ومن ذلك . وقد اختلف النحاة وغيرهم في أنها تدل على الانقطاع على مذاهب : الإخبار عن ذات الله أو صفاته وغيرها بـ " كان "
أحدها : أنها تفيد الانقطاع لأنها فعل يشعر بالتجدد .
والثاني : لا تفيده بل تقتضي الدوام والاستمرار ، وبه جزم ابن معط في ألفيته ؛ حيث قال :
وكان للماضي الذي ما انقطعا
.وقال الراغب في قوله تعالى : ( وكان الشيطان لربه كفورا ) ( الإسراء : 27 ) نبه بقوله " كان " على أنه لم يزل منذ أوجد منطويا على الكفر .
والثالث : أنه عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : ( وكان الله غفورا رحيما ) ( الأحزاب : 50 ) قاله في قوله تعالى : ( الزمخشري كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ( آل عمران : 110 ) .
[ ص: 108 ] وذكر ابن عطية في سورة الفتح أنها حيث وقعت في صفات الله تعالى فهي مسلوبة الدلالة على الزمان .
والصواب من هذه المقالات مقالة وأنها تفيد اقتران معنى الجملة التي تليها بالزمن الماضي لا غير ، ولا دلالة لها نفسها على انقطاع ذلك المعنى ولا بقائه ، بل إن إفادة الكلام شيئا من ذلك كان لدليل آخر . الزمخشري ،
إذا علمت هذا فقد وقع في القرآن إخبار الله تعالى عن صفاته الذاتية وغيرها بلفظ كان كثيرا ، نحو : ( وكان الله سميعا عليما ) ( النساء : 148 ) ( واسعا حكيما ) ( النساء : 130 ) . ( غفورا رحيما ) ( الأحزاب : 59 ) . ( توابا رحيما ) ( النساء : 64 ) . ( وكنا بكل شيء عالمين ) ( الأنبياء : 81 ) . ( وكنا لحكمهم شاهدين ) ( الأنبياء : 78 ) .
فحيث وقع الإخبار " بـكان " عن صفة ذاتية فالمراد الإخبار عن وجودها ، وأنها لم تفارق ذاته ، ولهذا يقررها بعضهم بـ " ما زال " فرارا مما يسبق إلى الوهم ، إن كان يفيد انقطاع المخبر به عن الوجود لقولهم ، دخل في خبر كان ، قالوا : فكان وما زال مجازان ، يستعمل أحدهما في معنى الآخر مجازا بالقرينة . وهو تكلف لا حاجة إليه ، وإنما معناها ما ذكرناه من أزلية الصفة ، ثم تستفيد بقاءها في الحال ، وفيما لا يزال بالأدلة العقلية ، وباستصحاب الحال .
وعلى هذا التقدير سؤالان .
( أحدهما ) : أن البارئ سبحانه وصفاته موجودة قبل الزمان والمكان ، فكيف تدل كان الزمانية على أزلية صفاته ، وهي موجودة قبل الزمان ؟
( وثانيهما ) : مدلول " كان " اقتران مضمون الجملة بالزمان اقترانا مطلقا فما الدليل على استغراقه الزمان ؟
[ ص: 109 ] والجواب عن الأول أن الزمان نوعان : حقيقي ، وهو مرور الليل والنهار ، أو مقدار حركة الفلك على ما قيل فيه . وتقديري ، وهو ما قبل ذلك وما بعده ، كما في قوله تعالى : ( ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ) ( مريم : 62 ) ولا بكرة هناك ولا عشيا ، وإنما هو زمان تقديري فرضي .
وكذلك قوله تعالى : ( خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ) ( الفرقان : 59 ) مع أن الأيام الحقيقية لا توجد إلا بوجود السماوات والأرض والشمس والقمر ، وإنما الإشارة إلى أيام تقديرية .
وعن الثاني أن كان لما دلت على اقتران مضمون الجملة بالزمان ، لم يكن بعض أفراد الأزمنة أولى بذلك من بعض ، فإما ألا يتعلق مضمونها بزمان فيعطل ، أو يعلق بعضها دون بعض ، وهو ترجيح بلا مرجح ، أو يتعلق بكل زمان وهو المطلوب .
وحيث وقع الإخبار بها عن صفة فعلية ، فالمراد تارة الإخبار عن قدرته عليها في الأزل ، نحو : كان الله خالقا ورازقا ومحييا ومميتا ، وتارة تحقيق نسبتها إليه ، نحو : ( وكنا فاعلين ) ( الأنبياء : 79 ) وتارة ابتداء الفعل وإنشاؤه ، نحو : ( وكنا نحن الوارثين ) ( القصص : 58 ) فإن الإرث إنما يكون بعد موت المورث ، والله سبحانه مالك كل شيء على الحقيقة ، من قبل ومن بعد .
وحيث أخبر بها عن صفات الآدميين فالمراد التنبيه على أنها فيهم غريزة وطبيعة مركوزة في نفسه ، نحو : ( وكان الإنسان عجولا ) ( الإسراء : 11 ) . ( إنه كان ظلوما جهولا ) ( الأحزاب : 72 ) . ويدل عليه قوله : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا ) ( المعارج : 19 - 21 ) أي خلق على هذه الصفة ، وهي حال مقدرة ، أو بالقوة ، ثم تخرج إلى الفعل .
