الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
987 [ ص: 35 ] حديث رابع عشر لنافع عن ابن عمر

مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية قبل نجد فيها عبد الله بن عمر . فغنموا إبلا كثيرة ، وكانت سهامهم اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا ، بعيرا .

التالي السابق


هكذا رواه يحيى ، عن مالك على شك في أحد عشر بعيرا ، أو اثني عشر بعيرا . وتابعه على ذلك جماعة رواة الموطأ ، منهم : القعنبي ، وابن القاسم ، وابن وهب ، وابن بكير ، ومطرف ، وغيرهم إلا الوليد بن مسلم ، فإنه رواه عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ; وقال فيه : فكانت سهامهم اثني عشر بعيرا . ونفلوا بعيرا ، بعيرا ، دون شك وأظنه حمله على رواية شعيب بن أبي حمزة لهذا الحديث ، فإنه عند الوليد ، عن شعيب ، عن نافع ، [ ص: 36 ] عن ابن عمر ، اثني عشر بعيرا ، بلا شك . فحمل حديث مالك على ذلك . وهو غلط منه ، - والله أعلم - .

وأما أصحاب نافع ، منهم أيوب ، وعبد الله ، وغيرهم ، فإنهم قالوا اثني عشر بعيرا بغير شك ، لم يشك واحد منهم في مالك وحده ; وذكر أبو داود حديث مالك عن القعنبي ، عن مالك ، فجمعه مع حديث الليث ، ذكره عن يزيد بن موهب ، عن الليث عن مالك ، والليث ، جميعا عن نافع ، عن ابن عمر ، اثني عشر بعيرا ( دون شك ) . وهذا أيضا مما حمل فيه حديث مالك على حديث الليث ، لأن القعنبي رواه في الموطأ عن مالك ، على الشك في اثني عشر بعيرا . أو أحد عشر بعيرا - كما رواه يحيى ، وغيره ; فلا أدري جاء هذا حين خلط حديث الليث بحديث مالك ، أم من أبي داود ؟ [ ص: 37 ] حدثنا خلف بن سعيد بن أحمد ، وعبد الله بن محمد بن يوسف ، قالا حدثنا عبد الله بن محمد بن علي ، قال حدثنا أحمد بن خالد ، قال حدثنا علي بن عبد العزيز البغوي ، قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، قال حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : كان مالك بن أنس حدثنا عن نافع ، عن ابن عمر ، عن بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياهم في سرية قبل نجد ، قال ابن عمر : فغنمنا غنائم كثيرة ، فكانت سهامنا من الجيش اثني عشر بعيرا . اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا .

وحدثنا محمد بن عبد الله بن حكم ، قال حدثنا محمد بن معاوية ، قال حدثنا إسحاق بن أبي حسان الأنماطي ، قال حدثنا هشام بن عمار ، قال حدثنا الوليد بن مسلم ، قال حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، أنه سمع نافعا ، يحدث عن ابن عمر ، قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد أربعة آلاف ، قال عبد الله : فاتبعت تلك السرية فكنت فيمن خرج فيها ، فبلغت سهمان [ ص: 38 ] الجيش اثني عشر بعيرا ، ونفل أهل السرية بعيرا ، بعيرا . قال الوليد بن مسلم : وحدثنا الليث بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : بلغت سهمان السرية اثني عشر بعيرا . ونفلنا بعيرا ، بعيرا ، فلم يغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وأخبرنا عبد الله بن محمد بن يحيى ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة ، قال حدثنا الوليد بن مسلم ، وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا موسى بن عبد الرحمن الأنطاكي ، حدثنا مبشر ، وأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا محمد بن عوف الطائي ، حدثنا [ ص: 39 ] الحكم بن نافع ، كلهم عن شعيب بن أبي حمزة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيش قبل نجد ، وانبعثت سرية من الجيش ، فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا ، اثني عشر بعيرا ، ونفل أهل السرية بعيرا ، بعيرا ، فكانت سهمانهم ثلاثة عشر بعيرا .

قال أبو داود : وحدثنا الوليد بن عتبة الدمشقي ، قال : قال الوليد - يعني ابن مسلم : حدثت ابن المبارك بهذا الحديث ، قلت وكذا حدثنا ابن أبي فروة ، عن نافع ، فقال لا يعدل من سميت بمالك ، هكذا أو نحوه .

