وأن الفعل يدل على التجدد ، والحدوث ، والاسم على الاستقرار والثبوت ، ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر .
فمنه قوله تعالى : ( وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ) ( الكهف : 18 ) فلو قيل : ( يبسط ) لم يؤد الغرض ، لأنه لم يؤذن بمزاولة الكلب البسط ، وأنه يتجدد له شيء بعد شيء ، فباسط أشعر بثبوت الصفة .
وقوله : ( هل من خالق غير الله يرزقكم ) ( فاطر : 3 ) لو قيل : " رازقكم " لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئا بعد شيء ؛ ولهذا جاءت الحال في صورة المضارع ، مع أن العامل الذي يفيده ماض ، كقولك : جاء زيد يضرب ، وفي التنزيل : ( وجاءوا أباهم عشاء يبكون ) ( يوسف : 16 ) إذ المراد أن يريد صورة ما هم عليه وقت المجيء ، وأنهم آخذون في البكاء يجددونه شيئا بعد شيء ، وهذا هو سر الإعراض عن اسم الفاعل والمفعول إلى صريح الفعل والمصدر .
ومن هذا يعرف لم قيل : ( الذين ينفقون ) ( البقرة : 274 ) ولم يقل المنفقين في غير موضع ، وقيل كثيرا : المؤمنون والمتقون ; لأن حقيقة النفقة أمر فعلي شأنه الانقطاع والتجدد بخلاف الإيمان ، فإن له حقيقة تقوم بالقلب يدوم مقتضاها ، وإن غفل عنها ، كذلك التقوى والإسلام ، والصبر والشكر ، والهدى ، والضلال ، والعمى والبصر ، فمعناها [ ص: 60 ] أو معنى وصف الجارحة ، كل هذه لها مسميات حقيقية أو مجازية تستمر ، وآثار تتجدد وتنقطع ، فجاءت بالاستعمالين ، إلا أن لكل محل ما يليق به ، فحيث يراد تجدد حقائقها ، أو آثارها ، فالأفعال ، وحيث يراد ثبوت الاتصاف بها فالأسماء ، وربما بولغ في الفعل فجاء تارة بالصيغة الاسمية ، كالمجاهدين ، والمهاجرين ، والمؤمنين لأنه للشأن والصفة ، هذا مع أن لها في القلوب أصولا ، وله ببعض معانيها التصاق قوى هذا التركيب ، إذ القلب فيه جهاد الخواطر ، وعقد العزائم على فعل الجهاد ، وغيره ، وفيه هجران الخواطر الرديئة ، والأخلاق الدنيئة ، وعقد على فعل المهاجرة ، كما فيه عقد على الوفاء بالعهد ، وحيث يستمر المعاهد عليه إلى غير ذلك .
وانظر هنا إلى لطيفة ، وهو أن ما كان من شأنه ألا يفعل إلا مجازاة ، وليس من شأنه أن يذكر الاتصاف به ، لم يأت إلا في تراكيب الأفعال كقوله تعالى : ( ويضل الله الظالمين ) ( إبراهيم : 27 ) وقال : ( وإن الله لهادي الذين آمنوا ) ( الحج : 54 ) ( ولكل قوم هاد ) ( الرعد : 7 ) .
وأما قوله تعالى : ( وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ) ( القصص : 59 ) ، فإن الإهلاك نوع اقتدار بين ، مع أن جنسه مقضي به على الكل ، عالين وسافلين ، لا كالضلال الذي جرى مجرى العصيان .
ومنه قوله تعالى : ( تذكروا فإذا هم مبصرون ) ( الأعراف : 201 ) لأن البصر صفة لازمة للمتقي ، وعين الشيطان ربما حجبت فإذا تذكر رأى المذكور ، ولو قيل : يبصرون لأنبأ عن تجدد واكتساب فعل لا عود صفة .
وقوله : ( الذي خلقني فهو يهدين ) ( الشعراء : 78 ) أتى بالماضي في " خلق " ، لأن خلقه مفروغ منه ، وأتى بالفاء دون الواو لأنه كالجواب إذ من صور المني ، قادر على أن يصيره ذا هدى ، وهو للحصر ، لأنهم كانوا يزعمون أن آلهتهم تهديهم ، ثم قال : ( والذي هو يطعمني ويسقين ) ( الشعراء : 79 ) فأتى بالمضارع لبيان تجدد الإطعام والسقيا ، وجاءت الواو دون الفاء لأنهم كانوا لا يفرقون بين المطعم والساقي ، ويعلمون [ ص: 61 ] أنهما من مكان واحد ، وإن كانوا يعلمون أنه من إله ، وأتى بـ " هو " لرفع ذلك ، ودخلت الفاء في ( فهو يشفين ) ( الشعراء : 79 ) لأنه جواب ، ولم يقل : إذا مرضت فهو يشفين . إذ يفوت ما هو موضوع لإفادة التعقيب ، ويذهب الضمير المعطي معنى الحصر ، ولم يكونوا منكرين الموت من الله ، وإنما أنكروا البعث فدخلت " ثم " لتراخي ما بين الإماتة ، والإحياء .
