التاسعة : أبلغ من جعلها نمطا واحدا ، قال فصل الجمل في مقام المدح والذم أبو [ ص: 27 ] علي الفارسي : إذا ذكرت صفات في معرض المدح والذم فالأحسن أن يخالف في إعرابها ; لأن المقام يقتضي الإطناب ، فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل ; لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن ، وعند الإيجاز تكون نوعا واحدا .
ومثله في المدح قوله : والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة ( النساء : 162 ) فانتصب ( المقيمين ) على القطع وهو من صفة المرفوع الذي هو ( المؤمنون ) وقيل : بل انتصب بالعطف على قوله : ( بما أنزل إليك ) ( النساء : 162 ) وهو مجرور ، وكأنه قال : " يؤمنون بالذي أنزل إليك وبالمقيمين " أي : بإجابة المقيمين ، والأول أولى ; لأن الموضع للتفخيم ، فالأليق به إضمار الفعل حتى يكون الكلام جملة لا مفردا .
ومثله قوله تعالى : ولكن البر من آمن بالله إلى قوله : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين ( البقرة : 177 ) نص عليه وجوز سيبويه ، أن يحمل على قوله : السيرافي وآتى المال على حبه ذوي القربى ( البقرة : 177 ) إلى أن قال والصابرين ورده الصفار بأنه لا يعطف على الموصول قبل تمام الصلة ، وإن كان والصابرين معطوفا على والسائلين فهو من صلة " من " فكذلك المعطوف عليه .
والصواب أن يكون المعطوف من صلة ( من ) وتكون الصلة كملت عند قوله تعالى : ( وآتى الزكاة ) ( البقرة : 177 ) ثم أخذ في القطع ، ومثاله في الذم وامرأته حمالة الحطب ( المسد : 4 ) بنصب حمالة [ ص: 28 ] تنبيهان : الأول : إنما يحسن القطع بشرطين : أحدهما : أن يكون الموصوف معلوما أو منزلا منزلة المخاطب لا يتصور عنده البناء على مجهول .
وقولنا : " أو منزلا منزلة المعلوم " لا بد منه .
وقال في قوله تعالى : الزمخشري الذي له ملك السماوات والأرض ( الفرقان : 2 ) : رفع على الإبدال من ( الذي نزل ) ( الفرقان : 1 ) أو رفع على المدح ، أو نصب عليه .
قال الطيبي : والإبدال أولى ; لأن من حق صلة الموصول أن تكون معلومة عند المخاطب ، وكونه تعالى : نزل الفرقان على عبده ( الفرقان : 1 ) لم يكن معلوما للعالمين ، فأبدل بقوله : ( له ملك السماوات والأرض ) بيانا وتفسيرا وتبين لك المدح .
وجوابه ما ذكرنا أن المنزل منزلة المعلوم بمنزلة المعلوم ، وهاهنا لقوة دليله أجري مجرى المعلوم ، وجعلت صلة ، نص عليه والجمهور . سيبويه
وثانيهما : أن يكون الصفة للثناء والتعظيم .
وشرط بعضهم ثالثا : وهو تقدم الإتباع ، حكاه . ابن بابشاذ
وزيفه الأستاذ أبو جعفر بن الزبير وقال : إنما يتم ذلك إذا كان الموصوف يفتقر إلى [ ص: 29 ] زيادة بيان ، فحينئذ يتقدم الإتباع ليستحكم العلم بالموصوف ، أما إذا كان معلوما فلا يفتقر إلى زيادة بيان .
قال : والأصل - فيما الصفة فيه مدح أو ذم والموصوف معلوم - قطع الضمير ، وهو الأفصح ، ولا يشترط غير ذلك .
وقد أورد على دعوى أفصحية القطع عند ذلك إجماع القراء السبعة على الإتباع في قوله تعالى : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين فضعفوا قراءة النصب على القطع مع حصول شرطي القطع .
وأجاب ابن الزبير بأن اختيار القطع مطرد ما لم تكن الصفة خاصة بمن جرت عليه ، لا يليق ولا يتصف بها سواه ، ولا شك أن هذا الضرب قليل جدا ، فكذلك لم يفصح باشتراطه ، فإذا كانت الصفة ممن لا يشارك فيها الموصوف غيره ، وكانت مختصة بمن جرت عليه ، فالوجه فيها الإتباع . سيبويه
ونظير ذلك في صفات الله سبحانه وتعالى مما يتصف به غيره ; فلذلك لم يقطع ، وعليه ورد السماع لهذه الآيات الشريفة .
وكذلك قوله تعالى : حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ( غافر 1 - 3 ) لما كان وصفه تعالى بـ ( غافر الذنب ) وما بعده لا يليق بغيره ، لم يكن فيه إلا الإتباع ، والإتباع لا يكون إلا بعد القطع ويلزم الإتباع في الكل .
وهذا مع تكرر الصفات ، وذلك من مسوغات القطع على صفة ما ، وعند بعضهم من غير تقييد بصفة .
وأما الإتباع فيما لم يقع فيه الاختصاص من صفته تعالى فكثير ، فهذا هو السماع وله وجه في القياس ، وهو شبيه بالوارد في سورة والنجم في قوله تعالى : [ ص: 30 ] وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا ( النجم : 43 - 44 ) ثم قال بعد : وأنه هو أغنى وأقنى وأنه هو رب الشعرى ( النجم : 48 ، 49 ) فورد في هذه الجمل الأربع الفصل بالضمير المرفوع بين اسم إن وخبرها ; ليتحدد بمفهومه نفي الاتصاف عن غيره تعالى بهذه الأخبار ، وكان الكلام في قوة أن لو قيل : " وأنه هو لا غيره " ، ولم يرد هذا الضمير في قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ( النجم : 45 ) لأن ذلك مما لا يتعاطاه أحد ، لا حقيقة ولا مجازا ولا ادعاء ، بخلاف الإحياء والإماتة ، فيما حكاه الله تعالى عن نمروذ .
قلت : وما ذكره في الجواب يرد عليه قوله تعالى : ( التائبون العابدون ) الآية ( التوبة : 112 ) ، وقوله تعالى : أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات ( التحريم : 5 ) الآيات ، ومما يرد عليه بالنسبة لأوصاف الذم قوله : ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم الآية ( القلم : - 11 ) ، قد جرت كلها على ما قبلها بالإتباع ، ولم يجئ فيها القطع .
وقرأ الحسن : ( عتل ) ( القلم : 13 ) بالرفع على الذم ، قال : وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك . الزمخشري
الثاني : قد يلتبس المنصوب على المدح بالاختصاص ، وقد فرق بينهما فيما بين ; والفرق أن المنصوب على المدح أن يكون المنتصب لفظا يتضمن نفسه مدحا ; نحو : " هذا زيد عاقل قومه " وفي الاختصاص لا يقتضي اللفظ ذلك ، كقوله تعالى : سيبويه رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ( هود : 73 ) فيمن نصب ( أهل )