قال أبو عمر إنما قال ابن المبارك هذا القول ، لأن شعيب بن أبي حمزة ، خالف مالكا في معنى هذا الحديث ; لأن مالكا جعل الاثني عشر بعيرا من سهمان السرية ، وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثها ، وأن القسمة والنفل كان كل ذلك لها ، لا يشركها فيه جيش ولا غيره ، وجعل شعيب بن أبي حمزة السرية منبعثة من جيش ، وأن قسمة ما غنموا كان [ ص: 40 ] بين أهل العسكر وأهل السرية ، وأن أهل السرية فضلوا على الجيش بعيرا ، بعيرا ، لموضع شخصهم ونصبهم ; وهذا حكم آخر عند جماعة الفقهاء ، إلا أنهم لا يختلفون أن كل ما أصابته السرية شركهم فيه أهل الجيش ; وكذلك ما صار لأهل العسكر شركهم فيه أهل السرية ; لأن كل واحد منهم رده لصاحبه ، إلا ما كان من النفل الجائز لأهل العسكر وللسرايا - على حسب ما بين ( من ذلك ) في هذا الباب - إن شاء الله .

وحديث الليث ، ومالك ، وعبيد الله بن عمر ، وأيوب عن نافع ، يدل على أن الاثني عشر بعيرا ، كان سهمان السرية ، وأنهم هم الذين نفلوا مع ذلك بعيرا ، بعيرا . إلا أن في حديث الليث دليلا على أن الأمير نفلهم ولقوله : فلم يغير ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وفي حديث عبيد الله بن عمر ; فنفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ، [ ص: 41 ] بعيرا . وقد يحتمل أن يكون قوله نفلنا بمعنى : أجاز ذلك لنا ، وذكر محمد بن إسحاق في هذا الحديث ، أن الأمير نفلهم قبل القسم ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم ذلك بينهم ، فأصابهم اثني عشر بعيرا لكل واحد منهم سوى البعير الذي نفلوه قبل ، وهذا نفل من رأس الغنيمة ، وهو خلاف قول مالك .

فأما رواية الليث ، فأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، وأحمد بن قاسم ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، قال حدثنا علي بن عاصم ، قال حدثنا الليث بن سعد عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية قبل نجد فيها عبد الله بن عمر ، وأن سهمانهم بلغت اثني عشر بعيرا ، ونفلوا سوى ذلك بعيرا ، بعيرا ، فلم يغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وحدثنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا القضبي ، ويزيد بن موهب ، [ ص: 42 ] قالا حدثنا الليث ، قال أبو داود : وحدثنا القضبي عن مالك ، المعنى عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد ، فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا ، زاد ابن موهب فلم يغيره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأما رواية أيوب ، فأخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا بكر بن حماد ، قال حدثنا مسدد قال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية - وكنت فيهم فبلغ سهماننا اثني عشر بعيرا ، ونفلنا بعيرا بعيرا .

وأما رواية عبيد الله بن عمر ، فأخبرنا عبد الله بن محمد ، قال حدثنا محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، وأخبرنا عبد الوارث ، قال حدثنا قاسم و قال حدثنا بكر بن حماد ، قالا حدثنا مسدد ، وحدثنا عبد الله بن محمد ، وعبد الرحمن بن [ ص: 43 ] خالد ، قالا حدثنا أحمد بن حمدان ، قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال حدثني أبي ، قالا جميعا ، حدثنا يحيى وهو ابن سعيد القطان ، عن عبيد الله بن عمر ، قال أخبرني نافع ، عن ابن عمر ، قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا ، ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ، بعيرا . قال أبو داود : وكذا رواه برد بن سنان ، عن نافع ، كما قال عبيد الله : ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا ، بعيرا . وقال أيوب : نفلنا ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال أبو عمر : قد مضى القول في هذا وقد ، روينا من حديث إسماعيل بن أمية ، عن نافع كما قال عبيد الله ، إلا أنه لفظ اختلف فيه على إسماعيل أيضا : فرواه أبو إسحاق الفزاري ، عن إسماعيل بن أمية ، وعبيد الله بن عمر جميعا ، ( عن نافع ) ، عن ابن عمر ، بلفظ واحد : ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 44 ] حدثنا عبد الوارث ، حدثنا قاسم ، حدثنا عبيد بن عبد الواحد ، حدثنا أبو صالح محبوب بن موسى الفراء ، حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن إسماعيل بن أمية ، وعبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ، فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا ، ونفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا بعيرا .

وحدثنا يعيش بن سعيد ، وعبد الوارث بن سفيان ، قالا حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا أحمد بن محمد البرتي ، قال حدثنا أبو حذيفة ، قال حدثنا محمد بن مسلم الطائفي ، عن إسماعيل بن أمية ، قال : قال نافع : قال عبد الله بن عمر : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بعث سرية قبل نجد فيهم عبد الله بن عمر ، فحدث عبد الله بن عمر ، أن سهمانهم كانت اثني عشر بعيرا ، [ ص: 45 ] ، ونفلوا سوى ذلك بعيرا بعيرا . وأبو إسحاق مع فضله ، وأبو حذيفة ، يخطئان كثيرا في الحديث .

