( الشبهة الرابعة ) مسألة
nindex.php?page=treesubj&link=34056تبليغ الدعوة إلى الإسلام . وقد بينا بطلانها من قبل ، ونزيدها هنا بيانا فنقول : لئن كان اطلاع بعض الأفراد من أعاجم الشرق والغرب على
nindex.php?page=treesubj&link=28888ترجمة القرآن سببا لإسلامهم ، فعلته أنهم عرفوا منها أصول الإسلام ومقاصده كلها أو بعضها ، وذلك كاف لتفضيله على غيره من الأديان كلها ، ولم يكن سببه ترجمته كتأثير أصله المعجز للبشر في إقناع العقول ، وهداية القلوب الذي كان سبب اهتداء العرب ، وقلب طباعهم ، وجمع كلمتهم ، وارتفاع رايتهم ، وخضوع الأمم والشعوب لهم . ولو بلغت هذه الأصول والمقاصد للأعاجم بلغاتهم بأسلوب آخر بأن يذكر كل أصل في فصل خاص مع الشواهد عليه من القرآن والسنة ، ببيان معاني نصوصهما بالتفسير ، وإقامة الأدلة عليه من النقل والعقل - لكان يكون ذلك أقرب إلى الإقناع ، وأشد تأثيرا في هداية المستعد للإسلام فإن هذه هي الطريقة المثلى للدعوة ، وهي التي جرى عليها مسلمو خير القرون ، وشهد لهم بذلك أصدق الشهود ، وأبعدها عن الجرح والطعن - وهي سيرتهم الفضلى في فتوحهم وعدلهم المطلق في أحكامهم ، وصلاحهم وإصلاحهم في أعمالهم ، وبذلك انتشر
[ ص: 292 ] الإسلام في الشرق والغرب ، وساد أهله الأمم والشعوب بسرعة لم يعرف لها نظير في التاريخ .
فإسلام الأمة العربية كان بتأثير هداية القرآن وهدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجهاده به كما قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ( 17 : 9 ) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52نهدي به من نشاء من عبادنا ( 42 : 52 )
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26ويهدي به كثيرا ( 2 : 26 )
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ( 5 : 16 ) وقال لنبيه :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=52وجاهدهم به جهادا كبيرا ( 25 : 52 ) وقد كان كل ما كان من اضطهاد رؤساء قومه المعاندين له ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأجل صده عن تبليغ القرآن للعرب لجزمهم بما يكون من جذبهم به إلى اتباعه ، كما قال لهم عمه
أبو لهب في أول العهد بتبليغهم الدعوة : خذوا على يديه ، قبل أن تجتمع العرب عليه . ولم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلب منهم ، ثم من كل من كان يعرض نفسه عليهم في الموسم إلا حمايته ليبلغ دعوة ربه ، ولما أسلم من أسلم من
الأنصار في موسم الحج سرا ، ونشروا الدعوة في عاصمتهم
يثرب ، وصار لهم قوة يحمونه بها من
قريش هاجر إليهم . فما زالت
قريش تقاتله إلى أن رضي منهم بعد استكمال قوته أن يصالحهم في
الحديبية بالشروط التي يرضونها - مع كراهة أصحابه كلهم لها - في مقابلة الشرط الوحيد الذي كان هو أهم المهمات عنده عليه صلوات الله وسلامه ، وهو حرية الاختلاط والاجتماع بينه وبين سائر العرب ، لعلمه بأن سماعهم للقرآن - ولاسيما منه - كاف لإسلام السواد الأعظم منهم ، وكذلك كان .
وكذلك ما فعل خلفاؤه وأصحابه الهادون المهديون من العجائب في نشر الإسلام وفتح الأقطار ، وثل عروش أعظم دول الأرض قوة وعظمة ونظاما وتشريعا وحضارة ، وتبديل ممالكهم وشعوبها بذلك كله ما هو خير منه - ما فعلوا ذلك كله إلا بتأثير القرآن .
وأما انتشار الإسلام في الأعاجم فقد كان بتبليغ الصحابة ثم من تبعهم في هديهم من العرب فالعجم للدعوة ، وكان برهانهم عليها من أحوالهم الصالحة وسيرتهم الحسنى أقوى تأثيرا في تلك الشعوب من أقوالهم التي كانت تنقل إليها بالترجمة ، ولم ينتشر الإسلام في شعب منها بترجمة القرآن بلغته ، وقراءتهم لترجمته ، وإنما كانت درجة الهدى والعلم والعمل ترتفع فيهم بقدر تدبرهم له بعد تعلم لغته ، فكان من متقني لغة القرآن من الموالي كبار الأئمة المجتهدين من أهل الحديث وأهل الرأي ، وجهابذة علوم اللغة وفنونها ، وأفراد العباد ، ونوابغ الأدباء ، وفحولة الشعراء .
