ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل قد قدمنا تحقيق المثل وكيفية ضربه في غير موضع ، ومعنى قوله : من كل مثل ما يحتاجون إليه ، وليس المراد ما هو أعم من ذلك ، فهو هنا كما في قوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ الأنعام : 38 ] أي : من شيء يحتاجون إليه في أمر دينهم ، وقيل : المعنى : ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء لعلهم يتذكرون يتعظون فيعتبرون .
وانتصاب قرآنا عربيا على الحال من هذا وهي حال مؤكدة ، وتسمى هذه حالا موطئة ؛ لأن الحال في الحقيقة هو عربيا ، وقرآنا توطئة له ، نحو جاءني زيد رجلا صالحا : كذا قال الأخفش ، ويجوز أن ينتصب على المدح .
قال : عربيا منتصب على الحال ، وقرآنا توكيد ، ومعنى الزجاج غير ذي عوج لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه . قال الضحاك أي : غير مختلف .
قال النحاس : أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك ، وقيل : غير متضاد .
وقيل : غير ذي لبس ، وقيل : غير ذي لحن ، وقيل : غير ذي شك كما قال الشاعر :
وقد أتاك يمين غير ذي عوج من الإله وقول غير مكذوب
لعلهم يتقون علة أخرى بعد العلة الأولى .
وهي لعلهم يتذكرون أي : لكي يتقوا الكفر والكذب .
ثم ذكر - سبحانه - مثلا من الأمثال القرآنية للتذكير والإيقاظ ، فقال : ضرب الله مثلا أي : تمثيل حالة عجيبة بأخرى مثلها .
ثم بين المثل فقال : رجلا فيه شركاء متشاكسون قال : نصب رجلا لأنه تفسير للمثل ، وقيل : هو منصوب بنزع الخافض أي : ضرب الله مثلا برجل ، وقيل : إن رجلا هو المفعول الأول ، ومثلا هو المفعول الثاني ، وأخر المفعول الأول ليتصل بما هو من تمامه ، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة يس ، وجملة الكسائي فيه شركاء في محل نصب صفة لرجل ، والتشاكس التخالف . قال الفراء أي : مختلفون . وقال أي : متعاسرون من شكس يشكس شكسا فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر . قال المبرد الجوهري : التشاكس الاختلاف .
قال : ويقال : رجل شكس بالتسكين أي : صعب الخلق ، وهذا مثل من أشرك بالله وعبد آلهة كثيرة .
ثم قال : ورجلا سلما لرجل أي : خالصا له ، وهذا مثل من يعبد الله وحده .
قرأ الجمهور سلما بفتح السين واللام ، وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة ، وأبو العالية بكسر السين وسكون اللام . وقرأ ابن عباس ومجاهد ، والجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب " سالما " بالألف وكسر اللام اسم فاعل من سلم له فهو سالم ، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال : لأن السالم الخالص ضد المشترك ، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب هاهنا .
وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما فالسلم وإن كان ضد الحرب فله معنى آخر بمعنى سالم ، من سلم له كذا : إذا خلص له .
وأيضا يلزمه في سالم ما ألزم به ؛ لأنه يقال : شيء سالم أي : لا عاهة به ، واختار أبو حاتم القراءة الأولى .
والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة ، أو على حذف مضاف أي : ذا سلم ، ومثلها قراءة ومن معه . سعيد بن جبير
ثم جاء - سبحانه - بما يدل على التفاوت بين الرجلين فقال : هل يستويان مثلا وهذا الاستفهام للإنكار والاستبعاد ، والمعنى : هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة ونياتهم متباينة يستخدمه كل واحد منهم فيتعب وينصب مع كون كل واحد منهم غير راض بخدمته ، وهذا الذي يخدم واحدا لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه ، وإذا عصاه عفا عنه .
فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح ما لا يقدر عاقل أن يتفوه باستوائهما ؛ لأن أحدهما في أعلى المنازل ، والآخر في أدناها ، وانتصاب مثلا على التمييز المحول عن الفاعل لأن الأصل هل يستوي مثلهما ، وأفرد التمييز ولم يثنه لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبينا للجنس وجملة الحمد لله تقرير لما قبلها من نفي الاستواء ، وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة المستحقة لتخصيص الحمد به .
ثم أضرب - سبحانه - عن نفي الاستواء المفهوم عن الاستفهام الإنكاري إلى بيان أن أكثر الناس لا يعلمون فقال : ولكن أكثرهم لا يعلمون وهم المشركون فإنهم لا يعلمون ذلك مع ظهوره ووضوحه .
قال الواحدي والبغوي : والمراد بالأكثر الكل والظاهر خلاف ما قالاه ، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد من رفعة شأنه وعلو مكانه ، وإن الشرك لا يماثله بوجه من الوجوه ، ولا يساويه [ ص: 1283 ] في وصف من الأوصاف ، ويعلمون أن الله - سبحانه - يستحق الحمد على هذه النعمة ، وأن الحمد مختص به .
ثم أخبر - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن الموت يدركه ويدركهم لا محالة فقال : إنك ميت وإنهم ميتون قرأ الجمهور ميت ، وميتون بالتشديد وقرأ ابن محيصن ، وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق واليماني " مائت ومائتون " وبها قرأ عبد الله بن الزبير .
وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته وموتهم مستقبلا ، ولا وجه للاستحسان ، فإن قراءة الجمهور تفيد هذا المعنى .