فأما محمد بن إسحاق فأوضح هذا المعنى ، إلا أنه جعل القاسم لهذه القسمة ; رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد تنفيل أميرهم إياهم البعير : أخبرنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا محمد بن الجهم ، قال حدثنا يعلى بن عبيد الطنافسي ، قال حدثنا محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية ، فأصبنا نعما كثيرة ، فنفلنا بعيرا بعيرا ، فلما قدمنا ، أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهماننا ، فأصاب كل واحد منا اثني عشر بعيرا سوى البعير الذي نفل ، فما عاب ( علينا ) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنعنا ، ولا على الذي أعطانا . [ ص: 46 ] وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد ، قال حدثنا أبو بكر محمد بن بكر ، قال حدثنا أبو داود ، قال حدثنا هناد بن السري ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى نجد ، فخرجت معها فأصبنا نعما كثيرة ، فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا ، لكل إنسان ، قال : ثم قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقسم بيننا غنيمتنا ، فأصابت كل إنسان منا اثنا عشر بعيرا بعد الخمس ، وما حاسبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذي أعطانا صاحبنا ، ولا عاب عليه ما صنع ، فكان لكل واحد منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله .

قال أبو عمر : ظاهر هذه الروايات كلها عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن سهمانهم وقسمتهم ونفلهم كان من أميرهم ، وأنه نفلهم بعد القسمة ، وهذا يوجب أن يكون النفل من الخمس ; على هذا يتفق ظاهر معنى الحديث في رواية مالك ، وشعيب بن أبي حمزة ، وإسماعيل بن أمية ، وعبيد الله بن عمر ، وأيوب السختياني ; وخالفهم محمد بن إسحاق ، فجعل النفل من رأس الغنيمة ، ثم جعل القسمة بعد ; وقول هؤلاء أولى من قول [ ص: 47 ] محمد بن إسحاق ، لأنهم جماعة حفاظ ، واتفق هؤلاء كلهم على أن الذي حصل في السهمان لأهل السرية سوى البعير الذي نفلوا ، اثنا عشر بعيرا ، لم يشك في ذلك أحد من الرواة عن نافع ، غير مالك وحده .

وكذلك اتفقوا كلهم عن نافع في هذا الحديث على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث السرية ، وأن سهمان أهل السرية ، هي السهمان المذكورة في هذا الحديث ، وأنهم نفلوا بعيرا بعيرا مع ذلك ، حاشا شعيب بن أبي حمزة وحده ، فإنه انفرد بأن قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشا قبل نجد ، فانبعثت منه هذه السرية ، فجعل السرية خارجة من العسكر ، وليس ذلك في حديث غيره ، وإنما قال غيره : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية ، وبين الوليد بن مسلم هذا المعنى عن شعيب ، فقال في حديثه هذا : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل نجد أربعة آلاف ، فانبعثت منه هذه السرية ، وقال شعيب أيضا : إن سهمان ذلك الجيش كان اثني عشر بعيرا ، اثني عشر بعيرا ، ونفل أهل السرية خاصة بعيرا بعيرا . [ ص: 48 ] وهذا لم يقله غيره وإن كان المعنى فيه صحيحا ، إلا أنه لا يختلف العلماء أن السرية إذا أخرجت من العسكر فغنمت ، أن أهل العسكر شركاؤهم فيها ، إلا أن هذه مسألة وحكم لم يذكره في هذا الحديث غير شعيب بن أبي حمزة ، عن نافع ، إلى ما انفرد به شعيب أيضا : من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بعث جيشا فانبعثت منه تلك السرية ، ولم يذكر الإذن لها ، ولهذا - والله أعلم - قال ابن المبارك : للوليد بن مسلم أن شعيبا هذا ومن ذكر معه يعني ابن فروة ، لا يعدل بمالك بن أنس ، وصدق ابن المبارك .

قال أبو عمر : فهذا تمهيد نقل هذا الحديث ، وتهذيب إسناده وألفاظه ; وأما معانيه ، فإن فيه من الفقه بإرسال السرايا إلى أرض العدو ، وذلك عند أهل العلم مردود إلى إذن الإمام واجتهاده على قدر ما يعلم من قوة العدو وضعفه . [ ص: 49 ] وفيه أن ما يحصل عليه المسلمون ويفيدونه من أموال العدو يسمى غنيمة ، وفي هذا ومثله قال الله عز وجل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) الآية . وفيه أن ما غنمه المسلمون من أموال المشركين يقسم بينهم بعد إخراج خمسه سهمانا ، وما حصل من ذلك بأيديهم ، فهو مال من أموالهم من أطيب كسبهم ، إذا سلم من الغلول ( وإخراج خمسه ) .



