: وأما مؤكدات الفعلية فأنواع
أحدها : قد فإنها حرف تحقيق وهو معنى التأكيد ، وإليه أشار في قوله - تعالى - : الزمخشري ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ( آل عمران : 101 ) معناه حصل له الهدى لا محالة .
وحكى الجوهري عن الخليل أنه لا يؤتى بها في شيء إلا إذا كان السامع متشوقا إلى سماعه ، كقولك لمن يتشوق سماع قدوم زيد : قد قدم زيد ، فإن لم يكن ، لم يحسن المجيء بها ، بل تقول : قام زيد .
وقال بعض النحاة في قوله - تعالى - : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ( الإسراء : 89 ) وفي قوله - تعالى - : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ( البقرة : 65 ) قد في الجملة الفعلية المجاب بها القسم ، مثل إن واللام في الاسمية المجاب بها في إفادة التأكيد .
وتدخل على الماضي ؛ نحو : قد أفلح من زكاها ( الشمس : 9 ) .
[ ص: 515 ] والمضارع ، نحو : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ( الأنعام : 33 ) ، قد يعلم ما أنتم عليه ( النور : 64 ) قال : دخلت قد لتوكيد العلم . الزمخشري
ويرجع ذلك لتوكيد الوعيد ، وبهذا يجاب عن قولهم : إنما تفيد التعليل مع المضارع .
وقال ابن أبان : تفيد مع المستقبل التعليل في وقوعه أو متعلقه ، فالأولى كقولك : زيد قد يفعل كذا ، وليس ذلك منه بالكثير ، والثاني ؛ كقوله - تعالى - : قد يعلم ما أنتم عليه ( النور : 64 ) المعنى - والله أعلم - أقل معلوماته ما أنتم عليه .
ثانيها : السين التي للتنفيس ، قال في قوله - تعالى - : سيبويه فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم ( البقرة : 137 ) معنى السين أن ذلك كائن لا محالة ، وإن تأخر إلى حين .
وجرى عليه فقال في قوله - تعالى - : الزمخشري أولئك سيرحمهم الله ( التوبة : 71 ) السين تفيد وجود الرحمة لا محالة ، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد ، في قولك : سأنتقم منك يوما ؛ يعني أنك لا تفوتني ، وإن تبطأت ، ونحوه : سيجعل لهم الرحمن ودا ( مريم : 96 ) ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ( الضحى : 5 ) ، سوف يؤتيهم أجورهم ( النساء : 152 ) لكن قال في قوله - تعالى - : ولسوف يعطيك ربك فترضى معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير أن العطاء كائن لا محالة ، وإن تأخر .
وقد اعترض عليه بأن وجود الرحمة مستفاد من الفعل لا من السين ، وبأن الوجوب المشار إليه بقوله : لا محالة لا إشعار للسين به . وأجيب بوجهين :
[ ص: 516 ] أحدهما : أن السين موضوعة للدلالة على الوقوع مع التأخر ، فإذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة تمحضت لإفادة الوقوع ، وتحقيق الوقوع يصل إلى درجة الوجوب . وفيه نظر لأن ذلك يستفاد من المقام لا من السين .
والثاني : أن السين يحصل بها ترتيب الفائدة ؛ لأنها تفيد أمرين الوعيد والإخبار بطرقه ، وأنه متراخ ، فهو كالإخبار بالشيء مرتين ؛ ولا شك أن الإخبار بالشيء وتعيين طرقه مؤذن بتحققه عند المخبر به .
ثالثا : النون الشديدة وهي بمنزلة ذكر الفعل ثلاث مرات ، وبالخفيفة ، فهي بمنزلة ذكره مرتين .
قيل : وهذان النونان لتأكيد الفعل في مقابلة تأكيد الاسم بأن واللام ؛ ولم يقع في القرآن التأكيد بالخفيفة إلا في موضعين : وليكونن من الصاغرين ( يوسف : 32 ) ، وقوله - تعالى - : لنسفعن بالناصية ( العلق : 15 ) .
ولما لم يتجاوز الثلاثة في تأكيد الأسماء ، فكذلك لم يتجاوزها في تأكيد الأفعال ، قال - تعالى - : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ( الطارق : 17 ) لم يزد على ثلاثة : مهل وأمهل ، ورويدا ، كلها بمعنى واحد ، وهن : فعلان ، واسم فعل .
