قوله : واتل ما أوحي إليك أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه ، قيل : ويحتمل أن يكون معنى قوله : ( واتل ) واتبع ، أمرا من التلو ، لا من التلاوة ، و ( من كتاب ربك ) بيان للذي أوحي إليه لا مبدل لكلماته أي : لا قادر على تبديلها وتغييرها ، وإنما يقدر على ذلك هو وحده .
قال : أي : ما أخبر الله به وما أمر به فلا مبدل له ، وعلى هذا يكون التقدير : لا مبدل لحكم كلماته الزجاج ولن تجد من دونه ملتحدا الملتحد : الملتجأ ، وأصل اللحد : الميل .
قال : لن تجد معدلا عن أمره ونهيه ، [ ص: 857 ] والمعنى : أنك إن لم تتبع القرآن وتتله وتعمل بأحكامه لن تجد معدلا تعدل إليه ومكانا تميل إليه ، وهذه الآية آخر قصة أهل الكهف . الزجاج
ثم شرع سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم قد تقدم في الأنعام نهيه - صلى الله عليه وآله وسلم - عن طرد فقراء المؤمنين بقوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم [ الأنعام : 52 ] وأمره سبحانه هاهنا بأن يحبس نفسه معهم ، فصبر النفس هو حبسها ، وذكر الغداة والعشي كناية عن الاستمرار على الدعاء في جميع الأوقات .
وقيل : في طرفي النهار ، وقيل : المراد صلاة العصر والفجر .
وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن وابن عامر ( بالغدوة ) بالواو ، واحتجوا بأنها في المصحف كذلك مكتوبة بالواو .
قال النحاس : وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو ، ولا تكاد العرب تقول الغدوة ، ومعنى ( يريدون وجهه ) أنهم يريدون بدعائهم رضا الله سبحانه ، والجملة في محل نصب على الحال ، ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال : ولا تعد عيناك عنهم أي : لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم .
قال الفراء : معناه لا تصرف عيناك عنهم ، وقال : لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة ، واستعماله بـ ( عن ) لتضمنه معنى النبو ، من عدوته عن الأمر أي : صرفته منه ، وقيل : معناه لا تحتقرهم عيناك الزجاج تريد زينة الحياة الدنيا أي : مجالسة أهل الشرف والغنى ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : حال كونك مريدا لذلك ، هذا إذا كان فاعل ( تريد ) هو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإن كان الفاعل ضميرا يعود إلى العينين ، فالتقدير : مريدة زينة الحياة الدنيا ، وإسناد الإرادة إلى العينين مجاز ، وتوحيد الضمير للتلازم كقول الشاعر :
وكم زحلوقة زلوا بها العينان تنهل
ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا أي : جعلناه غافلا بالختم عليه ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن طاعة من جعل الله قلبه غافلا عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه ، فإنهم طالبوا تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله ، ومع هذا فهم ممن اتبع هواه وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد وكان أمره فرطا أي : متجاوزا عن حد الاعتدال ، من قولهم : فرس فرط : إذا كان متقدما للخيل . فهو على هذا من الإفراط . وقيل : هو من التفريط ، وهو التقصير والتضييع .قال : ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه . الزجاج
ثم بين سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يقوله لأولئك الغافلين ، فقال : وقل الحق من ربكم أي : قل لهم : إن ما أوحي إليك وأمرت بتلاوته هو الحق الكائن من جهة الله ، لا من جهة غيره حتى يمكن فيه التبديل والتغيير ، وقيل : المراد بالحق الصبر مع الفقراء .
قال : أي الذي أتيتكم به الزجاج الحق من ربكم يعني : لم آتكم به من قبل نفسي إنما أتيتكم به من الله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر قيل : هو من تمام القول الذي أمر رسوله أن يقوله ، والفاء لترتيب ما قبلها على ما بعدها ، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه لا من القول الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وفيه تهديد شديد ، ويكون المعنى : قل لهم يا محمد الحق من ربكم ، وبعد أن تقول لهم هذا القول ، من شاء أن يؤمن بالله ويصدقك فليؤمن ، ومن شاء أن يكفر به ويكذبك فليكفر .
