هو الواقع مسببا عن سبب اقتضاه ، نحو : كسرته فانكسر ، قال ( قاعدة ) فعل المطاوعة ابن مالك في شرح الخلاصة : هو الدال على قبول مفعول لأثر الفاعل ، ومعنى ذلك أن الفعل المطاوع بكسر الواو يدل على أن المفعول لقولك : كسرت الشيء ، يدل على مفعول معالجتك في إيصال الفعل إلى المفعول ، فإذا قلت : فانكسر ، علم أنه قبل الفعل ، وإذا قلت : لم ينكسر علم أنه لم يقبله ، وأما المطاوع بفتح الواو ، فيدل على معالجة الفاعل في إيصال فعله إلى المفعول ، ولا يدل على أن المفعول قبل الفعل أو لم يقبله .
وذكر وغيره أن المطاوع والمطاوع ، لا بد وأن يشتركا في أصل المعنى ، وأن الفرق بينهما إنما هو من جهة التأثر والتأثير ، كالكسر والانكسار ، إذ لا معنى للمطاوعة إلا حصول فعل عن فعل ، فالثاني مطاوع ، لأنه طاوع الأول ، والأول مطاوع ، لأنه طاوعه الثاني ، فيكون المطاوع لازما للمطاوع ، ومرتبا عليه . الزمخشري
[ ص: 124 ] وقد استشكل هذا بقوله تعالى : ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ) ( فصلت : 17 ) فأثبت الهدى بدون الاهتداء .
وقوله : أمرته فلم يأتمر . فأثبت الأمر بدون الائتمار ، وأيضا فاشتراط الموافقة في أصل المعنى منقوض بقوله : أمرته فأتمر ، أي امتثل ، فإن الامتثال خلاف الطلب .
وأجيب بأنه ليس المراد بـ ( فهديناهم فاستحبوا العمى ) الهدي الحقيقي ، بل أوصلنا إليهم أسباب الهداية من بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يلزم وجود الاهتداء ، وأما الأمر فيقتضيه لغة ألا يثبت إلا بالامتثال والائتمار .
وقال المطرزي في المغرب : الائتمار من الأضداد ، وعليه قول شيخنا في الأساس ، يقال : أمرته فائتمر ، وأبى أن يأتمر ، أي أمرته فاستبد برأيه ولم يمتثل ، [ ص: 125 ] والمراد بالمؤتمر الممتثل ، ويقال : علمته فلم يتعلم ، لأن التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم لإيجاده . كذا قاله الإمام فخر الدين ، ومنعه بعضهم .
وقال الشيخ علاء الدين الباجي : لو لم يصح : علمته فما تعلم ، لما صح : علمته فعلم ، لأنه إذا كان التعليم يقتضي إيجاد العلم ، وهو علة فيه ، فمعلوله وهو التعلم يوجد معه ، بناء على أن العلة مع المعلول ، والفاء في قولنا : فتعلم ، تقتضي تعقب العلم ، وإن قلنا : المعلول يتأخر ، فلا فائدة في ( فتعلم ) لأن التعلم قد فهم من " علمته " ، فوضح أنه لو صح علمته فما تعلم ، لكان إما ألا يصح : علمته فتعلم ، بناء على أن العلة مع المعلول ، أو لا يكون في قولنا : " فتعلم " فائدة بتأخر المعلول .
فإن قيل : قد منعوا " كسرته " فما انكسر ، فما وجه صحة قولهم : علمته فما تعلم ؟ قيل : فرق بعضهم بينهما بأن العلم في القلب من الله يتوقف على أمر من المعلم ومن المتعلم ، وكان علمه موضوعا للجزاء الذي من المعلم فقط ، لعدم إمكان فعل من المخلوق يحصل به العلم ، ولا بد بخلاف الكسر ، فإن آثره لا واسطة بينه وبين الانكسار .
واعلم أن الأصل في الفعل المطاوعة أن يعطف عليه بالفاء ، تقول : دعوته فأجاب وأعطيته فأخذ ، ولا تقولها بالواو ، لأن المراد إفادة السببية ، وهو لا يكون في الغالب إلا بالفاء كقوله : ( من يهد الله فهو المهتدي ) ( الأعراف : 178 ) .
ويجوز عطفه بالواو كقوله : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ) ( الكهف : 28 ) . وكقوله : ( فاستجبنا له ونجيناه ) ( الأنبياء : 88 ) .
[ ص: 126 ] وفي موضع آخر : ( فاستجبنا له فنجيناه ) ( الأنبياء : 76 ) .