وحيث أخبر بها عن أفعالهم دلت على اقتران مضمون الجملة بالزمان ، نحو : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ) ( الأنبياء : 90 ) .
ومن هذا الباب الحكاية عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ [ ص: 110 ] " كان يصوم " ، و " كنا نفعل " ، وهو عند أكثر الفقهاء والأصوليين يفيد الدوام ، فإن عارضه ما يقتضي عدم الدوام مثل أن يروى : " كان يمسح مرة " ، ثم نقل أنه يمسح ثلاثا ، فهذا من باب تخصيص العموم ، وإن روي النفي ، والإثبات تعارضا .
وقال الصفار في شرح : إذا استعملت للدلالة على الماضي فهل تقتضي الدوام والاتصال أم لا ؟ مسألة خلاف ، وذلك أنك إذا قلت : كان زيد قائما ، فهل هو الآن قائم ؟ الصحيح أنه ليس كذلك ، هذا هو المفهوم ضرورة ، وإنما حملهم على جعلها للدوام ما ورد من مثل قوله تعالى : ( سيبويه وكان الله غفورا رحيما ) ( الأحزاب : 73 ) وقوله : ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ) ( الإسراء : 32 ) وهذا عندنا يتخرج على أنه جواب لمن سأل : هل كان الله غفورا رحيما ؟ وأما الآية الثانية ، فالمعنى أي قد كان عندكم فاحشة ؟ وكنتم تعتقدون فيه ذلك فتركه يسهل عليكم .
قال في أماليه : اختلف في " كان " في نحو قوله : ( ابن الشجري وكان الله عزيزا حكيما ) ( النساء : 158 ) على قولين :
[ ص: 111 ] أحدهما : أنها بمعنى لم يزل ، كأن القوم شاهدوا عزا وحكمة ومغفرة ورحمة ، فقيل لهم : لم يزل الله كذلك . قال : وهذا قول . سيبويه
والثاني : أنها تدل على وقوع الفعل فيما مضى من الزمان ، فإذا كان فعلا متطاولا لم يدل دلالة قاطعة على أنه زال وانقطع ، كقولك : كان فلان صديقي ، لا يدل هذا على أن صداقته قد زالت ، بل يجوز بقاؤها ويجوز زوالها .
فمن الأول قوله تعالى : ( إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ) ( النساء : 101 ) لأن عداوتهم باقية .
ومن الثاني قوله تعالى : ( وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم ) ( المائدة : 117 ) . وقال بعضهم : يدل على أن خبرها كان موجودا في الزمن الماضي ، وأما في الزمن الحاضر فقد يكون باقيا مستمرا ، وقد يكون منقطعا ، فالأول كقوله تعالى : ( وكان الله غفورا رحيما ) ( الأحزاب : 73 ) وكذا سائر صفاته لأنها باقية مستمرة .
قال : قد يرجع الانقطاع بالنسبة للمغفور لهم والمرحومين ، بمعنى أنهم انقرضوا فلم يبق من يغفر له ، ولا من يرحم ، فتنقطع المغفرة والرحمة . السيرافي
وكذا ( وكان الله عليما حكيما ) ( النساء : 170 ) ، ومعناه الانقطاع فيما وقع عليه العلم والحكمة ، لا نفس العلم والحكمة . وفيه نظر . وقال ابن بري ما معناه : إن " كان " تدل على تقديم الوصف وقدمه ، وما ثبت قدمه استحال عدمه ، وهو كلام حسن .
وقال منصور بن فلاح اليمني في كتاب الكافي : قد تدل على الدوام بحسب [ ص: 112 ] القرائن كقوله : ( وكان الله غفورا رحيما ) ( الأحزاب : 73 ) ( وكان الله سميعا بصيرا ) ( النساء : 134 ) . ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ( النساء : 103 ) دلت على الدوام المتصف بتلك الصفات ودوام التعبد بالصفات ، وقد تدل على الانقطاع ، نحو : كان هذا الفقير غنيا ، وكان لي مال .
وقال أبو بكر الرازي : " كان " في القرآن على خمسة أوجه :
1 - بمعنى الأزل ، والأبد ، كقوله تعالى : ( وكان الله عليما حكيما ) ( النساء : 170 ) .
2 - وبمعنى المضي المنقطع كقوله : ( وكان في المدينة تسعة رهط ) ( النمل : 48 ) وهو الأصل في معاني " كان " ، كما تقول : كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا أو نحوه .
3 - وبمعنى الحال كقوله تعالى : ( كنتم خير أمة ) ( آل عمران : 110 ) وقوله : ( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) ( النساء : 103 ) .
4 - وبمعنى الاستقبال كقوله تعالى : ( ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) ( الإنسان : 7 ) .
5 - وبمعنى صار كقوله : ( وكان من الكافرين ) ( البقرة : 34 )