قال - تعالى - : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة )
( أقول ) : وصفهم الله - تعالى - بأنه قد طرأ عليهم بعد رؤية تلك الآيات ما أزال أثرها من قلوبهم ، وذهب بعبرتها من عقولهم ، فقال : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ) فالعطف بـ ( ثم ) يفيد أن الأولين منهم قد خشعت قلوبهم لما رأوا في زمن موسى - عليه السلام - ما رأوا ، ثم خلف من بعدهم خلف كان أمر قسوتها ما وصفه - عز وجل . والقسوة الصلابة وهي من صفات الأجسام ، ووصف القلوب بالقسوة مجاز تشبيه مما يسمونه الاستعارة بالكناية ، ويصح في ( أو ) الترديد والتشكيك ، وهو بالنسبة إلى المخاطبين لا إلى المتكلم [ ص: 292 ] باعتبار ما يعهد في التخاطب العربي ، كأن عربيا يحدث آخر ويقول له : إن هذه القلوب في قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها . ويصح فيها التقسيم ، أي أن القسوة عمت قلوبكم ، فأقلها قسوة تشبه الحجر الصلد ، ومنها ما هو أشد منه قسوة ، وأظهر منهما أن تكون للإضراب على طريقة المبالغة ، أي بل هي أشد قسوة من الحجارة ؛ إذ لا شعور فيها يأتي بخير ، ولا عاطفة تفيض منها بعبرة ، والحجارة ليست كذلك ؛ لأن منها ما يفيض بالخيرات ، ومنها ما يكون موضع ظهور آثار القدرة الإلهية في الجمادات .
وصف الحجارة بالصفات الثلاثة الآتية بعد أن شبه القلوب بها في الصلابة المطلقة ، وفرق بين القلوب وبينها بالإضراب ، والانتقال إلى أن القلوب أشد صلابة ، وأراد أن يبين بهذه الصفات وجه ضعف الصلابة في الحجارة وشدتها في القلوب ، فكأن الكلام يشبه أن يكون عذرا عن الحجارة دون القلوب ، والمراد بالقلوب ما اعتبرت عنوانا له وهو الوجدان والعقل ، وأكثر ما استعمل في الأول ؛ لأنه سائق الإقناع والإذعان ، ويطلق لفظ القلب على النفس الناطقة ؛ لأن من شأن القلب أن يتأثر مما يتأثر منه الوجدان أو العقل أو الروح مطلقا ، وفي الكلام من المبالغة أن هذه القلوب فقدت خاصية التأثر والانفعال بما يرد عليها من المواعظ والآيات التي هي من خواص الروح الإنساني ، حتى كأن أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى دركة الجماد كالحجارة ، بل نزلوا عن دركة الحجارة أيضا ، وذلك ما أفاده قوله - تعالى - : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) التفجر : تفعل من الفجر وهو الشق الواسع يكون للمطاوعة ، كفجرته فتفجر ( بالتشديد فيهما ) ويكون لتكرر الفعل وحصوله مرة بعد أخرى ، ومثله التشقق إلا أنه أعم ، ولما في التفجر من معنى السعة عبر به عن خروج الأنهار من الصخور الكبار وهو معهود في الجبال ، وعبر بالتشقق لخروج الماء الذي يصدق بالقليل منه .
والمعنى : أن الحجارة على صلابتها وقسوتها تتأثر بالماء الرقيق اللطيف فيشقها وينفذ منها بقلة أو كثرة ، فيحيي الأرض وينفع النبات والحيوان . وأما هذه القلوب فلم تعد تتأثر بالحكم والنذر ولا بالعظات والعبر ، فالحكم لا تقوى على شقها والنفوذ منها إلى أعماق الوجدان ، وأنوار الفطرة قد انطفأت فيها فلا يظهر شعاعها على إنسان ، ومن الحجارة ما يشقه الماء القليل كماء العيون والينابيع الحجرية ، ومنها ما لا يفجره إلا الماء القوي الغمر الذي يسمى نهرا . ( وإن منها لما يهبط من خشية الله ) وهو ما ينحط من أعلى الجبل ، ومن أثنائه بسبب أثر من آثار القهر الإلهي كالبراكين والصواعق التي تهبط بها الصخور وتندك الجبال ، وقد جعل هذا شبها للآيات الإلهية التي أظهرها على يد عبده ونبيه موسى - عليه السلام - ، فهي حوادث عظيمة في الكون تفزع بها نفوس المؤمنين إلى الله ، وتخشع لأمره ونهيه لعظمتها وخفاء سر إيجادها ، [ ص: 293 ] كما تفزع النفوس من حوادث البراكين والصواعق التي تدك الصخور وتدمر الحصون ، وقد أصبحت تلك القلوب بعد مشاهدة الآيات لا تتأثر بها ولا تزداد إيمانا .
فملخص التشبيه : أن قلوبكم تشبه الحجارة في القسوة ، بل قد تزيد في القساوة عنها ، فإن الحجارة الصم تتأثر في باطنها بالماء اللطيف النافع ، بعضها بالقوي منه وبعضها بالضعيف ، ولكن قلوبكم لا تتأثر بالحكم والمواعظ التي من شأنها التأثير في الوجدان والنفوذ إلى الجنان ، والحجارة تتأثر بالحوادث الهائلة التي يحدثها الله في الكون كالصواعق والزلازل ، ولكن قلوبكم لم تتأثر بتلك الآيات الإلهية التي تشبهها ، فلا أفادت فيها المؤثرات الداخلية ، ولا المؤثرات الخارجية كما أفادت في الأحجار ، فبذلك كانت قلوبكم أشد قسوة . ثم هددهم بقوله : ( وما الله بغافل عما تعملون ) أي فهو سيربيكم بضروب النقم ، إذا لم تتربوا بصنوف النعم .