قال الفراء : الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت ، والميت بالتخفيف من قد مات وفارقته الروح . والكسائي
قال قتادة : نعيت إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نفسه ونعيت إليهم أنفسهم . ووجه هذا الاختيار الإعلام للصحابة بأنه يموت . فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت مع كونه توطئة وتمهيدا لما بعده حيث قال : ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون أي : تخاصمهم يا محمد وتحتج عليهم بأنك قد بلغتهم وأنذرتهم وهم يخاصمونك ، أو يخاصم المؤمن الكافر ، والظالم المظلوم .
ثم بين - سبحانه - حال كل فريق من المختصمين فقال : فمن أظلم ممن كذب على الله أي : لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فزعم أن له ولدا أو شريكا أو صاحبة وكذب بالصدق إذ جاءه وهو ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من دعاء الناس إلى التوحيد ، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور ، وما أعد الله للمطيع والعاصي .
ثم استفهم - سبحانه - استفهاما تقريريا فقال : أليس في جهنم مثوى للكافرين أي : أليس لهؤلاء المفترين المكذبين بالصدق ، والمثوى : المقام ، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواء وثويا ، مثل مضى مضاء ومضيا .
وحكى أبو عبيد أنه يقال : أثوى وأنشد قول الأعشى :
أثوى وقصر ليلة ليزودا ومضى وأخلف من قتيلة موعدا
وأنكر ذلك وقال لا نعرف أثوى . الأصمعي
ثم ذكر - سبحانه - فريق المؤمنين المصدقين فقال : والذي جاء بالصدق وصدق به الموصول في موضع رفع بالابتداء ، وهو عبارة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن تابعه وخبره أولئك هم المتقون وقيل : الذي جاء بالصدق رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والذي صدق أبو بكر .
وقال مجاهد : الذي جاء بالصدق رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والذي صدق به . علي بن أبي طالب
وقال : الذي جاء بالصدق السدي جبريل ، والذي صدق به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وقال قتادة ومقاتل وابن زيد : الذي جاء بالصدق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والذي صدق به المؤمنون .
وقال النخعي : الذي جاء بالصدق وصدق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة .
وقيل : إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله وأرشد إلى ما شرعه لعباده ، واختار هذا وهو الذي اختاره من هذه الأقوال ، ويؤيده قراءة ابن جرير " والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به " . ابن مسعود
ولفظ الذي كما وقع في قراءة الجمهور وإن كان مفردا فمعناه الجمع ؛ لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله : أولئك هم المتقون أي : المتصفون بالتقوى التي هي عنوان النجاة .
وقرأ أبو صالح " وصدق " به مخففا أي : صدق به الناس .
ثم ذكر - سبحانه - ما لهؤلاء الصادقين المصدقين في الآخرة : لهم ما يشاءون عند ربهم أي : لهم كل ما يشاءونه من رفع الدرجات ودفع المضرات وتكفير السيئات ، وفي هذا ترغيب عظيم وتشويق بالغ ، والإشارة بقوله : ذلك إلى ما تقدم ذكره من جزائهم وهو مبتدأ ، وخبره قوله : جزاء المحسنين أي : الذين أحسنوا في أعمالهم .
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه . أن
ثم بين - سبحانه - ما هو الغاية مما لهم عند ربهم فقال : ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم لأن الله - سبحانه - إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى ، واللام متعلقة بـ يشاءون أو بـ المحسنين أو بمحذوف .
قرأ الجمهور أسوأ على أنه أفعل تفضيل . وقيل : ليست للتفضيل بل بمعنى : سيء الذي عملوا . وقرأ ابن كثير في رواية عنه " أسواء " بألف بين الهمزة والواو بزنة أجمال ، جمع سوء .
ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون لما ذكر - سبحانه - ما يدل على دفع المضار عنهم ذكر ما يدل على جلب أعظم المنافع إليهم وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه ، بل من إضافة الشيء إلى بعضه قصدا إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل .
قال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم المساوئ .
وقد أخرج ، الآجري والبيهقي عن في قوله : ابن عباس غير ذي عوج قال : غير مخلوق .
وأخرج ، ابن جرير عنه في قوله : وابن أبي حاتم ضرب الله مثلا رجلا الآية قال : الرجل يعبد آلهة شتى ، فهذا مثل ضربه الله لأهل الأوثان ورجلا سلما يعبد إلها واحدا ضرب لنفسه مثلا .
وأخرجا عنه أيضا في قوله : ورجلا سلما قال : ليس لأحد فيه شيء .
وأخرج ، عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والطبراني وابن مردويه عن قال : لقد لبثنا برهة من دهرنا ، ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبلنا . ابن عمر إنك ميت وإنهم ميتون الآية ، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف ، فعرفت أنها نزلت فينا .
وأخرج في الفتن نعيم بن حماد والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه .
وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير وابن مردويه عنه أيضا قال : نزلت علينا الآية ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة ، فقلنا هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه .
وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن منيع ، ، وعبد بن حميد [ ص: 1284 ] وصححه ، والترمذي ، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في البعث والنشور عن قال : " الزبير بن العوام إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلت : يا رسول الله أيكرر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب ؟ قال : نعم ليكررن عليكم ذلك حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه . قال الزبير : فوالله إن الأمر لشديد " . لما نزلت
وأخرج عن سعيد بن منصور قال : لما نزلت أبي سعيد الخدري ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون كنا نقول : ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف ، قلنا نعم هو هذا .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن في قوله : ابن عباس والذي جاء بالصدق يعني بـ لا إله إلا الله وصدق به يعني برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أولئك هم المتقون يعني : اتقوا الشرك .
وأخرج ابن جرير والماوردي في معرفة الصحابة من طريق وابن عساكر أسيد بن صفوان ، وله صحبة عن قال : الذي جاء بالصدق علي بن أبي طالب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وصدق به أبو بكر . وأخرج ابن مردويه عن مثله . أبي هريرة