وفي قول الله عز وجل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) دليل على أن أربعة أخماس الغنائم لأهلها الغانمين لها والموجفين عليها الخيل والركاب والرجل ، لأن الله عز وجل لما أضاف الغنيمة إليهم بقوله غنمتم وأخبر أن الخمس خارج عنهم لمن سمى في الآية ، علم العلماء استدلالا ونظرا صحيحا أن الأربعة الأخماس المسكوت عنها لهم مقسومة بينهم ، وهذا مالا خلاف فيه ; ألا ترى إلى قول الله عز وجل ( وورثه أبواه فلأمه الثلث ) فلما جعل الأبوين الوارثين ، وأخبر أن للأم الثلث ، استغنى عن أن يقول وللأب الثلثان ، وفيه [ ص: 50 ] أن للإمام ، وللأمير على الجيش أن ينفل من الغنائم ما شاء على قدر اجتهاده ، وفي رواية مالك وغيره ممن تابعه على هذا الحديث ، ما يدل على أن النفل لم يكن من رأس الغنيمة ، وإنما كان من الخمس ; وفي رواية محمد بن إسحاق ، ما يدل على أن ذلك كان من رأس الغنيمة ، - والله أعلم - ، أي ذلك كان ; وهذا موضع اختلف فيه العلماء ، وتنازعوا قديما وحديثا ، والنفل يكون على ثلاثة أوجه : أحدها أن يريد الإمام تفضيل بعض الجيش لشيء يراه من غنائه وبأسه وبلائه ، أو لمكروه تحمله دون سائر الجيش ، فينفله من الخمس لا من رأس الغنيمة ، أو يجعل له سلب قتيله ; وسيأتي القول في سلب القتيل في باب يحيى بن سعيد من كتابنا هذا إن شاء الله .

والوجه الآخر : أن الإمام إذا بعث سرية من العسكر ، فأراد أن ينفلها مما غنمت دون أهل العسكر ، فحقه أن يخمس ما غنمت ، ثم يعطي السرية مما بقي بعد الخمس ما شاء ، ربعا ، أو ثلثا ، ولا يزيد على الثلث ; لأنه أقصى ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفله ، ويقسم الباقي بين جميع [ ص: 51 ] أهل العسكر ، وبين السرية على السوية ، للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد .

والوجه الثالث : أن يحرض الإمام ، أو أمير الجيش أهل العسكر على القتال قبل لقاء العدو ، وينفل جميعهم مما يصير بأيديهم ويفتحه الله عليهم : الربع أو الثلث قبل القسم ، تحريضا منه على القتال ; وهذا الوجه كان مالك يكرهه ولا يراه ، وكان يقول قتالهم على هذا الوجه ، إنما يكون للدنيا ، وكان يكره ذلك ولا يجيزه ، وأجازه جماعة من أهل العلم .

وأما اختلافهم في هذا الباب ، فإن جملة قول مالك وأصحابه أن لا نفل إلا بعد إحراز الغنيمة ، ولا نفل إلا من الخمس ، والنفل عندهم أن يقول الإمام : من قتل قتيلا فله سلبه ، قال مالك : ولم يقلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد برد القتال ، وكره مالك أن يقاتل أحد على أن له كذا ، ومن الحجة في ذلك ، ما رواه علي ابن المديني ، وابن أبي شيبة ، عن زيد بن الحباب ، عن رجاء بن أبي سلمة ، قال سمعت عمرو بن شعيب يحدث عن أبيه ، عن جده ، قال لا نفل بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ليرد قوي المسلمين [ ص: 52 ] على ضعيفهم ، قال رجاء : سمعت سليمان بن موسى الدمشقي - وهو معنا جالس - يقول : سمعت مكحولا يقول عن زياد بن جارية ، عن حبيب بن مسلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نفل في البداءة الربع ، وحين قفل الثلث ، فقال عمرو بن شعيب : تراني أحدثك عن أبي ، عن جدي ، وتحدثني عن مكحول ; ففي حديث عمرو بن شعيب هذا أن لا نفل ، ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم ، وهو [ ص: 53 ] حجة لمالك ، وأما السلب بعد أن يبرد القتال فخصوص ومعمول به ، لما فيه من حديث أبي قتادة وغيره ، - والله أعلم - .

ورأي مالك رحمه الله تنفيل السلب من الخمس ; لأن الخمس مردود قسمته عنده إلى اجتهاد الإمام ، وأهله غير معينين ; ولم ير النفل من رأس الغنيمة ، لأن أهلها معينون وهم الموجفون ، وقال الشافعي جائز للإمام أن ينفل قبل إحراز الغنيمة وبعدها على وجه الاجتهاد ; قال الشافعي ، وليس في النفل حد ، قال وقد روى بعض الشاميين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل في البداءة والرجعة الثلث في واحدة ، والربع في الأخرى ، وقال في رواية ابن عمر ما يدل على أنه نفل نصف السدس ; قال فهذا يدل على أنه ليس للنفل حد لا يتجاوزه الإمام ، وأكثر مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيها إنفال ; قال : فينبغي أن يكون ذلك على الاجتهاد من محدود . [ ص: 54 ] قال الشافعي : وحديث ابن عمر يدل على أنهم أعطوا في سهمانهم ما يجب لهم مما أصابوا ، ثم نفلوا بعيرا بعيرا ، والنفل هو شيء زيدوه على الذي كان لهم ، قال : وقول سعيد بن المسيب : كان الناس يعطون النفل من الخمس كما قال ، وذلك من خمس الخمس سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وأما السلب فيخرج من رأس الغنيمة قبل أن يخمس ، وكان أبو عبيد القاسم بن سلام يقول في حديث ابن عمر هذا : النفل الذي ذكره بعد السهام ليس له وجه ، إلا أن يكون من الخمس . وقال غيره : النفل الذي في خبر ابن عمر ، إنما هو تنفيل السرايا ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفل في البداءة الثلث والربع الذي كان ينفل في القفول .

