الإعادة ، وروي عن عمر وعلي ، وابن مسعود وحذيفة وعمار ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، وأنس بن مالك النهي عن صيام يوم الشك مطلقا ، وروي أيضا مثل ذلك عن سعيد بن المسيب ، وأبي وائل ، والشعبي ، والنخعي وعكرمة ، وابن سيرين ، وذكر عبد الرزاق ، عن جعفر بن سليمان ، عن حبيب بن الشهيد قال : [ ص: 344 ] سمعت محمد بن سيرين يقول : لأن أفطر يوما من رمضان لا أتعمده أحب إلي من أن أصوم اليوم الذي يشك فيه من شعبان ، وقال ابن سيرين خرجت في اليوم الذي يشك فيه فلم أدخل على أحد يؤخذ عنه العلم إلا وجدته يأكل إلا رجلا كان يحسب ويأخذ بالحساب ولو لم يعلم ذلك كان خيرا له ، وقال مالك : كان أهل العلم ينهون عن صيامه ، وقال الشافعي : لا يجب صوم رمضان حتى يستيقن بدخوله ، ولا يصام يوم الشك على أنه من رمضان ، وقال الشافعي : لو أصبح يوم الشك لا ينوي الصوم ، ولم يأكل ، ولم يشرب حتى علم أنه من شهر رمضان فأتم صومه رأيت أن عليه إعادة صوم ذلك اليوم ، وسواء كان ذلك قبل الزوال أو بعده إذا أصبح لا ينوي ( صيامه من شهر رمضان قال : وكذلك لو أصبح ينوي ) صومه متطوعا من رمضان ، ولا أرى رمضان يجزئه إلا بإرادته - والله أعلم - .

قال : ولا فرق عندي بين الصوم ، والصلاة في هذا المعنى ، وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ومحمد لو أن رجلا في أول يوم من شهر رمضان ، ولا ينوي أنه من شهر رمضان وينوي بصيامه التطوع ثم علم بعد [ ص: 345 ] ذلك أن يومه ذلك من رمضان ، فإنه يجزئ عنه صيامه ، وليس عليه قضاء ذلك اليوم ، وقالوا : لو أن رجلا أصبح ينوي الفطر في أول يوم من شهر رمضان وهو لا يعلم أنه من رمضان ويظن أنه من شعبان فاستبان له قبل انتصاف النهار أنه من رمضان ، فإنه يجزئ عنه إن لم يكن أكل ، أو شرب قبل أن يستبين له ، وقالوا : إن علم أن ذلك اليوم من رمضان بعدما انتصف النهار ، فإنه يصوم بقية يومه وعليه قضاء ذلك اليوم قالوا : ولو كان هذا الصيام قضاء من رمضان ، أو من صيام كان عليه ، فإنه لا يجزئه ، لأنه قد أصبح مفطرا قالوا : ويجزئه أن يتطوع به ، ولا يجزئه من شيء واجب عليه قال أبو ثور لو أن رجلا أصبح ينوي الفطر في أول يوم من شهر رمضان وهو لا يعلم أنه من رمضان ويرى أنه من شعبان فاستبان له أنه من شهر رمضان قبل أن ينتصف النهار لم يجزه عن شهر رمضان وكان عليه قضاء ذلك اليوم قال : ولو نوى بصوم ذلك اليوم التطوع وهو لا يعلم أنه من رمضان لم يجزه أيضا وكان عليه قضاؤه .

قال أبو عمر : أما من ذهب إلى إبطال ( صوم ) من عقد نيته على تطوع عن الواجب ، أو صام يوم الشك يقين أنه من رمضان فالحجة له قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 346 ] الأعمال بالنيات ، وإنما لامرئ ما نوى . ، وقد صح أن التطوع غير الفرض ، فمحال أن ينوي التطوع ويجزئه عن الفرض ، ومن جهة النظر أيضا فرض رمضان قد صح بيقين فلا يجوز أداؤه بشك ووجه آخر وهو أنهم قد أجمعوا على أن من صلى أربعا بعد الزوال متطوعا ، أو شاكا في دخول الوقت أنه لا يجزئه ذلك من صلاة الظهر فكذلك هذا - والله أعلم - .

