ثم حكى سبحانه سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى ، وهي ناحية القطر الشمالي بعد تهيئة أسبابه فقال : ثم أتبع سببا أي : طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب .
حتى إذا بلغ بين السدين قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص وابن محيصن ويحيى اليزيدي وأبو زيد ، عن المفضل بفتح السين . وقرأ الباقون بضمها .
قال أبو عبيدة وابن الأنباري : السد إن كان بخلق الله سبحانه فهو بضم السين حتى يكون بمعنى مفعول أي : هو مما فعله الله وخلقه ، وإن كان من عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثا . وأبو عمرو بن العلاء
و قال : كل ما قابلك فسد ما وراءه فهو سد وسد ، نحو الضعف والضعف ، والفقر والفقر ، والسدان هما جبلان من قبل ابن الأعرابي أرمينية وأذربيجان ، وانتصاب ( بين ) على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله : لقد تقطع بينكم [ الأنعام : 94 ]
وقيل : موضع بين السدين هو منقطع أرض الترك مما يلي المشرق لا جبلا أرمينية وأذربيجان ، وحكى في تاريخه أن صاحب ابن جرير أذربيجان أيام فتحها وجه إنسانا من ناحية الجزر فشاهده ، ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع ، و وجد من دونهما أي : من ورائهما مجازا عنهما ، وقيل : أمامهما قوما لا يكادون يفقهون قولا قرأ حمزة ( يفقهون ) بضم الياء وكسر القاف من أفقه : إذا أبان أي : لا يبينون لغيرهم كلاما ، وقرأ الباقون بفتح الياء والقاف أي : لا يفهمون كلام غيرهم ، والقراءتان صحيحتان ، ومعناهما لا يفهمون عن غيرهم ولا يفهمون غيرهم ؛ لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم . والكسائي
( قالوا ) أي هؤلاء القوم الذين لا يفهمون قولا ، قيل : إن فهم ذي القرنين لكلامهم من جملة الأسباب التي أعطاه الله ، وقيل : إنهم قالوا ذلك لترجمانهم ، فقال لذي القرنين بما قالوا له ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض يأجوج ومأجوج اسمان عجميان بدليل منع صرفهما ، وبه قال الأكثر .
وقيل : مشتقان من أج الظليم في مشيه : إذا هرول ، وتأججت النار : إذا تلهبت ، قرأهما الجمهور بغير همز ، وقرأ عاصم بالهمز .
قال : [ ص: 876 ] وجه همزهما وإن لم يعرف له أصل أن العرب قد همزت حروفا لا يعرف للهمز فيها أصل كقولهم : كبأث ورثأت واستشأت الريح . ابن الأنباري
قال أبو علي : يجوز أن يكونا عربيين ، فمن همز فهو على وزن يفعول مثل يربوع ، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل : راس .
وأما مأجوج ، فهو مفعول من أج ، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق . قال : وترك الصرف فيهما على تقدير كونهما عربيين للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة .
واختلف في نسبهم ، فقيل هم من ولد يافث بن نوح ، وقيل : يأجوج من الترك ومأجوج من الجبل والديلم .
وقال : احتلم آدم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك الماء . كعب الأحبار
قال القرطبي : وهذا فيه نظر ؛ لأن الأنبياء لا يحتلمون ، وإنما هم من ولد يافث ، كذلك قال مقاتل وغيره . وقد وقع الخلاف في صفتهم ، فمن الناس من يصفهم بصغر الجثث وقصر القامة ، ومنهم من يصفهم بكبر الجثث وطول القامة ، ومنهم من يقول لهم مخالب كمخالب السباع ، وإن منهم صنفا يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى ، ولأهل العلم من السلف ومن بعدهم أخبار مختلفة في صفاتهم وأفعالهم .
واختلف في إفسادهم في الأرض ، فقيل : هو أكل بني آدم ، وقيل : هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد ، وقيل : كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء القوم الذين شكوهم إلى ذي القرنين في أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئا أخضر إلا أكلوه فهل نجعل لك خرجا هذا الاستفهام من باب حسن الأدب مع ذي القرنين . وقرئ ( خراجا ) .