ثم أكد الوعيد وشدده فقال : إنا أعتدنا للظالمين أي : أحاط بهم سرادقها أي : اشتمل عليهم . أعددنا وهيأنا للظالمين الذين اختاروا الكفر بالله والجحد له والإنكار لأنبيائه نارا عظيمة
والسرادق : واحد السرادقات . قال الجوهري : وهي التي تمد فوق صحن الدار ، وكل بيت من كرسف فهو سرادق ، ومنه قول رؤبة :
يا حكم بن المنذر بن جارود سرادق المجد عليك ممدود
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
وقال : سرادقها سورها . وقال ابن الأعرابي القتيبي : السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط .
والمعنى : أنه أحاط بالكفار سرادق النار على تشبيه ما يحيط بهم من النار بالسرادق المحيط بمن فيه ( وإن يستغيثوا ) من حر النار يغاثوا بماء كالمهل وهو الحديد المذاب .
قال : إنهم يغاثون بماء كالرصاص المذاب أو الصفر ، وقيل : هو دردي الزيت . الزجاج
وقال أبو عبيدة والأخفش : هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس . وقيل : هو ضرب من القطران .
ثم وصف هذا الماء الذي يغاثون به بأنه ( يشوي الوجوه ) إذا قدم إليهم صارت وجوههم مشوية لحرارته بئس الشراب شرابهم هذا ( وساءت ) النار ( مرتفقا ) متكأ ، يقال : ارتفقت : أي اتكأت ، وأصل الارتفاق نصب المرفق ، ويقال : ارتفق الرجل : إذا نام على مرفقه ، وقال القتيبي : هو المجلس ، وقيل : المجتمع .
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هذا شروع في وعد المؤمنين بعد الفراغ من وعيد الكافرين .
والمعنى : إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحي إليك وعملوا الصالحات من الأعمال إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا هذا خبر إن الذين آمنوا ، والعائد محذوف ، أي : من أحسن منهم عملا .
وجملة أولئك لهم جنات عدن استئناف لبيان الأجر ، والإشارة إلى من تقدم ذكره ، وقيل : يجوز أن يكون ( أولئك ) خبر ( إن الذين آمنوا ) وتكون جملة ( إنا لا نضيع ) اعتراضا ، ويجوز أن يكون ( أولئك ) خبرا بعد خبر ، وقد تقدم الكلام في جنات عدن ، وفي كيفية جري الأنهار من تحتها يحلون فيها من أساور من ذهب قال : ( أساور ) جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار ، وهي زينة تلبس في الزند من اليد وهي من زينة الملوك ، قيل : يحلى كل واحد منهم ثلاثة أسورة : واحد من فضة ، وواحد من لؤلؤ وواحد من ذهب ، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب ، ويمكن أن يكون [ ص: 858 ] قول القائل هذا جمعا بين الآيات لقوله سبحانه في آية أخرى : الزجاج أساور من فضة [ الإنسان : 21 ] ، ولقوله في آية أخرى : ( ولؤلؤا ) [ الحج : 23 ] و ( من ) في قوله ( من أساور ) للابتداء ، وفي ( من ذهب ) للبيان .
وحكى الفراء ( يحلون ) بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام ، يقال : حليت المرأة تحلى فهي حالية : إذا لبست الحلي ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق قال : السندس الرقيق واحده سندسة ، والإستبرق ما ثخن . وكذا قال المفسرون ، وقيل : الإستبرق هو الديباج كما قال الشاعر : الكسائي
وإستبرق الديباج طورا لباسها
وقيل : هو المنسوج بالذهب . قال القتيبي : هو فارسي معرب . قال الجوهري : وتصغيره أبيرق ، وخص الأخضر لأنه الموافق للبصر ولكونه أحسن الألوان متكئين فيها على الأرائك قال : الأرائك جمع أريكة ، وهي السرر في الحجال ، وقيل : هي أسرة من ذهب مكللة بالدر والياقوت ، وأصل : اتكأ اوتكأ ، وأصل متكئين موتكئين ، والاتكاء التحامل على الشيء ( الزجاج نعم الثواب ) ذلك الذي أثابهم الله به ( وحسنت ) تلك الأرائك ( مرتفقا ) أي : متكأ . وقد تقدم قريبا .وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : ( ملتحدا ) قال : ملتجأ .
وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن سلمان قال : جاءت المؤلفة قلوبهم : عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس قالوا : يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف - جالسناك وحادثناك وأخذنا عنك ، فأنزل الله : واتل ما أوحي إليك إلى قوله : إنا أعتدنا للظالمين نارا زاد أبو الشيخ ، عن سلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ، معكم المحيا والممات .