قال أبو عمر : هذا يخرج على رواية محمد بن إسحاق نصا دون غيره ، من رواة نافع ، وقد يخرج تأويلا من رواية شعيب ، والحديث الذي ذكر هذا القائل ، قد زعم علي ابن المديني أن الصحيح فيه أنه نفل في البداءة الربع ، وفي القفلة الثلث ، وضعف رواية [ ص: 55 ] من روى في هذا الحديث عن مكحول ، عن زياد بن جارية ، عن حبيب بن مسلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل الثلث في بدايته ، وقال أبو ثور : وذكر نفل النبي - صلى الله عليه وسلم - في البداءة والرجوع ، وحديث ابن عمر هذا ; ثم قال وإنما النفل قبل الخمس ، وقال الأوزاعي ، وأحمد بن حنبل : جائز للإمام أن ينفل في البداءة الربع بعد الخمس ، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس . وهو قول الحسن البصري ، وجماعة وقال النخعي : كان الإمام ينفل السرية الثلث والربع يغريهم ، أو قال يحرضهم بذلك على القتال .

وقال مكحول والأوزاعي : لا ينفل بأكثر من الثلث ، وهو قول الجمهور من العلماء لا نفل أكثر من الثلث ، وقال الأوزاعي : فإن زادهم على ذلك فليف لهم به ويجعل ذلك من الخمس ، وقال الثوري في أمير أغار فقال من أخذ شيئا فهو له ، كما قال ولا بأس أن يقول الإمام من جاء برأس فله كذا ، ومن جاء باليد فله كذا ، يغريهم قال الحسن البصري - رحمه الله - : ما نفل الإمام فهو جائز . [ ص: 56 ] وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال لجرير بن عبد الله البجلي لما قدم عليه في قومه وهو يريد الشام : هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس من كل أرض وشيء ، وقال جماعة فقهاء الشام : منهم رجاء بن حيوة ، وعبادة بن نسي ، وعدي بن عدي ، ومكحول ، والقاسم بن عبد الرحمن ، ويزيد بن أبي مالك ، ويحيى بن جابر ، والأوزاعي قالوا : الخمس من جملة الغنيمة ، والنفل من بعد الخمس ، ثم الغنيمة بين أهل العسكر بعد ذلك ; وهو قول إسحاق بن راهويه ، وأحمد بن حنبل ، وأبي عبيد ; قال أبو عبيد والناس اليوم على أن لا ينفل من جملة الغنيمة حتى يخمس .

وقال إبراهيم النخعي وطائفة : إن شاء الإمام نفلهم قبل الخمس ، وإن شاء بعد الخمس ، وكان سعيد بن المسيب يقول : لا تكون الأنفال إلا في الخمس ، وقد روي عنه أن ذلك في خمس الخمس : وقال مالك عنه إن النفل من الخمس ، وقال محمد بن جرير : لا نفل إلا بعد إخراج الخمس منه على حديث حبيب بن سلمة ، قال وكل ما وقع عليه اسم غنيمة خمس إلا [ ص: 57 ] السلب . فإنه خرج بما يجب التسليم له ، وهو قول الشافعي ، واحتجوا أيضا مع حديث ابن مسلمة بحديث معن بن يزيد السلمي ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا نفل إلا بعد الخمس قال محمد بن جرير : ولا نفل بعد إحراز الغنيمة إلا من سهم النبي عليه السلام ، لأنه محال أن ينفل من أموال الموجفين أو من سهم ذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، قال وإنما النفل قبل الغنيمة ، وذلك أن يرى الإمام من المسلمين ضعفا ، ومن المشركين نشاطا ، وهو محاصر حصنا ، فيحرض من معه على عدوهم ، فيقول : من طلع إلى الحصن ، أو يهدم هذا السور ، أو دخل هذا النقب ، أو فعل كذا ، فله كذا وكذا ، على ما كان من قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر وغير بدر ، إغراء منه بالعدو ، وقال والسلب غير النفل .