قال الأزهري : الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفيء ، ويقع على الجزية وعلى الغلة . والخراج أيضا اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال ، والخرج المصدر .
وقال قطرب : الخرج الجزية والخراج في الأرض ، وقيل : الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله ، والخراج ما يجبيه السلطان ، وقيل : هما بمعنى واحد على أن تجعل بيننا وبينهم سدا أي : ردما حاجزا بيننا وبينهم . وقرئ ( سدا ) بفتح السين .
قال الخليل : الضم هو الاسم ، والفتح المصدر . وقال وسيبويه : الفتح والضم لغتان بمعنى واحد ، وقد سبق قريبا ما حكيناه عن الكسائي أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة من الفرق بينهما . وابن الأنباري
وقال ابن أبي إسحاق : ما رأته عيناك فهو سد بالضم ، وما لا ترى فهو سد بالفتح ، وقد قدمنا بيان من قرأ بالفتح وبالضم في السدين .
قال ما مكني فيه ربي أي : قال لهم ذو القرنين : ما بسطه الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم ، ثم طلب منهم المعاونة له فقال : ( فأعينوني بقوة ) أي : برجال منكم يعملون بأيديهم ، أو أعينوني بآلات البناء ، أو بمجموعهما . قال : بعمل تعملونه معي . الزجاج
قرأ ابن كثير وحده ( ما مكنني ) بنونين ، وقرأ الباقون بنون واحدة أجعل بينكم وبينهم ردما هذا جواب الأمر ، والردم : ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل .
قال الهروي : يقال ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي : سددتها ، والردم أيضا الاسم ، وهو السد ، وقيل : الردم أبلغ من السد ، إذ السد كل ما يسد به ، والردم : وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوهما حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ، ومنه ردم ثوبه : إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض ، ومنه قول عنترة :
هل غادر الشعراء من متردم
أي : من قول يركب بعضه على بعض .آتوني زبر الحديد أي : أعطوني وناولوني ، و ( زبر الحديد ) جمع زبرة ، وهي القطعة . قال الخليل : الزبرة من الحديد القطعة الضخمة . قال الفراء : معنى آتوني زبر الحديد ائتوني بها . فلما ألقيت الياء زيدت ألفا ، وعلى هذا فانتصاب ( زبر ) بنزع الخافض حتى إذا ساوى بين الصدفين والصدفان : جانبا الجبل .
قال الأزهري : يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما أي : تلاقيهما ، وكذا قال أبو عبيدة والهروي .
قال الشاعر :
كلا الصدفين ينفده سناها توقد مثل مصباح الظلام
قيل : كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى ، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار ، ثم يؤتى بالنحاس المذاب فيفرغه على تلك الطاقة ، وهو معنى قوله : قال آتوني أفرغ عليه قطرا قال أهل اللغة : القطر النحاس الذائب ، والإفراغ : الصب ، وكذا قال أكثر المفسرين . وقالت طائفة : القطر الحديد المذاب . وقالت فرقة أخرى منهم : هو الرصاص المذاب . ابن الأنباري
( فما اسطاعوا ) أصله استطاعوا ، فلما اجتمع المتقاربان ، وهما التاء والطاء خففوا بالحذف . قال : يقال : ما أستطيع ، وما أسطيع ، وما أستيع . ابن السكيت
وبالتخفيف قرأ الجمهور ، وقرأ حمزة وحده ( فما اسطاعوا ) بتشديد الطاء كأنه أراد ( استطاعوا ) فأدغم التاء في الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه ، قال أبو علي الفارسي : هي غير جائزة .
وقرأ ( فما استطاعوا ) على الأصل ، ومعنى ( أن يظهروه ) أن يعلوه أي : فما استطاع الأعمش يأجوج ومأجوج أن يعلوا على ذلك الردم لارتفاعه وملاسته وما استطاعوا له نقبا يقال : نقبت الحائط ؛ إذا خرقت فيه خرقا [ ص: 877 ] فخلص إلى ما وراءه .