وقد كان إيمانهم الصحيح بتلك الدعوة المثلى هو الذي حملهم على طلب لغة الدين ( العربية ) من غير إلزام حاكم ، ولا نظام تعليم إجباري تؤسس له المدارس .
[ ص: 293 ] وقد ترجم القرآن في هذه القرون الأخيرة بأشهر لغات الشعوب الكبيرة من غربية وشرقية ، فكانت ترجمته مثارا للشبهات وسببا للمطاعن ، أكثر مما كانت سببا للاهتداء إلى الإسلام ( فإن قيل ) : إن مثار الشبهات لم يكن من الترجمة بل من الخطأ فيها ، وذلك يتلافى بالترجمة الصحيحة التي ندعو إليها ، وإن سبب الطعن لم يكن إلا سوء قصد من أعداء الإسلام من دعاة النصرانية أو الملاحدة ، وهؤلاء يطعنون في القرآن العربي المنزل أيضا .
( قلت ) : إني على علمي بهذا أقول : إن الترجمة أكبر عون على الأمرين ، فإن الذي يطعن في القرآن المنزل إما أن يكون ضعيفا في اللغة العربية أو حاذقا لها راسخا فيها ، فالأول شبيه بمن يحاول فهم القرآن من الترجمة أكثر ما يؤتى من جهله باللغة ، وأما الثاني فهو يتكلف الطعن تكلفا يكابر به وجدانه ، ويغالب ذوقه وبيانه ، فيجيء طعنه ضعيفا سخيفا ، ويكون الرد عليه سهل المسلك . واضح المنهج ، وقلما يكون الدفاع عن الترجمة كذلك ، وإن كانت صحيحة ، ولن تكون صحيحة إلا في بعض الجمل أو الآيات القصيرة ، دون السور والآيات الطويلة . بل بعض المفردات تتعذر ترجمتها بمفردات من اللغات الأخرى تؤدي المراد منها ، وإنه ليوجد في كل لغة من هذه المفردات التي لا يوجد لها مرادف في لغة أخرى ، وفي كلام بعض العارفين باللغة العربية وغيرها من اللغات المشهورة ما يدل على أن العربية أغناهن بهذه المفردات دع ما لها من الخصائص في فنون المجاز والكنايات .
( الشُّبْهَةُ الرَّابِعَةُ ) مَسْأَلَةُ
nindex.php?page=treesubj&link=34056تَبْلِيغِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ . وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانِهَا مِنْ قَبْلُ ، وَنَزِيدُهَا هُنَا بَيَانًا فَنَقُولُ : لَئِنْ كَانَ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ مِنْ أَعَاجِمِ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ عَلَى
nindex.php?page=treesubj&link=28888تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِإِسْلَامِهِمْ ، فَعِلَّتُهُ أَنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْهَا أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَمَقَاصِدَهُ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا ، وَذَلِكَ كَافٍ لِتَفْضِيلِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبُهُ تَرْجَمَتَهُ كَتَأْثِيرِ أَصْلِهِ الْمُعْجِزِ لِلْبَشَرِ فِي إِقْنَاعِ الْعُقُولِ ، وَهِدَايَةِ الْقُلُوبِ الَّذِي كَانَ سَبَبَ اهْتِدَاءِ الْعَرَبِ ، وَقَلْبِ طِبَاعِهِمْ ، وَجَمْعِ كَلِمَتِهِمْ ، وَارْتِفَاعِ رَايَتِهِمْ ، وَخُضُوعِ الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ لَهُمْ . وَلَوْ بَلَغَتْ هَذِهِ الْأُصُولُ وَالْمَقَاصِدُ لِلْأَعَاجِمِ بِلُغَاتِهِمْ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ بِأَنْ يُذْكَرَ كُلُّ أَصْلٍ فِي فَصْلٍ خَاصٍّ مَعَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، بِبَيَانِ مَعَانِي نُصُوصِهِمَا بِالتَّفْسِيرِ ، وَإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ مِنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ - لَكَانَ يَكُونُ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِقْنَاعِ ، وَأَشَدَّ تَأْثِيرًا فِي هِدَايَةِ الْمُسْتَعِدِّ لِلْإِسْلَامِ فَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُثْلَى لِلدَّعْوَةِ ، وَهِيَ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا مُسْلِمُو خَيْرِ الْقُرُونِ ، وَشَهِدَ لَهُمْ بِذَلِكَ أَصْدَقُ الشُّهُودِ ، وَأَبْعَدُهَا عَنِ الْجَرْحِ وَالطَّعْنِ - وَهِيَ سِيرَتُهُمُ الْفُضْلَى فِي فُتُوحِهِمْ وَعَدْلِهِمُ الْمُطْلَقِ فِي أَحْكَامِهِمْ ، وَصَلَاحِهِمْ وَإِصْلَاحِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَبِذَلِكَ انْتَشَرَ
[ ص: 292 ] الْإِسْلَامُ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ ، وَسَادَ أَهْلُهُ الْأُمَمَ وَالشُّعُوبَ بِسُرْعَةٍ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا نَظِيرٌ فِي التَّارِيخِ .
فَإِسْلَامُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ كَانَ بِتَأْثِيرِ هِدَايَةِ الْقُرْآنِ وَهَدْيِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَجِهَادِهِ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=9إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ( 17 : 9 ) ،
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=52نَهْدَيْ بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ( 42 : 52 )
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ( 2 : 26 )
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ( 5 : 16 ) وَقَالَ لِنَبِيِّهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=52وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ( 25 : 52 ) وَقَدْ كَانَ كُلُّ مَا كَانَ مِنِ اضْطِهَادِ رُؤَسَاءِ قَوْمِهِ الْمُعَانِدِينَ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِأَجْلِ صَدِّهِ عَنْ تَبْلِيغِ الْقُرْآنِ لِلْعَرَبِ لِجَزْمِهِمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ جَذْبِهِمْ بِهِ إِلَى اتِّبَاعِهِ ، كَمَا قَالَ لَهُمْ عَمُّهُ
أَبُو لَهَبٍ فِي أَوَّلِ الْعَهْدِ بِتَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ : خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ . وَلَمْ يَكُنْ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَطْلُبُ مِنْهُمْ ، ثُمَّ مِنْ كُلِّ مَنْ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَوْسِمِ إِلَّا حِمَايَتَهُ لِيُبَلِّغَ دَعْوَةَ رَبِّهِ ، وَلَمَّا أَسْلَمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ
الْأَنْصَارِ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ سِرًّا ، وَنَشَرُوا الدَّعْوَةَ فِي عَاصِمَتِهِمْ
يَثْرِبَ ، وَصَارَ لَهُمْ قُوَّةٌ يَحْمُونَهُ بِهَا مِنْ
قُرَيْشٍ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ . فَمَا زَالَتْ
قُرَيْشٌ تُقَاتِلُهُ إِلَى أَنْ رَضِيَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ قَوَّتِهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ فِي
الْحُدَيْبِيَةَ بِالشُّرُوطِ الَّتِي يَرْضَوْنَهَا - مَعَ كَرَاهَةِ أَصْحَابِهِ كُلِّهِمْ لَهَا - فِي مُقَابَلَةِ الشَّرْطِ الْوَحِيدِ الَّذِي كَانَ هُوَ أَهَمَّ الْمُهِمَّاتِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ ، وَهُوَ حُرِّيَّةُ الِاخْتِلَاطِ وَالِاجْتِمَاعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، لِعِلْمِهِ بِأَنَّ سَمَاعَهُمْ لِلْقُرْآنِ - وَلَاسِيَّمَا مِنْهُ - كَافٍ لِإِسْلَامِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ كَانَ .
وَكَذَلِكَ مَا فَعَلَ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ الْهَادُونَ الْمَهْدِيُّونَ مِنَ الْعَجَائِبِ فِي نَشْرِ الْإِسْلَامِ وَفَتْحِ الْأَقْطَارِ ، وَثَلِّ عُرُوشِ أَعْظَمِ دُوَلِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَعَظْمَةً وَنِظَامًا وَتَشْرِيعًا وَحَضَارَةً ، وَتَبْدِيلِ مَمَالِكِهِمْ وَشُعُوبِهَا بِذَلِكَ كُلِّهِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ - مَا فَعَلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَّا بِتَأْثِيرِ الْقُرْآنِ .
وَأَمَّا انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي الْأَعَاجِمِ فَقَدْ كَانَ بِتَبْلِيغِ الصَّحَابَةِ ثُمَّ مَنْ تَبِعَهُمْ فِي هَدْيِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ فَالْعَجَمِ لِلدَّعْوَةِ ، وَكَانَ بُرْهَانُهُمْ عَلَيْهَا مِنْ أَحْوَالِهِمُ الصَّالِحَةِ وَسِيرَتِهِمُ الْحُسْنَى أَقْوَى تَأْثِيرًا فِي تِلْكَ الشُّعُوبِ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الَّتِي كَانَتْ تُنْقَلُ إِلَيْهَا بِالتَّرْجَمَةِ ، وَلَمْ يَنْتَشِرِ الْإِسْلَامُ فِي شَعْبٍ مِنْهَا بِتَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِ ، وَقِرَاءَتِهِمْ لِتَرْجَمَتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ دَرَجَةُ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ تَرْتَفِعُ فِيهِمْ بِقَدْرِ تَدَبُّرِهِمْ لَهُ بَعْدَ تَعَلُّمِ لُغَتِهِ ، فَكَانَ مِنْ مُتْقِنِي لُغَةِ الْقُرْآنِ مِنَ الْمَوَالِي كِبَارُ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِ الرَّأْيِ ، وَجَهَابِذَةُ عُلُومِ اللُّغَةِ وَفُنُونِهَا ، وَأَفْرَادُ الْعِبَادِ ، وَنَوَابِغُ الْأُدَبَاءِ ، وَفُحُولَةُ الشُّعَرَاءِ .
