مسألة : بيان ما تعالج به العين
لما كان الحسد أضر ما يكون على الإنسان ، والإصابة بالعين حق لا شك فيها وجاء فيها : " لو أن شيئا يسبق القدر لسبقته العين " .
وحديث : فقد فصلت السنة كيفية اتقائها قبل وقوعها ، والعلاج منها إذا وقعت . " إن العين لحق "
وذلك فيما رواه مالك في الموطأ وغيره من الصحاح ، في حديث ، وبوب سهل بن حنيف في صحيحه باب رقية العين ، وذكر حديث البخاري عائشة أنها قالت : " أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمر أن يسترقى من العين " .
وعقد مالك في الموطأ بابا بعنوان الوضوء من العين ، وبابا آخر بعده بعنوان الرقية من العين ، وساق حديث سهل بتمامه وفيه بيان كيفية اتقائها وعلاجها ، ولذا نكتفي بإيراده لشموله .
قال : عن محمد بن أبي أسامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول : بالحرار فنزع جبة كانت عليه ، سهل بن حنيف ينظر ، قال : وكان وعامر بن ربيعة سهل رجلا أبيض حسن الجلد ، قال : فقال له : ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء ، قال : فوعك عامر بن ربيعة سهل مكانه واشتد وعكه ، فأتي رسول الله فأخبروه أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علام يقتل أحدكم أخاه ، ألا بركت ؟ إن العين حق ، توضأ له ، فتوضأ له عامر ، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس " . اغتسل أبي
[ ص: 168 ] وساق مرة أخرى وفيه ، ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامر بن ربيعة عامرا فتغيظ عليه ، وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ، ألا بركت ، اغتسل له ، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ، وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ، ليس به بأس " . فقال صلى الله عليه وسلم " هل تتهمون له أحدا ؟ قالوا : نتهم
فهذه القصة تثبت قطعا وقوع العين ، وهذا أمر مجمع عليه من أهل السنة وسلف الأمة ، كما أنها ترشد إلى أن من برك ، أي قال : تبارك الله .
وفي بعض الروايات لغير مالك : هلا كبرت ، أي يقول : الله أكبر ثلاثا ، فإن ذلك يرد عين العائن .
كما جاء في السنة فإذا لم تدفع عند صدورها وأصابت ، فإن العلاج منها كما جاء هنا " توضأ له " ، واللفظ الآخر : " اغتسل له " . " أن الدعاء يرد البلاء "
وقد فصل المراد بالغسل له : أنه غسل الوجه واليدين أي : الكفين فقط ، والمرفقين والركبتين والقدمين وطرف الإزار الداخلي ، ويكون ذلك في إناء لا يسقط الماء على الأرض ، ويفرغ هذا الماء على المصاب من الخلف ويكفأ الإناء خلفه .
وقد ذكرها مفصلة القاضي الباجي في شرح الموطأ فقال : وروي عن يحيى بن يحيى عن ابن نافع في معنى الوضوء الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
يغسل الذي يتهم بالرجل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه ورجليه وداخلة إزاره ، وقال : ولا يغسل ما بين اليد والمرفق ، أي : لا يغسل الساعد من اليد .
وروي عن أنه قال : الغسل الذي أدركنا علماءنا يصفونه : أي يؤتى العائن بقدح فيه ماء ، فيمسك مرتفعا من الأرض فيدخل فيه كفه فيمضمض ، ثم يمجه في القدح ، ثم يغسل وجهه في القدح صبة واحدة ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على كفه اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على ظهر كفه اليسرى صبة واحدة ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفقه الأيمن ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على قدمه اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على قدمه الأيسر ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على ركبته اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على ركبته اليسرى ، كل ذلك في قدح ثم يدخل داخلة إزاره في القدح ولا يوضع القدح [ ص: 169 ] في الأرض ، فيصب على رأس المعين من خلفه صبة واحدة ، وقيل : يغتفل ويصب عليه ، أي : في حالة غفلته ، ثم يكفأ القدح على ظهر الأرض وراءه . الزهري
وأما داخلة إزاره : فهو الطرف المتدلي الذي يفضي من مأزره إلى جلده مكانه ، إنما يمر بالطرف الأيمن على الأيسر ، حتى يشده بذلك الطرف المتدلي الذي يكون من داخل . ا هـ .
ومما يرشد إليه هذا الحديث تغيظه صلى الله عليه وسلم على . عامر بن ربيعة
وقوله صلى الله عليه وسلم : مما يبين شناعة هذا العمل ، وأنه قد يقتل . " علام يقتل أحدكم أخاه "
ومما ينبغي مراعاته من كل من الطرفين من ابتلي بالعين ، فليبارك عند رؤيته ما يعجبه لئلا يصيب أحدا بعينه ، ولئلا تسبقه عينه .
وكذلك من اتهم أحدا بالعين ، فليكبر ثلاثا عند تخوفه منه . فإن الله يدفع العين بذلك . والحمد لله .
وقد ذكروا للحسد دواء كذلك ، أي يداوي به الحاسد نفسه ليستريح من عناء الحسد المتوقد في قلبه المنغص عليه عيشه الجالب عليه حزنه ، وهو على سبيل الإجمال في أمرين . العلم ثم العمل .
والمراد بالعلم هو أن يعلم يقينا أن النعمة التي يراها على المحسود ، إنما هي عطاء من الله بقدر سابق وقضاء لازم ، وأن حسده إياه عليها لا يغير من ذلك شيئا ، ويعلم أن لعدم رضائه بقدر الله وقسمته لعباده ; لأنه في حسده كالمعترض على قوله تعالى : ضرر الحسد يعود على الحاسد وحده في دينه نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا [ 43 \ 32 ] ، وفي دنياه لأنه يورث السقام والأحزان والكآبة ونفرة الناس منه ومقتهم إياه ، ومن وراء هذا وذاك العقاب في الآخرة .
أما العمل فهو مجاهدة نفسه ضد نوازع الحسد ، كما تقدمت الإشارة إليه في الأسباب ، فإذا رأى ذا نعمة فازدرته عينه ، فليحاول أن يقدره ويخدمه .
وإن راودته نفسه بالإعجاب بنفسه ، ردها إلى التواضع وإظهار العجز والافتقار .
وإن سولت له نفسه تمني زوال النعمة عن غيره ، صرف ذلك إلى تمني مثلها لنفسه . وفضل الله عظيم .
[ ص: 170 ] وإن دعاه الحسد إلى الإساءة إلى المحسود ، سعى إلى الإحسان إليه ، وهكذا فيسلم من شدة الحسد ، ويسلم غيره من شره .
وكما في الأثر : " المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد " .
نسأل الله العافية والمعافاة .