قوله : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نوع آخر من قبائح الكفار وذلك أن الله - سبحانه - لما حكم في كل وقت بحكم خاص غيروا تلك الأوقات بالنسيء والكبيسة ، فأخبرنا الله بما هو حكمه ، فقال : إن عدة الشهور أي عدد شهور السنة عند الله في حكمه وقضائه وحكمته اثنا عشر شهرا .
قوله : في كتاب الله أي فيما أثبته في كتابه .
قال أبو علي الفارسي : لا يجوز أن يتعلق في كتاب الله بقوله : " عدة الشهور " للفصل بالأجنبي وهو الخبر : أعني اثنا عشر شهرا ، فقوله : في كتاب الله ، وقوله : " يوم خلق " بدل من قوله : عند الله ، والتقدير : إن عدة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ، وفائدة الإبدالين تقرير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله في كتاب الله ، وثابت في علمه في أول ما خلق الله العالم .
ويجوز أن يكون في كتاب الله صفة " اثنا عشر " : أي اثنا عشر مثبتة في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ .
وفي هذه الآية بيان أن الله - سبحانه - وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على هذا الترتيب المعروف يوم خلق السماوات والأرض ، وأن هذا هو الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب ، وأنه لا اعتبار بما عند العجم والروم والقبط من الشهور التي يصطلحون عليها ويجعلون بعضها ثلاثين يوما ، وبعضها أكثر ، وبعضها أقل .
قوله : منها أربعة حرم هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب : ثلاثة سرد ، وواحد فرد; كما ورد بيان ذلك في السنة المطهرة .
قوله : ذلك الدين القيم أي : كون هذه الشهور كذلك ، ومنها أربعة حرم هو الدين المستقيم ، والحساب الصحيح ، والعدد المستوفى .
قوله : فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي في هذه الأشهر الحرم بإيقاع القتال فيها والهتك لحرمتها ، وقيل : إن الضمير يرجع إلى الشهور كلها الحرم وغيرها ، وإن الله نهى عن الظلم فيها ، والأول أولى .
وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن تحريم القتال [ ص: 571 ] في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ لهذه الآية ، ولقوله : ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ( المائدة : 2 ) ولقوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ( التوبة : 5 ) الآية .
وقد ذهب جماعة آخرون إلى أن تحريم منسوخ بآية السيف . القتال في الأشهر الحرم
ويجاب عنه بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم كما في الآية المذكورة ، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مقيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه ، وأما ما استدلوا به من أنه - صلى الله عليه وسلم - حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، فقد أجيب عنه أنه لم يبتد محاصرتهم في ذي القعدة بل في شوال ، والمحرم إنما هو ابتداء القتال في الأشهر الحرم لا إتمامه وبهذا يحصل الجمع .
قوله : وقاتلوا المشركين كافة أي جميعا ، وهو مصدر في موضع الحال .
قال : مثل هذا من المصادر كعامة وخاصة لا يثنى ولا يجمع الزجاج كما يقاتلونكم كافة أي جميعا .
وفيه دليل على ، وأنه فرض على الأعيان إن لم يقم به البعض وجوب قتال المشركين واعلموا أن الله مع المتقين أي ينصرهم ويثبتهم ، ومن كان الله معه فهو الغالب ، وله العاقبة والغلبة .
قوله : إنما النسيء زيادة في الكفر .
قرأ نافع في رواية عنه " النسي " بياء مشددة بدون همز . ورش
وقرأ الباقون بياء بعدها همزة .
قال النحاس : ولم يرو أحد ، عن نافع هذه القراءة إلا وحده ، وهو مشتق من نسأه وأنسأه : إذا أخره ، حكى ذلك ورش . الكسائي
قال الجوهري : النسيء فعيل بمعنى مفعول من قولك : نسأت الشيء فهو منسوء : إذا أخرته ، ثم تحول منسوء إلى نسيء كما تحول مقتول إلى قتيل .
قال : في النسيء بالهمزة معنى الزيادة يقال : نسأ ينسأ : إذا زاد ، قال : ولا يكون بترك الهمزة إلا من النسيان كما قال - تعالى - : ابن جرير نسوا الله فنسيهم ، ورد على نافع قراءته .
وكانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم المذكورة ، فإذا احتاجوا إلى القتال فيها قاتلوا فيها وحرموا غيرها ، فإذا قاتلوا في المحرم حرموا بدله شهر صفر ، وهكذا في غيره ، وكان الذي يحملهم على هذا أن كثيرا منهم إنما كانوا يعيشون بالغارة على بعضهم البعض ، ونهب ما يمكنهم نهبه من أموال من يغيرون عليه ، ويقع بينهم بسبب ذلك القتال ، وكانت الأشهر الثلاثة المسرودة يضر بهم تواليها وتشتد حاجتهم وتعظم فاقتهم ، فيحللون بعضها ويحرمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم ، فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه .
وقد وقع الخلاف في أول من فعل ذلك فقيل : هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عتيد ، ويلقب القلمس ، وإليه يشير بقوله : الكميت
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما
وفيه يقول قائلهم :
ومنا ناسئ الشهر القلمس
وقيل : هو عمرو بن لحي ، وقيل : هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة ، وسمى الله - سبحانه - النسيء زيادة في الكفر لأنه نوع من أنواع كفرهم ، ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر .
قوله : يضل به الذين كفروا .
قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو ، وابن عامر " يضل " على البناء للمعلوم .
وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول ، ومعنى القراءة الأولى أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسيء ، ومعنى القراءة الثانية ، أن الذي سن لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة ، وقد اختار القراءة الأولى أبو حاتم ، واختار القراءة الثانية أبو عبيد .
وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، ويعقوب " يضل " بضم الياء وكسر الضاد على أن فاعله الموصول ، ومفعوله محذوف ، ويجوز أن يكون فاعله هو الله - سبحانه - ومفعوله الموصول .
وقرئ بفتح الياء والضاد من ضل يضل .
وقرئ نضل بالنون .
قوله : يحلونه عاما ويحرمونه عاما الضمير راجع إلى النسيء : أي يحلون النسيء عاما ويحرمونه عاما ، أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه : أي يحلونه عاما بإبداله بشهر آخر من شهور الحل ، " يحرمونه عاما " : أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال ، بل يبقونه على حرمته .
قوله : ليواطئوا عدة ما حرم الله أي لكي يواطئوا ، والمواطأة الموافقة ، يقال : تواطأ القوم على كذا : أي توافقوا عليه واجتمعوا .
والمعنى : إنهم لم يحلوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة .
قال قطرب : معناه عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم وقرنوه بالمحرم في التحريم ، وكذا قال . الطبري
قوله : فيحلوا ما حرم الله أي من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها زين لهم سوء أعمالهم أي : زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي يعملونها ، ومن جملتها النسيء .
وقرئ على البناء للفاعل . والله لا يهدي القوم الكافرين أي المصرين على كفرهم ، المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب ، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد إليه فقد نصبها الله - سبحانه - لجميع عباده .
وقد أخرج ، البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، من حديث أبي بكر . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في حجته فقال : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان
وأخرج نحوه ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث : وأخرج نحوه ابن عمر ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه من حديث . ابن عباس
وأخرج نحوه أيضا البزار ، ، ، وابن جرير وابن مردويه من حديث . أبي هريرة
وأخرجه أحمد ، ، وابن مردويه من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعا مطولا .
وأخرج [ ص: 572 ] سعيد بن منصور وابن مردويه ، عن ابن عباس ، منها أربعة حرم فقال : المحرم ، ورجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة .
وأخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، قال : إنما سمين حرما لئلا يكون فيهن حرب .
وأخرج ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب ، عن في قوله : ابن عباس ، إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرما ، وعظم حرماتهن ، وجعل الدين فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم فلا تظلموا فيهن أنفسكم قال : في كلهن وقاتلوا المشركين كافة يقول جميعا .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مقاتل في قوله : وقاتلوا المشركين كافة قال : نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة .
وأخرج ، الطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عن أبيه ، عن جده قال : عمرو بن شعيب ، وعشرين سنة مرة ، وهي النسيء الذي ذكره الله في كتابه ، فلما كان عام حج كانت العرب يحلون عاما شهرا وعاما شهرين ، ولا يصيبون الحج إلا في كل سنة أبو بكر بالناس ، وافق ذلك العام ، فسماه الله الحج الأكبر ، ثم حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العام المقبل ، واستقبل الناس الأهلة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قال : ابن عمر بالعقبة فقال : إنما النسيء من الشيطان زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما فكانوا يحرمون المحرم عاما ويستحلون صفرا ، ويحرمون صفرا عاما ويستحلون المحرم ، وهي النسيء . وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن قال : كان ابن عباس ، جنادة بن عوف الكناني يوافي الموسم كل عام ، وكان يكنى أبا ثمامة ، فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يخاب ولا يعاب ، ألا وإن صفر الأول العام حلال ، فيحله للناس ، فيحرم صفرا عاما ، ويحرم المحرم عاما فذلك قوله - تعالى - : إنما النسيء زيادة في الكفر الآية .
وأخرج عنه في الآية قال : المحرم كانوا يسمونه صفرا ، وصفر يقولون صفران الأول والآخر ، يحل لهم مرة الأول ، ومرة الآخر . ابن أبي حاتم
وأخرج ابن مردويه ، عنه قال : كانت النساءة حيا من بني مالك من كنانة من بني فقيم ، فكان آخرهم رجلا يقال له القلمس ، وهو الذي أنسأ المحرم .