وأما ما ذهب إليه الأوزاعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وابن علية فحجتهم أن رمضان لا يحتاج إلى نية ، ولا يكون صومه تطوعا أبدا ، كما أن من صام شعبان ينوي به رمضان لا يكون عن رمضان ، ولا يكون في رمضان صوم عن غيره ، لأنه وقت لا تحيل فيه النية العمل .

قال أبو عمر : قد قال بكلا القولين جماعة من التابعين وممن قال بقول الأوزاعي عطاء وعمر بن عبد العزيز ولكن القول الأول أصح وأحوط من جهة الأثر والنظر إن شاء الله . والله الموفق للصواب ، وقد ذكرنا ما للعلماء من التنازع في وجوب النية ، والتبييت [ ص: 347 ] في ( صيام الفرض والتطوع في باب ابن شهاب ذكر عبد الرزاق قال ) : أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني مزاحم قال : خطب عمر بن عبد العزيز في خلافته فقال : انظروا هلال رمضان ، فإن رأيتموه فصوموا ، وإن لم تروه فأكملوا ثلاثين يوما . قال : وأصبح الناس منهم الصائم ومنهم المفطر ، ولم يروا الهلال فجاءهم الخبر بأن قد رئي الهلال قال : فكلم الناس عمر وبعث الحرس في العسكر من أصبح صائما فليتم صومه فقد وفق له ، ومن أصبح مفطرا لم يذق شيئا فليتم بقية يومه ، ومن كان طعم شيئا فليتم ما بقي من يومه وليقض يوما مكانه ، وإني لعقت لعقا من عسل ، فأنا صائم بقية يومي ثم أبدله بعد ، وروي عن ابن عمر في معنى ما رواه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله : فإن غم عليكم فاقدروا له شيء لم يتابعه على تأويله ذلك فيما علمت إلا طاوس وأحمد بن حنبل ، وروي عن أسماء بنت أبي بكر مثل ذلك ، وروي عن عائشة نحوه وذلك أن ابن عمر كان يقول : إذا لم ير الهلال ، ولم يكن في السماء غيم ليلة ثلاثين من شعبان وكان صحوا أفطر الناس ، ولم يصوموا ، وإن كان في السماء غيم في تلك الليلة [ ص: 348 ] أصبح الناس صائمين وأجزأهم من رمضان إن ثبت بعد أن الشهر تسع وعشرون وربما كان شعبان حينئذ تسعا وعشرين ، وروي عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تصوم اليوم الذي يغمى على الناس فيه ، وروي عن عائشة أنها قالت ، لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان ، وأما الرواية بذلك ، عن ابن عمر فذكر عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه إذا كان سحاب أصبح صائما ، وإن لم يكن سحاب أصبح مفطرا قال : وأخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه مثله ، وقال : أحمد بن حنبل صيام يوم الشك واجب وهو مجزئ من رمضان إن ثبت أنه من رمضان ، حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن الجهم ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا سعيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له . قال نافع : فكان ابن عمر يبعث مساء ثلاثين من شعبان من ينظر [ ص: 349 ] له الهلال ، فإن كان صحوا ورآه صام ، وإن لم يره لم يصم ، وإن حال بينه وبينه قتر أصبح صائما .

وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن بكر ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، قال : حدثنا أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فاقدروا له . وكان ابن عمر إذا مضى لشعبان تسع وعشرون نظر له الهلال ، فإن رئي فذاك ، وإن لم يروا لم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا ، وإن حال دون منظره سحاب ، أو قتر أصبح صائما قال : وكان ابن عمر يفطر مع الناس ، ولا يأخذ بهذا الحساب .

قال أبو عمر : هذا الأصل ينتقض على من أصله ، لأن من أغمي عليه هلال رمضان فصام على فعل ابن عمر ثم أغمي عليه هلال شوال لا يخلو أن يكون يجزئ على [ ص: 350 ] احتياطه خوفا أن يفطر يوما من رمضان ، أو يترك احتياطه ، فإن ترك احتياطه نقض ما أصله ، وإن جرى على احتياطه صام واحدا وثلاثين يوما ، وهذا خلاف ما أمر الله به عند الجميع ولكنه ، وإن كان كما وصفنا ، فإن لأصحابنا مثله من الاحتياط كثيرا في الصلاة مثل قولهم يتمادى ويعيد ويسجد سجدتي السهو وهو خلاف ما أمر الله به من الخمس وهو يشبه مذهب ابن عمر في هذا الباب ويشبه أيضا أعمال مالك في مواضع من الطهارة ، والطلاق ، والله الموفق للصواب .

