لما ذكر الله عباده بنعمة الإيجاد ونعمة المساواة في المواهب التي تقتضي التقوى وعدم إطراء السلف برفعهم إلى مقام الربوبية كما وقع من الذين ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) ذكرهم ثانيا ببعض ، فقال : ( خصائص الربوبية التي تقتضي الاختصاص بالعبودية الذي جعل لكم الأرض فراشا ) بما مهدها وجعلها صالحة للافتراش والإقامة عليها والارتفاق بها ، أي فهو القادر على جلائل الفعال ، العظيم الذي يستحق العبادة والإجلال .
المنعم بجميع النعم ، الجدير بأعلى مراتب الشكر ، جعل الأرض بقدرته فراشا لأجل منفعتكم [ ص: 157 ] ( والسماء بناء ) متماسكا لكيلا تقع على الأرض فتسحقكم . السماء : مجموع ما فوقنا من العالم .
والبناء : وضع شيء على شيء بحيث يتكون من ذلك شيء بصورة مخصوصة ، وقد كون الله السماء بنظام كنظام البناء ، وسوى أجرامها على هذه الصفة المشاهدة وأمسكها بسنة الجاذبية فلا تقع على الأرض ، ولا يصطدم بعضها ببعض ، إلا إذا جاء يوم الوعيد وبطل نظام هذا العالم ليعود في خلق جديد ، والواجب ملاحظته في هذا المقام ، هو تصور قدرة الله تعالى وعظمته ، وسعة فضله ورحمته .
ثم بعد أن امتن بنعمة الإيجاد ونعمة الفراش والمهاد ، ونعمة السماء التي هي كالبناء ، ذكر نعمة الإمداد ، الذي تحفظ به هذه الأجساد ، وهي مادة الغذاء ، التي بها النمو والبقاء ، فقال : ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) الثمرات : ما يحصل من النبات نجما كان أو شجرا ، يصلح الزارع والغارس الأرض ، ويبذر البذر ، ويغرس الفسيل ، ويتعاهد ذلك بالسقي والعزق ، فيكون له كسب في رزقه ، ولكنه ليس له كسب في إنزال المطر الذي يسقى به ، ولا في تغذية النبات بماء المطر أو النهر المجتمع من المطر ، وبأجزاء الأرض وعناصرها الأخر ، ولا في تولد خلاياه التي بها نموه ولا في إثماره إذا أثمر ، إنما كل ذلك بيد الله القدير . فعلينا أن نتفكر في ذلك لنزداد تعظيما له وإجلالا فلا نعبد معه أحدا .
وبعد أن عرفنا الله تعالى بأنفسنا ، وبنعمته علينا وعلى سلفنا . وبعد أن عرفنا ذاته الكريمة بآثار رحمته ومننه العظيمة ، وصرنا جديرين بأن نعرف أن العبد عبد فلا يعبد وأن الرب رب فلا يشرك به ولا يجحد ، قال تفريعا وترتيبا على ما سبق : ( فلا تجعلوا لله أندادا ) من سلفكم المخلوقين مثلكم تطلبون منهم ما لا يطلب إلا منه وهو كل ما تعجزون عنه ولا يصل كسبكم إليه ، لا تفعلوا ذلك فإنهم في الخلق والعبودية مثلكم .
الأنداد : جمع ند بكسر النون ، وفسر بالشريك ، وهو في اللغة : المضارع والكفء يقال : فلان ند فلان ومن أنداد فلان ، أي يضارعه ويماثله ولو في بعض الشئون . والأنداد الذين اتخذوا في جانب الله هم الذين خضع الناس لهم وصمدوا إليهم في بعض الحاجات ، لمعنى يعتقده فيهم الخاضعون المخاطبون بترك الأنداد أولا وبالذات ، وهم مشركو العرب وأهل الكتاب ، فالعرب كانت تسمي ذلك الخضوع والصمود عبادة ، إذ لم يكن عندهم وحي ينهاهم عن عبادة غير الله فيتحاموا هذا اللفظ " العبادة " ويستبدلوا به لفظ التعظيم أو التوسل مثلا تأويلا لظاهر نص التنزيل . وأما أهل الكتاب الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أندادا وأربابا فكانوا يؤولون فلا يسمون هذا الاتخاذ عبادة ولا أولئك المعظمين آلهة أو أندادا أو أربابا .
