تضمنت هذه الآية الكريمة امتنانا عظيما على خلقه بالماء الذي يشربونه ، وذلك أيضا آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته وشدة حاجة خلقه إليه ، والمعنى : أفرأيتم الماء الذين تشربون ، الذي لا غنى لكم عنه لحظة ، ولو أعدمناه لهلكتم جميعا في أقرب وقت : أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] .
والجواب الذي لا جواب غيره - هو أنت يا ربنا ، هو منزله من المزن ، ونحن لا قدرة لنا على ذلك . فيقال لهم : إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه تعالى فلم تكفرون به وتشربون ماءه وتأكلون رزقه وتعبدون غيره .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته شكرا لنعمة هذا الماء ، كما أشار له هنا بقوله : فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] - جاء في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 22 ] ، وقوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 16 \ 10 ] ، وقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا [ 25 \ 48 - 49 ] ، وقوله تعالى : وأسقيناكم ماء فراتا [ 77 \ 27 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله هنا : لو نشاء جعلناه أجاجا [ 56 \ 70 ] ، أي لو نشاء جعله أجاجا لفعلنا ، ولكن جعلناه عذبا فراتا سائغا شرابه ، وقد قدمنا في سورة الفرقان أن الماء الأجاج هو الجامع بين الملوحة والمرارة الشديدتين .
[ ص: 534 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه تعالى لو شاء لجعل الماء غير صالح للشراب - جاء معناه في آيات أخر كقوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 : 30 ] ، وقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] ، لأن الذهاب بالماء وجعله غورا لم يصل إليه وجعله أجاجا ، كل ذلك في المعنى سواء بجامع عدم تأتي شرب الماء . وهذه الآيات المذكورة تدل على شدة حاجة الخلق إلى خالقهم كما ترى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة أأنتم أنزلتموه من المزن [ 56 \ 69 ] ، يدل على أن جميع الماء الساكن في الأرض النابع من العيون والآبار ونحو ذلك ، أن أصله كله نازل من المزن ، وأن الله أسكنه في الأرض وخزنه فيها لخلقه .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض [ 23 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض [ 39 \ 21 ] ، وقد قدمنا هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين الآية [ 15 \ 22 ] ، وفي سورة " سبأ " في الكلام على قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها الآية [ 34 \ 2 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ، فلولا بمعنى هلا ، وهي حرف تحضيض ، وهو الطلب بحث وحض ، والمعنى أنهم يطلب منهم شكر هذا المنعم العظيم بحث وحض .
واعلم أن . الشكر يطلق من العبد لربه ومن الرب لعبده
فشكر العبد لربه ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى . فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا ما يرضي من خلقها ، وهكذا في جميع الجوارح . وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان . جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى هنا : وشكر العبد لربه فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ، وقوله تعالى : واشكروا لي ولا تكفرون [ 2 \ 152 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل ، ومنه قوله تعالى : ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] ، وقوله تعالى : إن ربنا لغفور شكور [ 35 \ 34 ] ، [ ص: 535 ] إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه لغوي
اعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة تارة ، وإلى المنعم أخرى ، فإن عديت إلى النعمة تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر كقوله تعالى : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي [ 27 \ 19 ] ، وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام كقولك : نحمد الله ونشكر له ، ولم تأت في القرآن معداة إلا باللام ، كقوله : واشكروا لي ولا تكفرون [ 2 \ 152 ] ، وقوله : أن اشكر لي ولوالديك [ 31 \ 14 ] ، وقوله : واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [ 16 \ 114 ] ، وقوله : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [ 29 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وهذه هي اللغة الفصحى ، وتعديتها للمفعول بدون اللام لغة لا لحن ، ومن ذلك قول أبي نخيلة :
شكرتك إن الشكر حبل من اتقى وما كل من أوليته نعمة يقضي
وقول جميل بن معمر :خليلي عوجا اليوم حتى تسلما على عذبة الأنياب طيبة النشر
فإنكما إن عجتما لي ساعة شكرتكما حتى أغيب في قبري