التنبيه التاسع
اعلم أن كل بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة ، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا أحد غير ذلك الإمام [ ص: 373 ] يجب عليه أن يتنبه تنبها تاما للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقا ، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه ، وما زاده المتأخرون وقتا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم . من يرى أنه لا بد له من تقليد الإمام في كل شيء
ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه ، لتبرأ منها ، وأنكر على ملحقها ، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح .
ويزيده بطلانا نسبته إلى الله ورسوله ، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله ، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم .
ومن أمثلته في مذهب مالك قول خليل المالكي في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى : كأقل الطهر ، يعني أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما .
والذين يعتقدون مذهب مالك يعتقدون أن مالكا يقول : بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما ، وهذا لم يقله مالك أبدا ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه .
والذي كان يقوله مالك : أن أقل الطهر ثمانية أيام أو عشرة أيام ، وهو الذي نقله عنه أجلاء أهل مذهبه في رسالته رحمه الله . كأبي محمد بن أبي زيد
والقول بأن أقل الطهر خمسة عشر هو قول واعتمده صاحب التلقين ، وجعله ابن مسلمة ابن شاش المشهور ، أي مشهور مذهب مالك .
مع أن مالكا لم يقله ولم يعلم به ، وأمثال هذا كثيرة جدا في مذهب مالك وغيره .
ومثال استحسان المتأخرين ما لم يقله الإمام مما لا شك أنه لو بلغ الإمام لم يقبله قول الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره في الصوم : وعاشوراء وتاسوعاء - ما نصه : قال الشيخ زروق في شرح القرطبية : صيام المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صلح علمه وورعه .
قال : إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه ، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرا ويستحسنه . انتهى .
قلت : لعله يعني ابن عباد . فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه : وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما [ ص: 374 ] يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب - أمر مباح لا ينكر على أحد قياسا على غيره من أوقات الفرح .
والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود ، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان - أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة .
ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر ، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاما مختلفا ليأكلوه هنالك .
فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل ، وكنت إذ ذاك صائما فقلت لهم : إني صائم ، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة ، وقال لي ما معناه : إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد ، فتأملت كلامه فوجدته حقا ، وكأنني كنت نائما فأيقظني . انتهى بلفظه .
فهذا الكلام الذي يقتضي من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا قول أحد من أصحابه ولا من تابعيه . قبح صوم يوم المولد وجعله كيوم العيد
ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من فقهاء الأمصار المعروفين الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالك ، ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس ، ولم يجر على أصول مذهبه ، لأن علة تحريم والفطر عنده أن الله تعالى يكلف عباده في كل سنة عبادتين عظيمتين والأمر بهما عام لكل من يستطيعهما ، وإحداهما تجب في العمر مرة واحدة وهي الحج . والثانية تجب كل سنة في شهر رمضان منها ، وهي الصوم ، فإذا انتهت عبادة الحج أو عبادة الصوم ألزم الله الناس كلهم أن يكونوا في ضيافته يوم النحر ويوم عيد الفطر . صوم يوم العيد
فمن صام في أحد اليومين أعرض عن ضيافة الله ، والإعراض عن ضيافته تعالى لا يجوز .
[ ص: 375 ] فإلحاق يوم المولد بيوم العيد إلحاق لا أساس له ، لأنه إلحاق ليس بجامع بينهما ولا نفي فارق ، ولا إلحاق البتة إلا بجامع أو نفي فارق .
وكل من لم يطمس الله بصيرته يعلم أن الحق الذي لا شك فيه هو اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
ومعلوم أن جعل يوم المولد كيوم العيد في منع الصوم لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا أحد من الأئمة الأربعة ، فهو تشريع لاستقباح قربة الصوم ومنعها في يوم المولد من غير استناد إلى وحي ولا قياس صحيح ، ولا قول أحد ممن يقتدى به .
ومما لا نزاع فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله رحمة للعالمين ، كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] ، ورسالته - صلى الله عليه وسلم - هي أعظم نعمة على الخلق ، كما بينه علماء التفسير في الكلام على قوله تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا [ 14 \ 28 ] ، والخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه ، والشر كل الشر في تشريع ما لم يشرعه ، والتقول عليه بما لم يقله .
فالمقلدون لمالك مثل هذا التقليد الأعمى يعتقدون أن هذا الكلام الذي ذكره الحطاب عن زروق وابن عباد وابن عاشر ، أنه هو مذهب مالك وأنه من شرع الله ودينه ، وأنه ما دام من مذهب مالك ، فاللازم تقديمه على الكتاب والسنة لأنهما . لا يجوز العمل إلا للمجتهد المطلق
وهذا مثال من بلايا التقليد الأعمى وعظائمه .
ولا يخفى أن ادعاء أن وجود نعم الله كمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على استقباح طاعة الله بالصوم في أوقات وجود تلك النعم - ظاهر الفساد ، لأن المناسب لنعم الله هو طاعته بأنواع الطاعات كالصوم .
ولذا تجد الناس ينذرون لله صوم اليوم الذي ينعم الله عليهم فيه بشفاء المريض أو إتيان الغائب ، وهذا أمر معروف وهو المعقول لا عكسه .
ومما يوضح هذا أن إنزال القرآن العظيم هو أعظم نعمة على البشر ; ولأجل ذلك علمهم الله حمده تعالى على هذه النعمة العظمى في أول سورة الكهف في قوله تعالى : [ ص: 376 ] الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] .
وقد بين تعالى أنه أنزل هذه النعمة في شهر رمضان ، فكان نزول هذه النعمة في شهر رمضان مقتضيا لصومه لا لجعل أيامه أعيادا يستقبح صومها ، لأن الله تعالى قال : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [ 2 \ 185 ] .
وهذا هو أعظم النعم ، وقد رتب على هذا بالفاء قوله بعده : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، فافهم .
والمقصود بهذا المثال النصيحة للذين لم يقدروا على غير هذا التقليد الأعمى ليبحثوا في كتب المذهب وأمهاته عن أقوال الإمام وكبار أصحابه ليفرقوا بينها وبين أنواع الاستحسان التي لا مستند لها ، التي يدخلها المتأخرون وقتا بعد وقت وهي ظاهرة الفساد عند من رزقه الله علما بكتاب الله وسنة رسوله .
ومما لا شك فيه أن أقوال مالك وكبراء أصحابه مثلا أحرى بالصواب في الجملة من استحسان ابن عباد وابن عاشر وأمثالهما .