الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1661 مالك عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى الآية فقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عنها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - تبارك وتعالى - خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح على ظهره فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت [ ص: 3 ] هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون . فقال رجل يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ ( قال ) : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - تبارك وتعالى - إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار .

التالي السابق


قال أبو عمر :

هذا الحديث منقطع بهذا الإسناد ، لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب وبينهما في هذا الحديث نعيم بن ربيعة وهو أيضا مع هذا الإسناد لا تقوم به حجة [ ص: 4 ] ومسلم بن يسار هذا مجهول ، وقيل : إنه مدني ، وليس بمسلم بن يسار البصري .

حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : قرأت على يحيى بن معين حديث مالك هذا ، عن زيد بن أبي أنيسة فكتب بيده على مسلم بن يسار : لا يعرف .

أخبرنا أبو عبد الله عبيد بن محمد ومحمد بن عبد الملك قالا : حدثنا عبد الله بن مسرور قال : حدثنا عيسى بن مسكين وأخبرنا قاسم بن محمد قال : حدثنا خالد بن سعد قال : حدثنا أحمد بن عمرو بن منصور قالا جميعا : حدثنا محمد بن عبد الله بن سنجر قال : حدثنا أحمد بن عبد الملك بن واقد قال : حدثنا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد - يعني ابن أبي أنيسة - عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة الأزدي وأخبرني عبد الرحمن بن يحيى وأحمد بن فتح وخلف بن القاسم قالوا : حدثنا حمزة بن محمد حدثنا أحمد بن [ ص: 5 ] شعيب قال : أخبرنا محمد بن وهب قال : حدثنا محمد بن سلمة قال : حدثني أبو عبد الرحيم قال : حدثني زيد ، وهو ابن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة قال : كنت عند عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل فسأله عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ، قال : فقال عمر : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل فسأله عنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : خلق الله آدم ، ثم استخرج منه ذرية من هو كائن منهم إلى يوم القيامة , فقال لطائفة منهم : هؤلاء للجنة خلقتهم ، وقال لطائفة : هؤلاء للنار خلقتهم , فمن خلقه الله للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يميته على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، ومن خلقه للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يميته على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار .

قال أبو عمر :

زيادة من زاد في هذا الحديث نعيم بن ربيعة ليست حجة [ ص: 6 ] لأن الذي لم يذكره أحفظ ، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن .

وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم ، لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة غير معروفين بحمل العلم ، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها من حديث عمر بن الخطاب وغيره ، جماعة يطول ذكرهم ، حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا يحيى عن عثمان بن غياث قال : حدثني عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن لقيا عبد الله بن عمر فذكرا له القدر وما يقولون فيه ، فذكر الحديث عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطوله ، وقال في آخره : وسأله رجل من مزينة - أو جهينة - فقال : يا رسول الله ، ففيم نعمل ، في شيء قد خلا ومضى ؟ أو في شيء مستأنف الآن [ ص: 7 ] فقال : في شيء قد خلا ومضى . فقال الرجل ( أو بعض القوم ) ففيم العمل ؟ فقال : إن أهل الجنة ييسرون لعمل أهل الجنة ، وإن أهل النار ييسرون لعمل أهل النار ، وروي هذا المعنى ، عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طرق وممن روى هذا المعنى في القدر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو سريحة الغفاري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وذو اللحية الكلابي وعمران بن حصين وعائشة ، وأنس بن مالك وسراقة بن جعشم وأبو موسى الأشعري وعبادة بن الصامت وأكثر أحاديث هؤلاء لها طرق شتى .

، حدثنا محمد بن خليفة قال : حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا جعفر بن محمد الفريابي قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، قال : [ ص: 8 ] فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة ، فنكس رأسه وجعل ينكت بمخصرته ، ثم قال : ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من الجنة والنار ، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة . فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل أهل الشقاء فقال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ) .

حدثنا عبد الرحمن بن يحيى وأحمد بن فتح قالا : حدثنا حمزة بن محمد قال : حدثنا سليمان بن الحسن البصري بالبصرة ، قال : حدثنا عبيد الله بن معاذ قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا سليمان بن حيان عن يزيد الرشك عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن حصين قال : قال رجل : يا رسول الله ، أعلم أهل الجنة من أهل النار ؟ قال : نعم [ ص: 9 ] قال : فلم يعمل العاملون ؟ قال : كل ميسر لما خلق له .

قال حمزة : وهذا حديث صحيح رواه جماعة ، عن يزيد الرشك منهم شعبة بن الحجاج وعبد الوارث بن سعيد .

قال أبو عمر :

وقد رواه حماد بن زيد أيضا ، عن يزيد الرشك حدثناه عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا بكر بن حماد قال : حدثنا مسدد قال : حدثنا حماد بن زيد عن يزيد الرشك عن مطرف عن عمران بن حصين .