وقوله تعالى : ( أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) ( الأعراف : 193 ) لأن الفعل الماضي يحتمل هذا الحكم دائما ، ووقتا دون وقت ، فلما قال : أم أنتم صامتون ، أي سكوتكم عنهم أبدا ، ودعاؤكم إياهم واحد ، ولأن " صامتون " فيه مراعاة للفواصل فهو أفصح وللتمكين من تطريفه بحرف المد واللين ، وهو للطبع أنسب من صمتهم ، وصلا ووقفا . وفيه وجه آخر ، وهو أن أحد القسمين موازن للآخر ، فيدل على أن المعنى : " أنتم داعون لهم دائما أم أنتم صامتون " .
فإن قيل : لم لا يعكس ؟ قلنا : لأن الموصوف الحاضر ، والمستقبل ، لا الماضي ، لأن قبله : ( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ) ( الأعراف : 193 ) والكلام بآخره ، فالحكم به قد يرجح .
وقوله تعالى : ( أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين ) ( الأنبياء : 55 ) ولم يقل : أم لعبت ، لأن العاقل لا يمكن أن يلعب بمثل ما جاء به ظاهرا ، وإنما يكون ذلك أحد رجلين إما محق ، وإما مستمر على لهو الصبا ، وغي الشباب ، فيكون اللعب من شأنه حتى يصدر عنه مثل ذلك ، ولو قال : أم لعبت ، لم يعط هذا .
وقوله تعالى حاكيا عن المنافقين : ( آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) ( البقرة : 8 ) يريدون أحدثنا الإيمان ، وأعرضنا عن الكفر ، ليروج ذلك ، خلافا منهم كما أخبر تعالى عنهم في قوله : ( يخادعون الله والذين آمنوا ) ( البقرة : 9 )
وجاءت الاسمية في الرد عليهم بقوله : ( وما هم بمؤمنين ) ( البقرة : 8 ) لأنه أبلغ من نفي الفعل ، إذ يقتضي إخراج أنفسهم وذواتهم عن أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين ، وينطوي تحته على سبيل القطع نفي بما أثبتوا لأنفسهم من الدعوى الكاذبة على طريقة : [ ص: 62 ] ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ) ( المائدة : 37 ) مبالغة في تكذيبهم ولذلك أجيبوا بالباء ، وكلامهم في هذا كما قيل :
خلي من المعنى ولكن مفرقع
.وإذا قيل : " أنا مؤمن " أبلغ من " آمن " ونفي الأبلغ لا يستلزم نفي ما دونه ، وما حقيقة إخراج ذواتهم من جنس المؤمنين لم يرجع في البيان إلا على عي ، أو ترويج ، ولكن ذم الله تعالى طائفة تقول : آمنا ، وهي حالة القول ليست بمؤمنة ، بيانا لأن هذا القول إنما صدر عنها ادعاء بحضور الإيمان حالة القول ، والانتظام بذلك في سلك المتصفين بهذه الصفة ، وهم ليسوا كذلك ، فإذا ذمهم الله شمل الذم أن يكونوا آمنوا يوما ثم تخلوا ، وأن يكونوا ما آمنوا قط من طريق الأولى والتعميم فقط ، وأعلم به أن ذلك حكم من ادعى هذا الدعوى على هذه الحال ، وبين أن هذا القول إنما قصدوا به التمويه ، بقوله : ( يخادعون الله والذين آمنوا ) ( البقرة : 9 ) ولو قال : وما آمنوا ، لم يفد إلا نفيه عنهم في الماضي ، ولم يفد ذمهم ، إن كانوا آمنوا ، ثم ارتدوا ، وهذا أفاد نفيه في الحال ، وذمهم بكل حال ، ولأن ما فيه " مؤمنين " أحسن من " آمنوا " لوجود التمكين بالمد ، والوقف عقبه على حرف له موقف .
وأما قوله تعالى : ( وما هم منها بمخرجين ) ( الحجر : 48 ) دون يخرجون ، فقيل : ما سبق ، وقيل : استوى هنا يخرجون وخارجين في إفادة المعنى ، واختير الاسم لخفته وأصالته .
وكذلك قوله تعالى : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ) ( البقرة : 14 ) لأنهم مع المؤمنين يدعون حدوث الإيمان ومع شياطينهم يخبرون عن أنفسهم بالثبات على الإيمان بهم .
ومنه قوله تعالى : ( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ) ( الروم : 9 ) قال الإمام : لأن الاعتناء بشأن إخراج الحي من الميت لما كان أشد أتى بالمضارع ليدل على التجدد ، كما في قوله تعالى : ( فخر الدين الرازي الله يستهزئ بهم ) ( البقرة : 15 )