قال أبو عمر سيأتي القول في السلب وحكمه ، وهل يخمس أم لا ؟ في موضعه من كتابنا هذا ، عند ذكر حديث أبي قتادة في ذلك في باب يحيى بن سعيد - إن شاء الله . [ ص: 58 ] واختلف العلماء أيضا في النفل في أول مغنم ، وفي النفل في العين من الذهب ، فذهب الشاميون إلى أن لا نفل في أول مغنم ، وروي ذلك عن رجاء بن حيوة ، وعبادة بن نسي ، وعدي بن عدي الكندي ، ومكحول ، وسليمان بن موسى ، ويزيد بن يزيد بن جابر ، ويحيى بن جابر ، والقاسم بن عبد الرحمن ، ويزيد بن أبي مالك ، والمتوكل بن الليث ، وأبي عيينة المحاربي ، وقال الأوزاعي : السنة عندنا أن لا نفل في ذهب ، ولا فضة ، ولا لؤلؤ ، ولا في سلب ، ولا في يوم هزيمة ، ولا في وقت فتح ، وممن قال لا نفل في العين المعلومة : الذهب ، والفضة - سليمان بن موسى والأوزاعي ، وسعيد بن عبد العزيز ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وقال سليمان بن موسى لا نفل في أول شيء يصاب من المغنم ، وأنكر أحمد بن حنبل هذا ، وقال النفل يكون من كل شيء وبه قال إسحاق .

قال أبو عمر لا فرق عند جماعة فقهاء الأمصار ، وأهل النظر والأثر بين أول مغنم وغيره ، وجائز للإمام أن ينفل من العين وغيرها على قدر اجتهاده ، ولا حجة لمن جعل ذلك في أول مغنم ، أو نفاه عن أول مغنم - إلا التحكم وليس قوله في ذلك بشيء وأما قوله عز وجل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) [ ص: 59 ] الآية ، فجعل الخمس لمن سمى فيها ، وجعل الأربعة أخماس للموجفين ; فإن العلماء وإن اختلفوا في تفصيل معاني هذه الآية ، وقسم الخمس فيها ، وحكم الأنفال على حسب ما ذكرنا ، فإنهم لم يختلفوا في أن الآية ليست على ظاهرها ، وأنها يدخلها الخصوص ، فمما خصوها به بإجماع - أن قالوا سلب المقتول لقاتله إذا نادى الإمام بذلك ، ومنهم من يجعل السلب للقاتل على كل حال ، نادى الإمام به أو لم يناد ، لا يشركه فيه غيره من الموجفين ، ولا يختص السلب عند أكثرهم ، وسنبين ذلك ووجوهه في باب يحيى بن سعيد إن شاء الله ; ومعلوم أن السلب من الغنيمة ، فدل ما ذكرنا عنهم ، أنه مخصوص عندهم من جملة ما غنموا .

ومن ذلك أيضا النفل ، قد أجمعوا أن الآية مخصوصة بما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأنفال في غزواته ، إلا أنهم اختلفوا : فقال قائلون : الأنفال من الخمس ، لأن الموجفين قد استحقوا الأربعة أخماس ، وهذا قول مالك وغيره ، قالوا لا يكون النفل من رأس الغنيمة ، ولا قبل القتال ; لأنه قتال على [ ص: 60 ] الدنيا ، قالوا وإذا كان من رأس الغنيمة ، كان من مال الموجفين وأهل الخمس جميعا ، وقال آخرون لا يكون النفل إلا من خمس الخمس : سهم النبي عليه السلام ، وهذا مذهب الشافعي وجماعة ، ذهبوا إلى أن الخمس مقسوم على خمسة أسهم ، أحدها خمس النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال آخرون : لا نفل إلا من رأس الغنيمة قبل أن تحرز الغنيمة ، فإذا أحرزت استحقها أهلها الموجفون وأهل الخمس ، وهو قول الكوفيين وجماعة قد ذكرناهم .

وقال آخرون النفل جائز قبل إحراز الغنيمة وبعدها ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ذلك كله ، وأجازه لمن فعله ، وثبت ذلك عنه ; وممن قال بهذا الأوزاعي ، والشافعي وجماعة من الشاميين ، والعراقيين ، ومن ذلك أيضا الأرض واختلافهم فيها ، وفي قسمتها ، وتوقيفها ; وقد ذكرنا ذلك في باب ابن شهاب عن سعيد بن المسيب من كتابنا هذا ، فلا [ ص: 61 ] وجه لإعادته هاهنا ، وهذا كله من اختلافهم فيما ذكرنا إجماع منهم على أن الآية مخصوصة ، فيها ضمير الأنفال ، وأنها مردودة إلى الإمام على اجتهاده ، فإن شاء نفل قبل ، وإن شاء بعد - على قدر ما يراه من الاجتهاد للمسلمين ; والسلب من النفل عند جميعهم كما قال ابن عباس ، قال الله عز وجل ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين )

وفي هذه الآية دليل على أن النفل يجتهد فيه الإمام على حسب ما ثبت من أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك - والله أعلم - . وروى الثوري ، وعبيد الله بن جعفر بن نجيح وجماعة ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة ، عن سليمان بن موسى الأشدق ، عن مكحول ، عن أبي سلام الباهلي ، عن أبي أمامة الباهلي صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن عبادة بن الصامت ، قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر ، فلقي العدو ، فلما هزمهم الله ، تبعتهم طائفة من المسلمين تقاتلهم ، وأحدقت طائفة برسول الله [ ص: 62 ] - صلى الله عليه وسلم - ، واستولت طائفة على العسكر والنهب ، فلما نفى الله العدو ، ورجع الذين طلبوهم ، قالوا : لنا النفل نحن طلبنا العدو وبنا نفاهم الله وهزمهم ; وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أنتم بأحق منا ، بل هو لنا نحن أحدقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، لا ينال العدو منه غرة ، وقال الذين استولوا على العسكر والنهب : والله ما أنتم بأحق به منا ، بل هو لنا نحن أخذناه واستولينا عليه ; فأنزل الله عز وجل ( يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ) فقسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم .

قال أبو عمر : لا يختلف العلماء أن بعد هذا نزل ( واعلموا أنما غنمتم من شيء ) الآية [ ص: 63 ] فأحكم الله أمر الغنيمة ، وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المراد بما نص به في السلب وغيره ، وإنما جاء اختلاف العلماء في هذا الباب على حسب ما رووا فيه - والله أعلم - ، وأما حديث ابن عمر المذكور في هذا الباب ، فلا يحتمل تأويلا ، ولا له إلا وجه واحد ; وذلك أنهم نفلوا بعيرا بعيرا بعد سهمانهم ، فدل على أن ذلك سهمانهم ، ولا موضع لغير السهمان إلا الخمس ، على رواية أكثر أصحاب نافع لهذا الحديث ، لا على رواية ابن إسحاق .

ومما احتج به من رأى النفل من الخمس لا من رأس الغنيمة ، حديث معاوية مع عبادة بن الصامت ، وذلك أن معاوية لما غزا عام المضيف فغنم ، أرسل إلى عبادة بن الصامت يردون من المغنم ، فرده عبادة : فقال له معاوية ما أنت وذاك ؟ قال عبادة : إنك لم تكن معنا في غزوة كذا وكذا ، إذ جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله أعطني عقالا ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا طاقة لك بعقال [ ص: 64 ] من نار ، ولكن إذا خمسنا فتعال أعطك قالوا فهذا نص على أن النفل لا يكون من رأس الغنيمة ، وقال غيرهم يحتمل أن يكون الموجفين ، ويحتمل أن يكون من الخمس ، يكون من أحدهما أو أيهما كان ، فمعلوم أهله ; وإذا جاز أن يكون من الخمس - والخمس لأهله ، جاز أن يكون من سهام الموجفين ، وإن لم يكن رأس الغنيمة .

واحتجوا أيضا بحديث محمد بن سيرين أن أنس بن مالك كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في غزاة ، فأصابوا شيئا ، فأراد عبيد الله أن يعطي أنسا من الشيء قبل أن يقسم ، قال أنس : لا ، ولكن اقسم ثم أعطني من الخمس ، فقال عبيد الله : لا إلا من جميع الغنائم ، فأبى أنس أن يقبل ، وأبى عبيد الله أن يعطيه من الخمس ، وهذا من أنس بحضرة جلة من العلماء ، وربما كان هناك غيره من الصحابة ، ولم يرو عن واحد منهم نكير لذلك ; فهذا الاختلاف قديم في هذا الباب - [ ص: 65 ] وبالله التوفيق .

وحسبك بقول سعيد بن المسيب : كان الناس يعطون النفل من الخمس ، وأما حديث حبيب بن مسلمة الذي احتج به من جعل النفل من غير الخمس ، وجعله من رأس الغنيمة قبل إحرازها : فحدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال حدثنا مطلب بن شعيب ، قال حدثنا عبد الله بن صالح ، قال حدثنا معاوية بن صالح عن العلاء ، عن مكحول ، عن زياد بن جارية ، عن حبيب بن مسلمة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفل الربع بعد الخمس في البداية ، ونفل الثلث بعد الخمس في الرجعة ، ففي هذا الحديث أن النفل كان من غير الخمس - والله أعلم - .

قال أبو عمر كان أعدل الأقاويل عندي - والله أعلم - في هذا الباب - أن يكون النفل من خمس الخمس ، سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لولا أن في حديث ابن عمر هذا ، ما يدل على أنه لم يكن ذلك من خمس الخمس ، وذلك أن تنزل تلك السرية على أنهم كانوا عشرة مثالا ، ومعلوم أنك إذا عرفت ما للعشرة ، عرفت ما للمائة ، وما للألف ، وأزيد ; فمثال ذلك أن [ ص: 66 ] تكون السرية عشرة أصابوا في غنيمتهم مائة وخمسين بعيرا ، خرج منها خمسها ثلاثون بعيرا ، وصار لهم مائة وعشرون ، قسمت على عشرة ، وجب لكل واحد اثنا عشر ، اثنا عشر بعيرا ، ثم أعطي القوم من الخمس بعيرا بعيرا ; فهذا على مذهب من قال النفل من جملة الخمس ، لأن خمس الثلاثين لا يكون فيه عشرة أبعرة .