قال قاسم : وحدثنا مضر بن محمد الأسدي قال : حدثنا شيبان بن فروخ الأيلي قال : حدثنا عبد الوارث عن يزيد قال : حدثنا مطرف عن عمران بن حصين قال : قلت : يا رسول الله ، أعلم أهل الجنة من أهل النار ؟ قال : نعم ، قال : ففيم يعمل العاملون ؟ قال : كل ميسر لما خلق له .

ورواه حجاج بن منهال عن حماد بن زيد عن يزيد الضبعي وهو يزيد الرشك حدثناه خلف بن سعيد قال : حدثنا عبد الله بن محمد قال : حدثنا حماد بن خالد قال : [ ص: 10 ] حدثنا علي بن عبد العزيز قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد بن زيد قال : حدثنا يزيد الضبعي عن مطرف يعني ابن عبد الله بن الشخير عن عمران بن حصين قال : ( قيل يا رسول الله ، أعلم أهل الجنة من أهل النار ؟ قال : نعم ، قال : ففيم العمل إذا ؟ قال : كل ميسر لما خلق له .

وقد روي من حديث يحيى بن يعمر أيضا ، عن عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله ، حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا : حدثنا قاسم قال : حدثنا عبد الله بن روح قال : حدثنا شبابة بن سوار قال : حدثنا المغيرة بن مسلم عن أبي عمر عن يحيى بن يعمر أنه كان مع عمران بن حصين وأبي الأسود الدئلي في مسجد البصرة فقال عمران : يا أبا الأسود أرأيت ما يعمل العباد يعملون فيما سبق في علم الله السابق ، أو يستأنفون العمل ؟ قال : لا , بل يعملون فيما سبق في علم الله ، قال : أخشى أن يكون ذلك جورا ، قال : لا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال عمران : ثبتك الله , إنما أردت أن [ ص: 11 ] أحزرك ، إن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عما سألتك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قلت .

حدثنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان قال : حدثنا سعيد بن عثمان وسعيد بن خمير قالا : حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح قال : حدثنا عثمان بن عمر قال : أخبرنا عزرة بن ثابت عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدئلي قال : قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ، ومضى عليهم ، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - واتخذت به عليهم الحجة ؟ قلت : لا بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم ، قال : فهل يكون شيء من ذلك ظلما ؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت : إنه ليس شيء إلا خلق الله وملك يده , فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال : سددك الله , إني والله ما سألتك إلا لأحزر عقلك ، إن رجلا من مزينة أتى النبي - صلى الله عليه [ ص: 12 ] وسلم - فقال : يا رسول الله ، أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون أشيء قضي عليهم ، ومضى عليهم ، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم واتخذت عليهم به الحجة ؟ قال : لا بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم ، قال : فلم نعمل إذا ؟ قال : من خلقه الله لواحدة من المنزلتين فهو يستعمل لها , وتصديق ذلك في كتاب الله ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها .

قال أبو عمر :

قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب ، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه ، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار ، واعتقادها ، وترك المجادلة فيها ، وبالله العصمة والتوفيق .

حدثنا محمد بن زكرياء قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا أحمد بن خالد قال : حدثنا مروان بن عبد الملك قال : حدثنا محمد بن بشار حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا سفيان عن محمد بن جحادة عن قتادة عن [ ص: 13 ] أبي السوار العدوي عن الحسن بن علي قال : رفع الكتاب وجف القلم وأمور تقضى في كتاب قد خلا ، قال : وحدثنا مروان بن عبد الملك قال : حدثنا أبو حاتم قال : حدثنا الأصمعي قال : حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، قال : أما والله لو كشف الغطاء لعلمت القدرية أن الله ليس بظلام للعبيد ، قال : وحدثنا محمد بن بشار قال : حدثنا روح بن عبادة قال : حدثنا حبيب بن الشهيد عن محمد بن سيرين قال : ما ينكر هؤلاء أن يكون الله - عز وجل - قد علم علما فجعله كتابا .

قال أبو عمر :

قال الله - عز وجل - إنا كل شيء خلقناه بقدر ، وقال : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين فليس لأحد مشيئة تنفذ إلا أن تنفذ منها مشيئة الله تعالى ، وإنما يجري الخلق فيما سبق من علم الله , والقدر سر الله [ ص: 14 ] لا يدرك بجدال ولا يشفي منه مقال ، والحجاج فيه مرتجة لا يفتح شيء منها إلا بكسر شيء وغلقه ، وقد تظاهرت الآثار ، وتواترت الأخبار فيه ، عن السلف الأخيار الطيبين الأبرار وبالاستسلام ، والانقياد ، والإقرار بأن علم الله سابق ، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد وما ربك بظلام للعبيد .

حدثنا إبراهيم بن شاكر قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان قال حدثنا سعيد بن عثمان وسعيد بن خمير قالا : حدثنا أحمد بن عبد الله بن صالح قال : حدثنا محمد بن زرعة الرعيني قال : حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال : من الله تعالى التنزيل ، وعلى رسوله التبليغ ، وعلينا التسليم ( وبالله التوفيق ) .




الخدمات العلمية