وقد كان بعض جلة التابعين فيما حكاه عنه محمد بن سيرين يذهب في هذا الباب إلى اعتباره بالنجوم ، ومنازل القمر وطريق الحساب وذهب بعض فقهاء البصريين إلى أن معنى قوله عليه السلام فاقدروا له ارتقاب منازل القمر وهو علم كانت العرب تعرف منه قريبا من علم العجم .

قال أبو عمر : من ذهب إلى هذا المذهب يقول في معنى قوله عليه السلام فاقدروا له : إن التقدير في ذلك ( يكون ) إذا غم على الناس ليلة ثلاثين من شعبان بأن يعرف مستهل الهلال في شعبان في أول ليلة ويعلم أنه يمكث فيها ستة أسباع ساعة [ ص: 351 ] ثم يغيب وذلك في أدنى مفارقته الشمس ، ولا يزال في كل ليلة يزيد على مكثه في الليلة التي قبلها ستة أسباع ساعة فإذا كان في الليلة السابعة غاب في نصف الليل وإذا كان ليلة أربع عشرة تأخر ستة أسباع ساعة ، ولا يزال في كل ليلة يتأخر طلوعه عن الوقت الذي طلع فيه في الليلة التي قبلها ستة أسباع إلى أن يكون طلوعه ليلة ثمان وعشرين مع الغداة ، فإن لم ير صبح ثمان وعشرين علم أن الشهر ناقص ، وإنه من تسع وعشرين ، وإن رئي علم أنه تام ، وإن عدته ثلاثون يوما ، وقال : وقد يتعرف أيضا بمكث الهلال في ليالي النصف الأول من الشهر ومغيبه من الليل وأوقات طلوعه ليالي النصف الآخر من الشهر وتأخره عن أول الليل بضرب آخر من العلم والعمل عندهم ، ويتعرف أيضا من المنازل ، فإن الهلال إذا طلع أول ليلة من شعبان في الشرطين فكان شعبان ناقصا طلع في البطين ونحو هذا .

[ ص: 352 ] قال أبو عمر : يمكن أن يكون ما قاله هذا القائل على التقريب ، لأن أهل التعديل والامتحان ينكرون أن يكون هذا حقيقة ولذا لم يكن حقيقة وكانت الحقيقة عندهم فيما لم توقف الشريعة عليه ، ولا وردت به سنة وجب العدول عنه إلى ما سن لنا وهدينا له ، وفيما ذكر هذا القائل من الضيق ، والتنازع ، والاضطراب ما لا يليق أن يتعلق به أولو الألباب وهو مذهب تركه العلماء قديما وحديثا للأحاديث الثابتة عن النبي عليه السلام : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين . ولم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت باعتبار المنازل في ذلك ، وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير ، وليس بصحيح عنه - والله أعلم - .