وفرق بين الاتخاذ بالفعل والتسمية بالقول . والجميع متفقون على أنه لا خالق إلا الله ، ولا رازق إلا الله ، وإنما كانوا يسمون دعاءهم غير الله والتقرب إليه توسلا واستشفاعا ، ويسمون تشريعهم [ ص: 158 ] لهم العبادات وتحليلهم لهم المنكرات ، وتحريمهم عليهم بعض الطيبات ، فقها واستنباطا من التوراة ، إلا أن من النصارى من لا يتحامون التصريح بعبادة السيدة مريم وبعض القديسين استعمالا للفظ في مدلوله اللغوي .
وصور العبادة تختلف عند الأمم اختلافا عظيما ، وأعلاها عند المسلمين الأركان الخمسة والدعاء . وقالوا : كل عمل محظور تحسن فيه النية لله تعالى فهو عبادة ، كأن المعنى الذي يجعل جميع الأعمال عبادة هو التوجه إلى الله تعالى وحده وابتغاء مرضاته ، ولها عند أهل الكتاب صور أخرى ، والمؤولون يخصون هذه الصور بالله تعالى ، وإذا ابتدعوا صورة فيها معنى العبادة يسمونها باسم آخر يستحلونها بل يستحبونها به ، ولكنهم لا يخرجون بالتسمية أو التأويل عن حيز من يتخذ من دون الله أندادا كما ذكر الله عنهم في قوله : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) ولم يكن منهم سوى التوسل بهم والأخذ في الدين بقولهم تقليدا لهم بدون فهم لما جاء على لسان الوحي ، كما صح ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
، فقالوا : إن للخير إلها هو الإله الأول . وإن للشر إلها يضاده ، وليس النهي في الآية عن هذا الند الشريك ؛ لأن المخاطبين لا يدينون به كما قلنا وتدل عليه الآيات الكثيرة . وقدماء الفرس جعلوا لله ندا في الخلق والإيجاد
لذلك وصل النهي بقوله - عز وجل - : ( وأنتم تعلمون ) أي والحال أنكم تعلمون أنه لا ند له لأنكم إذا سئلتم : من خلقكم وخلق من قبلكم ؟ تقولون الله ، وإذا سئلتم : من يرزقكم من السماوات والأرض ومن يدبر الأمر ؟ تقولون : الله . فلماذا تستغيثون إذن بغير الله وتدعون غير الله ؟ ومن أين أتيتم بهذه الوسائط التي لا تضر ولا تنفع وادعيتم أنهم شفعاؤكم عند الله ؟ ومن أين جاءكم أن التقرب والتوسل إلى الله يكون بغير ما شرعه من الدين حتى قلتم : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ) ( 39 : 3 ) .
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم وخلق وسائطكم وشفعاءكم ، وأعدكم جميعا للتقوى التي تقربكم إليه زلفى ، وساوى بينكم في أنواع المواهب إلا أنه خص الأنبياء - عليهم السلام - بالوحي ليعلموكم ما أخطأ نظركم ورأيكم فيه ، فعليكم أن تهتدوا بما جاءوا به ، فإن صد المرءوسين عن ترك تقاليدهم واتباع الوحي من غير زيادة فيه ولا نقصان منه خوفهم الرؤساء .
فقد آثروا رؤساءهم على الله وجعلوهم له أندادا ، وإن صد الرؤساء عن هذا الاتباع توقع زوال المنفعة والجاه لدى المرءوسين فقد اتخذوهم أندادا ، فالند : هو المكافئ والمثل ، وأنتم بترككم الحق لخوفهم ورجائهم تفضلونهم على الله تعالى وتجعلونه أقل الأنداد تعظيما ، ففروا - رحمكم الله - إلى الله ، ولا تخافوا غيره ولا ترجوا سواه ، فعار على من يعرف الله أن يؤثر رضاء أحد على رضاه ، لا فرق بين رئيس ومرءوس ، وتابع ومتبوع ، بل هذا لا يقع من مؤمن حقيقي ؛ لأن الله تعالى يقول : ( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) ( 3 : 175 ) .