وَقَدْ كَانَ إِيمَانُهُمُ الصَّحِيحُ بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْمُثْلَى هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى طَلَبِ لُغَةِ الدِّينِ ( الْعَرَبِيَّةِ ) مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ حَاكِمٍ ، وَلَا نِظَامِ تَعْلِيمٍ إِجْبَارِيٍّ تُؤَسَّسُ لَهُ الْمَدَارِسُ .
[ ص: 293 ] وَقَدْ تُرْجِمَ الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الْأَخِيرَةِ بِأَشْهَرِ لُغَاتِ الشُّعُوبِ الْكَبِيرَةِ مِنْ غَرْبِيَّةٍ وَشَرْقِيَّةٍ ، فَكَانَتْ تَرْجَمَتُهُ مَثَارًا لِلشُّبَهَاتِ وَسَبَبًا لِلْمَطَاعِنِ ، أَكْثَرُ مِمَّا كَانَتْ سَبَبًا لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْإِسْلَامِ ( فَإِنْ قِيلَ ) : إِنَّ مَثَارَ الشُّبَهَاتِ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّرْجَمَةِ بَلْ مِنَ الْخَطَأِ فِيهَا ، وَذَلِكَ يُتَلَافَى بِالتَّرْجَمَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي نَدْعُو إِلَيْهَا ، وَإِنَّ سَبَبَ الطَّعْنِ لَمْ يَكُنْ إِلَّا سُوءَ قَصْدٍ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوِ الْمَلَاحِدَةِ ، وَهَؤُلَاءِ يَطْعَنُونَ فِي الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْمُنَزَّلِ أَيْضًا .
( قُلْتُ ) : إِنِّي عَلَى عِلْمِي بِهَذَا أَقُولُ : إِنَّ التَّرْجَمَةَ أَكْبَرُ عَوْنٍ عَلَى الْأَمْرَيْنِ ، فَإِنَّ الَّذِي يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَوْ حَاذِقًا لَهَا رَاسِخًا فِيهَا ، فَالْأَوَّلُ شَبِيهٌ بِمَنْ يُحَاوِلُ فَهْمَ الْقُرْآنِ مِنَ التَّرْجَمَةِ أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى مَنْ جَهْلِهِ بِاللُّغَةِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ يَتَكَلَّفُ الطَّعْنَ تَكَلُّفًا يُكَابِرُ بِهِ وِجْدَانُهُ ، وَيُغَالِبُ ذَوْقَهُ وَبَيَانَهُ ، فَيَجِيءُ طَعْنُهُ ضَعِيفًا سَخِيفًا ، وَيَكُونُ الرَّدُّ عَلَيْهِ سَهْلَ الْمَسْلَكِ . وَاضِحَ الْمَنْهَجِ ، وَقَلَّمَا يَكُونُ الدِّفَاعُ عَنِ التَّرْجَمَةِ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً ، وَلَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً إِلَّا فِي بَعْضِ الْجُمَلِ أَوِ الْآيَاتِ الْقَصِيرَةِ ، دُونَ السُّورِ وَالْآيَاتِ الطَّوِيلَةِ . بَلْ بَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ تَتَعَذَّرُ تَرْجَمَتُهَا بِمُفْرَدَاتٍ مِنَ اللُّغَاتِ الْأُخْرَى تُؤَدِّي الْمُرَادَ مِنْهَا ، وَإِنَّهُ لَيُوجَدُ فِي كُلِّ لُغَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ الَّتِي لَا يُوجَدُ لَهَا مُرَادِفٌ فِي لُغَةٍ أُخْرَى ، وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ اللُّغَاتِ الْمَشْهُورَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ أَغْنَاهُنَّ بِهَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ دَعْ مَا لَهَا مِنَ الْخَصَائِصِ فِي فُنُونِ الْمَجَازِ وَالْكِنَايَاتِ .