ولو صح ما وجب اتباعه عليه لشذوذه ، ولمخالفة الحجة له ، وقد تأول بعض فقهاء البصرة في معنى قوله في الحديث فاقدروا له نحو ذلك ، والقول فيه واحد ، وقال ابن قتيبة في قوله فاقدروا له أي فقدروا السير والمنازل وهو قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له ، وليس هذا من شأن ابن قتيبة ، ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب ، وقد حكي عن الشافعي أنه قال : من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ، ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصيام [ ص: 353 ] ويبيته ويجزئه ، والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلا برؤية أو شهادة عادلة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما . حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أحمد بن حنبل ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن عبد الله بن أبي قيس قال : سمعت عائشة تقول كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ من شعبان ، ولا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان ، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا محمد بن عبد السلام ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن ربعي ، عن بعض أصحاب النبي عليه السلام قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تصوموا الشهر حتى تكملوا العدد ، أو تروا الهلال ثم صوموا ، ولا تفطروا حتى تكملوا العدة ، أو تروا الهلال . وهذان الحديثان ينتجان ببطلان تأويل ابن عمر ومذهبه وكذلك آثار هذا الباب ، والله يوفق من يشاء للصواب . [ ص: 354 ] وقال عمار بن ياسر من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر : أما الشهادة على رؤية الهلال فأجمع العلماء على أنه لا تقبل في شهادة شوال في الفطر إلا رجلان عدلان ، واختلفوا في هلال رمضان فقالمالك والثوري ، والأوزاعي ، والحسن بن حي وعبيد الله بن الحسن ، وابن علية لا يقبل في هلال رمضان ، ولا شوال إلا شاهدا عدل رجلان ، وقال أبو حنيفة وأصحابه في رؤية هلال رمضان شهادة رجل واحد عدل إذا كان في السماء علة ، ( وإن لم يكن في السماء علة ) لم يقبل إلا شهادة العامة ، ولا يقبل في هلال شوال وذي الحجة إلا شهادة عدلين يقبل مثلهما في الحقوق ، وإن كان في السماء علة وهو قول داود هكذا حكاه أبو جعفر الطحاوي ، عن أبي حنيفة ، وأصحابه في كتابه الكبير في الخلاف اشترط العدالة ، ولم يذكر المرأة ، وذكر عنه في الشهادة على هلال رمضان شاهد واحد مسلم [ ص: 355 ] أو امرأة مسلمة لم يشترط العدالة ، وفي الشهادة على هلال شوال رجل وامرأتان كسائر الحقوق ، واختلف قول الشافعي في هذه المسألة فحكى المزني عنه أنه قال : إن شهد على رؤية هلال رمضان رجل عدل ( واحد ) رأيت أن أقبله للأثر الذي جاء فيه ، والاحتياط والقياس ألا يقبل إلا شاهدان قال : ولا أقبل على رؤية هلال الفطر إلا عدلين ، وقال في البويطي ، ولا يصام رمضان ولا يفطر منه بأقل من شاهدين حرين مسلمين عدلين ، وقال أحمد بن حنبل من رأى هلال رمضان وحده صام ، فإن كان عدلا صوم الناس بقوله ، ولا يفطر إلا بشهادة عدلين ، ولا يفطر إذا رآه وحده .

قال أبو عمر : لم يختلف العلماء فيمن رأى هلال رمضان وحده فلم تقبل شهادته أنه يصوم ، لأنه متعبد بنفسه لا بغيره ، وعلى هذا أكثر العلماء لا خلاف في ذلك إلا شذوذ لا يشتغل به ، ومن رأى هلال شوال وحده أفطر عند الشافعي ، والحسن بن حي ، وروي عن مالك أنه لا يفطر للتهمة وهو قول أبي حنيفة ، والثوري أنه لا يفطر ومثله قول الليث وأحمد لا يفطر من رآه وحده ، واستحب الشافعي أن يخفي [ ص: 356 ] فطره ، وقال مالك : من رأى هلال رمضان وحده فأفطر فعليه الكفارة مع القضاء ، وقال أبو حنيفة : لا كفارة عليه ، والشافعي على أصله في الأكل ، فإن وطئ كفر عنده وكان الشعبي ، والنخعي يقولان لا يصوم أحد إلا مع جماعة الناس ، وقال الحسن ، وابن سيرين يفعل الناس ما يفعل إمامهم .

قال أبو عمر : قد أجمعوا على أن الجماعة لو أخطأت الهلال في ذي الحجة فوقفت بعرفة في اليوم العاشر إن ذلك يجزئها فكذلك الفطر ، والأضحى - والله أعلم - .