وزعم في كتاب " الخصائص " أنه لا يجوز فعل المطاوعة إلا بالفاء . وأجاب عن قوله تعالى : ( ابن جني ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) ( الكهف : 28 ) بأن " أغفل " في الآية بمعنى وجدناه غافلا ، لا جعلناه يغفل ، وإلا لقيل : فاتبع هواه بالفاء ، لأنه يكون مطاوعا . وفي كلامه نظر ، لأنا نقول : ليس اتباع الهوى مطاوعا لـ " أغفلنا " ، بل المطاوع لـ " أغفلنا " غفل .
فإن قيل : إنه من لازم الغفلة اتباع الهوى ، والمسبب عن السبب سبب . قيل : لا نسلم أن اتباع الهوى مسبب عن الغفلة ، بل قد يغفل عن الذكر ، ولا يتبع الهوى ، ويكون المانع له منه غفلة أخرى عنه ، كما حصلت له غفلة عن الذكر ، أو ترد به ، أو خوف الناس ، علمنا أنه مسبب عنها ، إلا أن كلامنا في المسبب المطاوع ، لا في المسبب مطلقا وتسبب اتباع الهوى عن الغفلة ليس عن المطاوعة .
واعلم أن الحامل لأبي الفتح على هذا الكلام اعتقاده الاعتزالي أن معصية العبد لا تنسب إلى الله تعالى ، وأنها مسببة له ، فلهذا جعل " أفعل " هنا بمعنى " وجد " ، لا بمعنى التعدية خاصة . وقد بينا ضعف كلامه ، وأن المطاوع لا يجب عطفه بالفاء .
وقال في قوله تعالى : ( الزمخشري ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله ) ( النمل : 15 ) هذا موضع الفاء كما يقال : أعطيته فشكر ، ومنعته فصبر ، وإنما عطف بالواو للإشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم ، فأضمر ذلك ثم عطف عليه بالتحميد ، كأنه قال : فعملا به وعلماه ، وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة ، وقالا الحمد لله .
[ ص: 127 ] وقال السكاكي : يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عما صنع بهما ، وعما قالا ، كأنه قال : نحن فعلنا إيتاء العلم ، وهما فعلا الحمد ، من غير بيان ترتبه عليه اعتمادا على فهم السامع ، كقولك : " قم يدعوك " بدل " قم فإنه يدعوك " .
وأما قوله تعالى : ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) فظن بعض الناس أن التقوى سبب التعليم ، والمحققون على منع ذلك ، لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط ، فلم يقل : " واتقوا الله ويعلمكم " . ولا قال : " فيعلمكم الله " . وإنما أتى بواو العطف ، وليس فيه ما يقتضي أن الأول سبب للثاني ، وإنما غايته الاقتران والتلازم ، كما يقال : زرني وأزورك ، وسلم علينا ونسلم عليك ، ونحوه ، مما يقتضي اقتران الفعلين والتعارض من الطرفين ، كما لو قال عبد لسيده : أعتقني ولك علي ألف ، أو قالت المرأة لزوجها : طلقني ولك علي ألف ، فإن ذلك بمنزلة قولها بألف أو على ألف . وحينئذ فيكون متى علم الله العلم النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك .
ونظير الآية قوله تعالى : ( فاعبده وتوكل عليه ) ( هود : 123 ) . وقوله عقيب ذكر الغيبة ( واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) ( الحجرات : 12 ) ووجه هذا الختام التنبيه على التوبة من الاغتياب ، وهو من الظلم . وههنا بحث ، وهو أن الأئمة اختلفوا في أن العلم هل يستدعي مطاوعة أم لا ؟ على قولين :
- ( أحدهما ) : نعم بدليل قوله تعالى : ( من يهد الله فهو المهتدي ) ( الأعراف : 178 ) فأخبر عن كل من هداه الله بأنه يهتدي ، وأما قوله : ( وأما ثمود فهديناهم ) ( فصلت : 17 ) فليس منه لأن المراد بالهداية فيه الدعوة بدليل : ( فاستحبوا العمى على الهدى ) ( فصلت : 17 ) .
- ( والثاني ) لا يدل على المطاوعة بدليل قوله : ( وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) [ ص: 128 ] ( الإسراء : 59 ) وقوله : ( ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) ( الإسراء : 60 ) لأن التخويف حصل ، ولم يحصل للكفار خوف نافع يصرفهم إلى الإيمان ، فإنه المطاوع للتخويف المراد بالآية الكريمة ، وعلى الأول تكون الفاء للتعقيب في الزمان ، ويكون " أخرجته فما خرج " حقيقة