رابعا : ( لن ) لتأكيد النفي كإن في تأكيد الإثبات ، فتقول : لا أبرح ، فإذا أردت تأكيد النفي ، قلت : لن أبرح .
قال : هي جواب لمن قال : سيفعل ، يعني والسين للتأكيد فجوابها كذلك . سيبويه
وقال : لن تدل على استغراق النفي في الزمن المستقبل ، بخلاف لا وكذا قال في المفصل : لن لتأكيد ما تعطيه ، لا من نفي المستقبل ، [ ص: 517 ] وبني على ذلك مذهب الاعتزال في قوله - تعالى - : الزمخشري لن تراني ( الأعراف : 143 ) قال : هو دليل عن نفي الرؤية في الدنيا والآخرة ؛ وهذا الاستدلال حكاه في الشامل عن إمام الحرمين المعتزلة ورد عليهم بقوله - تعالى - لليهود : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ولن يتمنوه أبدا ( البقرة : 94 و 95 ) ثم أخبر عن عامة الكفرة أنهم يتمنون الآخرة ، فيقولون : ياليتها كانت القاضية ( الحاقة : 27 ) يعني الموت .
ومنهم من قال : لا تنفي الأبد ، ولكن إلى وقت ، بخلاف قول المعتزلة ، وأن ؛ لأن آخرها ألف ، وهو حرف يطول فيه النفس ، فناسب طول المدة بخلاف لن ، ولذلك قال - تعالى - : النفي بلا أطول من النفي بلن لن تراني ( الأعراف : 143 ) وهو مخصص بدار الدنيا .
وقال : لا تدركه الأبصار ( الأنعام : 103 ) وهو مستغرق لجميع أزمنة الدنيا والآخرة ، وعلل بأن الألفاظ تشاكل المعاني ، ولذلك اختصت لا بزيادة مدة .
وهذا ألطف من رأي المعتزلة ، ولهذا أشار ابن الزملكاني في التبيان بقوله : لا تنفي ما بعد ، ولن تنفي ما قرب ، وبحسن المذهبين أولوا الآيتين : قوله - تعالى - : ولن يتمنوه أبدا ( البقرة : 95 ) ، ولا يتمنونه أبدا ( الجمعة : 7 ) .
ووجه القول الثاني أن ( لا يتمنونه ) جاء بعد الشرط في قوله - تعالى - : إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت ( الجمعة : 6 ) وحرف الشرط يعم كل الأزمنة ، [ ص: 518 ] فقوبل بـ " لا " ليعمم ما هو جواب له ، أي زعموا ذلك في وقت ما قيل لهم : تمنوا الموت ، وأما ولن يتمنوه ( البقرة : 95 ) فجاء بعد قوله : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة ( البقرة : 94 ) أي إن كانت لكم الدار الآخرة ، فتمنوا الموت الآن ، استعجالا للسكون في دار الكرامة التي أعدها الله لأوليائه وأحبائه . وعلى وفق هذا القول جاء قوله : لن تراني ( الأعراف : 143 ) .
قلت : والحق أن والتأبيد وعدمه يؤخذان من دليل خارج ، ومن احتج على التأبيد بقوله : لا ولن لمجرد النفي عن الأفعال المستقبلة ، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( البقرة : 24 ) وبقوله : لن يخلقوا ذبابا ( الحج : 73 ) عورض بقوله : فلن أكلم اليوم إنسيا ( مريم : 26 ) ولو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها باليوم ، وبقوله : ولن يتمنوه أبدا ( البقرة : 95 ) ولو كانت للتأبيد لكان ذكر الأبد تكريرا ، والأصل عدمه ، وبقوله : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ( طه : 91 ) لا يقال : هي مقيدة فلم تفد التأبيد ، والكلام عند الإطلاق ؛ لأن الخصم يدعي أنها موضوعة لذلك ، فلم تستعمل في غيره . وقد استعملت لا للاستغراق الأبدي في قوله - تعالى - : لا يقضى عليهم فيموتوا ( فاطر : 36 ) وقوله : لا تأخذه سنة ولا نوم ( البقرة : 255 ) ، ولا يئوده حفظهما ( البقرة : 255 ) ، وقوله : ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ( الأعراف : 40 ) وغيره مما هو للتأبيد ، وقد استعملت فيه " لا " دون " لن " ؛ فهذا يدل على أنها لمجرد النفي ، والتأبيد يستفاد من دليل آخر .