قال : ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وانملاسه ، وما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله لشدته وصلابته . الزجاج
قال هذا رحمة من ربي أي : قال ذو القرنين مشيرا إلى السد : هذا السد رحمة من ربي أي : أثر من آثار رحمته لهؤلاء المتجاوزين للسد ولمن خلفهم ممن يخشى عليهم معرتهم لو لم يكن ذلك السد ، وقيل : الإشارة إلى التمكين من بنائه فإذا جاء وعد ربي أي : أجل ربي أن يخرجوا منه ، وقيل : هو مصدر بمعنى المفعول ، وهو يوم القيامة ( جعله دكاء ) أي : مستويا بالأرض ومنه قوله : كلا إذا دكت الأرض دكا [ الفجر : 21 ] . قال الترمذي ، أي : مستويا ، يقال : ناقة دكاء : إذا ذهب سنامها . وقال القتيبي أي : جعله مدكوكا ملصقا بالأرض . وقال الحليمي : قطعا متكسرا . قال الشاعر :
هل غير غار دك غارا فانهدم
قال الأزهري : دككته أي : دققته .ومن قرأ ( دكاء ) بالمد وهو عاصم وحمزة أراد التشبيه بالناقة الدكاء ، وهي التي لا سنام لها أي : مثل دكاء ؛ لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء . والكسائي
وقرأ الباقون ( دكا ) بالتنوين على أنه مصدر ، ومعناه ما تقدم ، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الحال أي : مدكوكا وكان وعد ربي حقا أي : وعده بالثواب والعقاب ، أو الوعد المعهود حقا ثابتا لا يتخلف ، وهذا آخر قول ذي القرنين .
وقد أخرج ابن المنذر ، عن في قوله : ابن عباس حتى إذا بلغ بين السدين قال : الجبلين أرمينية وأذربيجان .
وأخرج أيضا ، عن ابن جريج لا يكادون يفقهون قولا قال : الترك . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه ، عن قال : ابن عباس يأجوج ومأجوج شبر وشبران وأطولهم ثلاثة أشبار ، وهم من ولد آدم . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث ، عن وابن عساكر ابن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا ، وإن من ورائهم ثلاث أمم : تاويل ، وتاريس ، ومنسك . إن
وأخرج من حديث النسائي عمرو بن أوس عن أبيه مرفوعا . أنه لا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفا فصاعدا
وأخرج أحمد وحسنه والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أبي هريرة يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض يحفرون السد كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستفتحونه غدا ، فيعودون إليه أشد ما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستفتحونه غدا إن شاء الله ، ويستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه ، ويتحصن الناس منهم في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء ، فيقولون : قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسرا وعلوا ، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون ، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : فوالذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكرا من لحومهم وقد ثبت في الصحيحين من حديث إن قالت : زينب بنت جحش يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق . قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث فتح اليوم من ردم ، وأخرجا نحوه من حديث استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول : لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، مرفوعا . أبي هريرة
وأخرج ابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس فهل نجعل لك خرجا قال : أجرا عظيما .
وأخرج عنه في قوله : ردما قال : هو كأشد الحجاب . ابن أبي حاتم
وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله : ( زبر الحديد ) قال : قطع الحديد . وابن أبي حاتم
وأخرج ابن المنذر عنه ( بين الصدفين ) . قال : الجبلين . وأخرج وابن أبي حاتم ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم مجاهد قال : رءوس الجبلين .
وأخرج هؤلاء عن في قوله : ( قطرا ) قال ابن عباس النحاس : وأخرج عبد الرزاق ، عن وابن أبي حاتم قتادة فما اسطاعوا أن يظهروه قال : أن يرتقوه . وأخرج ابن المنذر ، عن قال : أن يعلوه . ابن جريج
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم قتادة في قوله : ( جعله دكاء ) قال : لا أدري الجبلين يعني به أم بينهما .