والتأويل الذي استظهرنا به هنالك يبدو في هذه النظيرة الرابعة أوضح ، وصيغة الجمع في قوله : " رسل " وقوله " يقصون " تقتضي توقع مجيء عدة رسل ، وذلك منتف بعد بعثة الرسول الخاتم للرسل الحاشر العاقب - عليه الصلاة والسلام - فذلك يتأكد أن يكون هذا الخطاب لبني آدم الحاضرين وقت نزول القرآن ، ويرجح أن تكون هذه النداءات الأربعة حكاية لقول موجه إلى بني آدم الأولين الذي أوله : قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون .
قال ابن عطية : وكأن هذا خطاب لجميع الأمم قديمها وحديثها ، هو متمكن لهم ، ومتحصل منه لحاضري محمد - صلى الله عليه وسلم - أن هذا حكم الله في العالم منذ أنشأه يريد أن الله أبلغ الناس هذا الخطاب على لسان كل نبيء ، من آدم إلى هلم جرا ، فما من نبيء أو رسول إلا وبلغه أمته ، [ ص: 107 ] وأمرهم بأن يبلغ الشاهد منهم الغائب ، حتى نزل في القرآن على محمد - صلى الله عليه وسلم - فعلمت أمته أنها مشمولة في عموم بني آدم .
وإذا كان ذلك متعينا في هذه الآية أو كالمتعين تعين اعتبار مثله في نظائرها الثلاث الماضية ، فشد به يدك ، ولا تعبأ بمن حردك .
فأما إذا جعل الخطاب في هذه الآية موجها إلى المشركين في زمن النزول ، بعنوان كونهم من بني آدم ، فهنالك يتعين صرف معنى الشرط إلى ما يأتي من الزمان بعد نزول الآية لأن الشرط يقتضي الاستقبال غالبا ، كأنه قيل إن فاتكم اتباع ما أنزل إليكم فيما مضى لا يفتكم فيما بقي ، ويتعين تأويل يأتينكم بمعنى يدعونكم ، ويتعين جعل جمع الرسل على إرادة رسول واحد تعظيما له ، كما في قوله تعالى : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم أي كذبوا رسوله نوحا ، وقوله : كذبت قوم نوح المرسلين وله نظائر كثيرة في القرآن .
وهذه الآية ، والتي بعدها ، متصلتا المعنى بمضمون قوله تعالى في أول السورة : وكم من قرية أهلكناها الآية . اتصال التفصيل بإجماله .
أكد به تحذيرهم من كيد الشيطان وفتونه ، وأراهم به مناهج الرشد التي تعين على تجنب كيده ، بدعوة الرسل إياهم إلى التقوى والإصلاح ، كما أشار إليه بقوله ، في الخطاب السابق : يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة وأنبأهم بأن الشيطان توعد نوع الإنسان فيما حكى الله من قوله : قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم الآية فلذلك حذر الله بني آدم من كيد الشيطان ، وأشعرهم بقوة الشيطان بقوله : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم عسى أن يتخذوا العدة للنجاة من مخالب فتنته ، وأردف ذلك بالتحذير من حزبه ودعاته الذين يفتنون المؤمنين ، ثم عزز ذلك بإعلامه إياهم أنه أعانهم على الاحتراز [ ص: 108 ] من الشيطان ، بأن يبعث إليهم قوما من حزب الله يبلغونهم عن الله ما فيه منجاة لهم من كيد الشياطين ، بقوله : يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم الآية فأوصاهم بتصديقهم والامتثال لهم .
و ( إما ) مركبة من إن الشرطية وما الزائدة المؤكدة لمعنى الشرطية ، واصطلح أيمة رسم الخط على كتابتها في صورة كلمة واحدة ، رعيا لحالة النطق بها بإدغام النون في الميم ، والأظهر أنها تفيد مع التأكيد عموم الشرط مثل أخواتها ( مهما ) و ( أينما ) ، فإذا اقترنت بإن الشرطية اقترنت نون التوكيد بفعل الشرط كقوله تعالى : فإما ترين من البشر أحدا فقولي " سورة مريم " لأن التوكيد الشرطي يشبه القسم ، وهذا الاقتران بالنون غالب ، ولأنها لما وقعت توكيدا للشرط تنزلت من أداة الشرط منزلة جزء الكلمة .
وقوله : ( منكم ) أي من بني آدم ، وهذا تنبيه لبني آدم بأنهم لا يترقبون أن تجيئهم رسل الله من الملائكة لأن المرسل يكون من جنس من أرسل إليهم ، وفي هذا تعريض بالجهلة من الأمم الذين أنكروا رسالة الرسل لأنهم من جنسهم ، مثل قوم نوح ، إذ قالوا : ما نراك إلا بشرا مثلنا ومثل المشركين من أهل مكة إذ كذبوا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه بشر قال تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا .
ومعنى يقصون عليكم آياتي يتلونها ويحكونها ويجوز أن يكون بمعنى يتبعون الآية بأخرى ويجوز أن يكون بمعنى يظهرون ، وكلها معان مجازية للقص لأن حقيقة القص هي أن أصل القصص إتباع الحديث من اقتصاص أثر الأرجل واتباعه لتعرف جهة الماشي ، فعلى المعنى الأول فهو كقوله في الآية الأخرى : ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وأيا ما كان فهو محتمل للحمل على جميعها من استعمال اللفظ في مجازيه . [ ص: 109 ] الآية أصلها العلامة الدالة على شيء ، من قول أو فعل ، وآيات الله الدلائل التي جعلها دالة على وجوده ، أو على صفاته ، أو على صدق رسله ، كما تقدم عند قوله تعالى : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا في سورة البقرة ، وقوله تعالى : وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه في سورة الأنعام ، ومنه آيات القرآن التي جعلها الله دلالة على مراده للناس ، للتعريض بالمشركين من العرب ، الذين أنكروا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ووجه دلالة الآيات على ذلك إما لأنها جاءت على نظم يعجز البشر عن تأليف مثله ، وذلك من خصائص القرآن ، وإما لأنها تشتمل على أحكام ومعان لا قبل لغير الله ورسوله بإدراك مثلها ، أو لأنها تدعو إلى صلاح لم يعهده الناس ، فيدل ما اشتملت عليه على أنه مما أراده الله للناس ، مثل بقية الكتب التي جاءت بها الرسل ، وإما لأنها قارنتها أمور خارقة للعادة تحدى بها الرسول المرسل بتلك الأقوال أمته ، فهذا معنى تسميتها آيات ، ومعنى إضافتها إلى الله تعالى ، ويجوز أن يكون المراد بالآيات ما يشمل المعجزات غير القولية ، مثل نبع الماء من بين أصابع محمد - صلى الله عليه وسلم - ومثل قلب العصا حية لموسى - عليه السلام ، وإبراء الأكمه لعيسى - عليه السلام ، ومعنى التكذيب بها العناد بإنكارها وجحدها .
وجملة : فمن اتقى وأصلح جواب الشرط وبينها وبين جملة : ( إما يأتينكم ) محذوف تقديره : فاتقى منكم فريق وكذب فريق فمن اتقى إلخ ، وهذه الجملة شرطية أيضا ، وجوابها فلا خوف عليهم ، أي فمن اتبع رسلي فاتقاني وأصلح نفسه وعمله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولما كان إتيان الرسل فائدته لإصلاح الناس ، لا لنفع الرسل ، عدل عن جعل الجواب اتباع الرسل إلى جعله التقوى والصلاح ، إيماء إلى ، وتحريضا على اتباعهم بأن فائدته للأمم لا للرسل ، كما قال حكمة إرسال الرسل شعيب : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت ، أي لا خوف عليهم من عقوبة الله في الدنيا والآخرة ولا هم يحزنون من شيء [ ص: 110 ] من ذلك ، فالخوف والحزن المنفيان هما ما يوجبه العقاب ، وقد ينتفي عنهم الخوف والحزن مطلقا بمقدار قوة التقوى والصلاح ، وهذا من الأسرار التي بين الله وعباده الصالحين ، ومثله قوله تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
وقد نفي الخوف نفي الجنس بلا النافية له ، وجيء باسمها مرفوعا لأن الرفع يساوي البناء على الفتح في مثل هذا ، لأن الخوف من الأجناس المعنوية التي لا يتوهم في نفيها أن يكون المراد نفي الفرد الواحد ، ولو فتح مثله لصح ، ومنه قول الرابعة من نساء حديث أم زرع : زوجي كليل تهامة ، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سئامة فقد روي بالرفع وبالفتح .
و ( على ) في قوله : فلا خوف عليهم للاستعلاء المجازي ، وهو المقارنة والملازمة ، أي لا خوف ينالهم .
وقوله : ولا هم يحزنون جملة عطفت على جملة : فلا خوف عليهم ، وعدل عن عطف المفرد ، بأن يقال : ولا حزن ، إلى الجملة : ليتأتى بذلك بناء المسند الفعلي على ضميرهم ، فيدل على أن الحزن واقع بغيرهم . وهم الذين كفروا ، فإن بناء الخبر الفعلي على المسند إليه المتقدم عليه يفيد تخصيص المسند إليه بذلك الخبر ، نحو : ما أنا قلت هذا ، فإنه نفي صدور القول من المتكلم مع كون القول واقعا من غيره ، وعليه بيت دلائل الإعجاز ، وهو : للمتنبي
وما أنا أسقمت جسـمـي بـه ولا أنا أضرمت في القلب نارا
فيفيد أن الذين كفروا يحزنون إفادة بطريق المفهوم ، ليكون كالمقدمة للخبر عنهم بعد ذلك بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون .[ ص: 111 ] وجملة : والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار معطوفة على جملة ( فمن اتقى وأصلح ) والرابط محذوف تقديره : والذين كفروا منكم وكذبوا .
والاستكبار مبالغة في التكبر ، فالسين والتاء للمبالغة ، وهو أن يعد المرء نفسه كبيرا أي عظيما وما هو به ، فالسين والتاء للعد والحسبان ، وكلا الأمرين يؤذن بإفراطهم في ذلك وأنهم عدوا قدرهم .
وضمن الاستكبار معنى الإعراض ، فعلق به ضمير الآيات ، والمعنى : واستكبروا فأعرضوا عنها .
وأفاد تحقيق أنهم صائرون إلى النار بطريق قصر ملازمة النار عليهم في قوله : أولئك أصحاب النار لأن لفظ ( أصحاب ) مؤذن بالملازمة ، وبما تدل عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات في قوله : هم فيها خالدون .