وقد يحتج من قال أن ذلك يحتمل أن يكون من خمس الخمس ، بأن يقول جائز أن يكون هناك ثياب ومتاع غير الإبل ، فأعطى من لم يبلغه البعير قيمة البعير ذلك من العروض ، ومن حجة الشافعي ومن قال بقوله ، أن النفل لا يكون إلا من خمس الخمس : سهم النبي عليه السلام ; ما ذكره أبو عبد الله المروزي - رحمه الله ، قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، قال حدثنا وهب بن جرير ، قال حدثني أبي ، قال : سمعت محمد بن إسحاق يقول : حدثني الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن جبير بن مطعم ، قال لما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - سهم [ ص: 67 ] ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ، أتيته أنا وعثمان فقلنا يا رسول الله ، هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لما وضعك الله منهم ، أفرأيت بني المطلب أعطيتهم ، ومنعتنا ونحن وهم منك بمنزلة ؟ فقال إن بني المطلب لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام ، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد - وشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصابعه ; قال فقسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم خمس الخمس ، وكان مالك رحمه الله لا يرى قسمة الخمس أخماسا ، وقال الخمس من الغنيمة حكمه حكم الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب مما أفاء الله على المسلمين ; قال ويجعل الخمس والفيء جميعا في بيت المال ، قال ويعطى أقرباء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يرى الإمام ويجتهد في ذلك ، فإن تكافأ أهل البلدان في الحاجة ، بدئ بالذين فيهم المال ، وإن كان بعض البلدان أشد حاجة ; نقل إليهم أكثر المال ، وكان مالك يرى التفضيل في العطاء على قدر الحاجة ، ولا يخرج عنده [ ص: 68 ] مال من بلد إلى غيره ، حتى يعطى أهله ما يغنيهم على وجه النظر والاجتهاد ، قال ويجوز أن يجيز الوالي على وجه الدين أو لأمر قد استحق به الجائزة ، قال والفيء حلال للأغنياء ، وقال الشافعي : يقسم الخمس على خمسة أسهم ، وهو قول الثوري وجماعة ، قالوا سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخمس خمس الخمس ، وما بقي للطبقات الذين سماهم الله ; وسهم ذي القربى عندهم باق لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقال أبو حنيفة وأصحابه يقسم الخمس على ثلاثة أسهم ، للفقراء ، والمساكين ، وابن السبيل ، وأسقطوا سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وسهم ذي القربى بعده ; وزعموا أن سهم ذي القربى كان لإدخال السرور على النبي عليه السلام في حياته وقرابته ، لأنه مضمن فيه ، فلما مات ارتفع سهمه وسهم قرابته .

واحتجوا باتفاق الخلفاء الراشدين الأربعة على منع قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كذا ذكروا ; قالوا : وما كانوا مع فضلهم وتقاهم ، ليمنعوا أحدا حظا وجب له ، فكيف - وقد قاتلوا العرب فيما وجب للمساكين من الزكوات [ ص: 69 ] إلى أشياء من فضائلهم ، وقيامهم بالحق لا يحصى ، فكيف يمنعون ذوي القربى ؟

قال أبو عمر : أما ما ذكروا من فضلهم وقيامهم بالحق فصدق ، وأما منعهم سهم ذي القربى فباطل ، وقد بينا ذلك في حديث ابن شهاب ، عن عروة ، من هذا الكتاب .

وقال محمد بن جرير : يقسم الخمس على أربعة أسهم ، لأن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مردود على من سمى معه في الآية ، قياسا على ما أجمعوا عليه فيمن عدم من أهل سهمان الصدقات .

قال أبو عمر : للكلام في قسم الخمس وإيراد ما للعلماء في ذلك من الأقوال ، موضع غير هذا ، والقول فيه يطول ، وإنما ذكرنا منه هاهنا طرفا دالا على حكم الخمس ، وحكم خمس الخمس ، لما جرى في الحديث المذكور في هذا الباب ; من أن النفل فيه كان من خمس الخمس ، أو من جملة الخمس ، أو من رأس الغنيمة ، على ما ذكرنا من اختلافهم في ذلك ; فبينا وجه الخمس وخمسه ، وسنذكر أحكامه ، وما للعلماء في ذلك من الأقوال ، ووجوه الاحتجاج في ذلك والاعتلال في ( باب ) يحيى بن سعيد - إن شاء الله .




الخدمات العلمية