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي فخرج يلتمسهم فوجد قوما يذكرون الله منهم ثائر الرأس وحاف الجلد وذو الثوب الخلق ، فلما رآهم جلس معهم وقال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم . نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو في بعض أبياته
وأخرج البزار عن أبي سعيد قالا : وأبي هريرة . جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم
وفي الباب روايات .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن نافع قال : أخبرني عبد الله بن عمر في هذه الآية واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم أنهم الذين يشهدون الصلوات الخمس .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن مثله . ابن عباس
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق عن أبيه عن جده في قوله : ( واصبر نفسك ) الآية ، قال : نزلت في صلاة الصبح وصلاة العصر . عمرو بن شعيب
وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر ، عن الضحاك عن في قوله : ابن عباس ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا قال : نزلت في أمية بن خلف ، وذلك أنه دعا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة ، فأنزل الله هذه الآية ، يعني من ختمنا على قلبه يعني التوحيد ( واتبع هواه ) يعني الشرك وكان أمره فرطا يعني فرطا في أمر الله وجهالة بالله .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم ابن بريدة قال : دخل عيينة بن حصن على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في يوم حار ، وعنده سلمان عليه جبة صوف ، فصار منه ريح العرق في الصوف ، فقال عيينة : يا محمد إذا نحن أتيناك فأخرج هذا وضرباءه من عندك لا يؤذينا ، فإذا خرجنا فأنت وهم أعلم ، فأنزل الله : ولا تطع من أغفلنا قلبه الآية .
وقد ثبت في صحيح مسلم في سبب نزول الآية المتضمنة لمعنى هذه الآية ، وهي قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي [ الأنعام : 52 ] . عن قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ستة نفر ، فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا ، قال : وكنت أنا سعد بن أبي وقاص ورجل من وابن مسعود هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما ، فوقع في نفس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه ، فأنزل الله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم الآية .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : وكان أمره فرطا قال : ضياعا .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قتادة ( وقل الحق ) قال : هو القرآن .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن في قوله : ابن عباس فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر يقول : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء له الكفر كفر ، وهو قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ التكوير : 29 ] .
وأخرج عنه قال في الآية : هذا تهديد ووعيد . ابن أبي حاتم
وأخرج عنه أيضا في قوله : ابن جرير أحاط بهم سرادقها قال : حائط من نار .
وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا والترمذي وابن جرير وأبو يعلى وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه ، عن عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أبي سعيد الخدري . لسرادق النار أربعة جدر ، كثافة كل جدار منها مسيرة أربعين سنة
وأخرج أحمد والبخاري وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري . عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله : [ ص: 859 ] ( بماء كالمهل ) قال : كعكر الزيت ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه
وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ( كالمهل ) قال : أسود كعكر الزيت . ابن عباس
وأخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم عطية قال : سئل عن المهل فقال : ماء غليظ كدردي الزيت . ابن عباس
وأخرج هناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن والطبراني أنه سئل عن المهل ، فدعا بذهب وفضة فأذابه ، فلما ذاب قال : هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو ابن مسعود ، ولونه لون السماء ، غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا . شراب أهل النار
وأخرج ، عن ابن جرير قال : هل تدرون ما المهل ؟ المهل سهل الزيت ، يعني آخره . ابن عمر
وأخرج ابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : وساءت مرتفقا قال : مجتمعا .
وأخرج البخاري ومسلم ، عن أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال : أبي هريرة . تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء
وأخرج البيهقي عن قال : في الجنة شجرة تنبت السندس منه يكون ثياب أهل الجنة . أبي الخير مرثد بن عبد الله
وأخرج ابن أبي شيبة ، عن وابن جرير عكرمة قال : الإستبرق الديباج الغليظ .
وأخرج ابن أبي شيبة ، عن وابن أبي حاتم مجاهد مثله .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم الهيثم بن مالك الطائي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : إن الرجل ليتكئ المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله ، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه .
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم قال : الأرائك السرر في جوف الحجال عليها الفرش منضود في السماء فرسخ . ابن عباس
وأخرج البيهقي في البعث عنه قال : لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير عكرمة أنه سئل عن الأرائك فقال : هي الحجال على السرر .