روى حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد بن المنكدر ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون . واختلف العلماء في الحكم إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيره من البلدان فروي عن ابن عباس وعكرمة ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله أنهم قالوا : لكل أهل بلد رؤيتهم وبه قال إسحاق بن راهويه وحجة من قال هذا القول ما حدثناه عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا محمد بن بكر بن داسة ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا موسى [ ص: 357 ] بن إسماعيل ، قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر قال : أخبرني محمد بن أبي حرملة قال : أخبرني كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال : فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل رمضان ، وأنا بالشام فرأينا الهلال ليلة الجمعة ثم قديمت المدينة في آخر الشهر فسألني ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ قال : قلت رأيته ليلة الجمعة قال : أنت رأيته ؟ قلت : نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال : لكن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما ، أو نراه قلت ، ( ولا تكتفي برؤية معاوية قال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفيه قول آخر روي عن الليث بن سعد ، والشافعي وأحمد بن حنبل قالوا : إذا ثبت عند الناس أن أهل بلد رأوه فعليهم قضاء ما أفطروا وهو قول مالك فيما روي لابن القاسم ، وقد روي عن مالك وهو مذهب المدنيين من أصحابه أن الرؤية لا تلزم غير البلد الذي حصلت فيه إلا أن يحمل الإمام على ذلك ، وأما مع اختلاف الكلمة ، فلا ، إلا في البلد بعينه ، وعمله هذا معنى قولهم وقد لخصنا مذاهبهم في ذلك في الكتاب الكافي . [ ص: 358 ] قال أبو عمر : إلى القول الأول أذهب ، لأن فيه أثرا مرفوعا وهو حديث حسن تلزم به الحجة وهو قول صاحب كبير لا مخالف له ( من الصحابة ) وقول طائفة من فقهاء التابعين ، ومع هذا ؛ إن النظر يدل عليه عندي ، لأن الناس لا يكلفون علم ما غاب عنهم في غير بلدهم ولو كلفوا ذلك لضاق عليهم أرأيت لو رئي بمكة ، أو بخراسان هلال رمضان أعواما بغير ما كان بالأندلس ثم ثبت ذلك بزمان عند أهل الأندلس ، أو عند بعضهم ، أو عند رجل واحد منهم أكان يجب عليه قضاء ذلك وهو قد صام برؤية وأفطر برؤية ، أو بكمال ثلاثين يوما كما أمر ، ومن عمل بما يجب عليه مما أمر به فقد قضى الله عنه ، وقول ابن عباس عندي صحيح في هذا الباب ، والله الموفق للصواب .

قال أبو عمر : قد مضى القول ممهدا في الهلال يرى قبل الزوال ، أو بعد الزوال في باب ثور بن زيد وأجمع العلماء على أنه إذا ثبت أن الهلال من شوال رئي بموضع استهلاله ليلا وكان ثبوت ذلك ، وقد مضى من النهار بعضه أن الناس يفطرون ساعة [ ص: 359 ] جاءهم الخبر الثبت في ذلك ، فإن كان قبل الزوال صلوا العيد بإجماع من العلماء وأفطروا ، وإن كان بعد الزوال فاختلف العلماء في صلاة العيد حينئذ فقال مالك وأصحابه لا تصلى صلاة العيد يوم العيد لا فطر ولا أضحى ، وروي مثله عن أبي حنيفة أن صلاة العيد إذا لم تصل في يوم العيد حتى تزول الشمس لم تصل بعد ، وقال أبو يوسف ومحمد يصلي بهم من الغد فيما بينه ، وبين الزوال ولو كان في الأضحى صلى بهم في اليوم الثالث ، وقال الثوري يخرجون في الفطر من الغد ، وقال الحسن بن حي لا يخرجون من الغد في الفطر ويخرجون في الأضحى ، وقال الليث يخرجون في الفطر ، والأضحى من الغد ، وقال الشافعي : إذا لم تثبت الشهادة في الفطر إلا بعد الزوال لم تصل صلاة العيد بعد الزوال ، ولا من الغد إلا أن يثبت في ذلك حديث .

قال أبو عمر : من ذهب في هذه المسألة إلى الخروج لصلاة العيد من الغد فحجته حديث أبي بشر جعفر بن أبي وحشية أن أبا عمير بن أنس حدثه قال : أخبرني عمومة لي من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : أغمي علينا هلال شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار إلى النبي عليه السلام فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمر النبي [ ص: 360 ] عليه السلام الناس بأن يفطروا من يومهم ، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد ، وهذا حديث لا يجيء إلا بهذا الإسناد ، انفرد به جعفر بن أبي وحشية أبو بشر ، وهو ثقة ، واسطي ، روى عنه أيوب ، والأعمش ، وشعبة ، وهشيم ، وأبو عوانة ، وأما أبو عمير بن أنس فيقال : إنه ابن أنس بن مالك واسمه عبد الله ، ولم يرو عنه غير أبي بشر ، ومن كان هكذا فهو مجهول لا يحتج به ، وقد أجمع العلماء على أن صلاة العيد لا تصلى يوم العيد بعد الزوال فأحرى أن لا تصلى في يوم آخر قياسا ونظرا ، إلا أن يصح بخلافه خبر وبالله التوفيق .




الخدمات العلمية