[ ص: 458 ] وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم
شروع في دعوة بني إسرائيل إلى الإسلام وهدي القرآن وهذا هو المقصود من خطابهم ولكن قدم بين يديه ما يهيئ نفوسهم إلى قبوله كما تتقدم المقدمة على الغرض ، والتخلية على التحلية .
أو بكتب الله وإن كان من جملة ما شمله العهد المشار إليه بقوله والإيمان بالكتاب المنزل من عند الله وأوفوا بعهدي إلا أنه لم يلتفت إليه هنا من تلك الجهة لأنهم عاهدوا الله على أشياء كثيرة كما تقدم ومن جملتها الإيمان بالرسل والكتب التي تأتي بعد موسى عليه السلام إلا أن ذلك مجمل في العهد فلا يتعين أن يكون ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو مما عاهدوا الله عليه بل حتى يصدقوا بأنه من عند الله وأن الجائي به رسول من الله فهم مدعوون إلى ذلك التصديق هنا . فعطف قوله وآمنوا على قوله وإياي فارهبون كعطف المقصد على المقدمة ، وعطفه على قوله وأوفوا بعهدي من قبيل عطف الخاص على العام في المعنى ولكن هذا من عطف الجمل فلا يقال فيه عطف خاص على عام لأنه إنما يكون في عطف الجزئي على الكلي من المفردات لا في عطف الجمل وإنما أردنا تقريب موقع الجملة وتوجيه إيرادها موصولة غير مفصولة .
وفي تعليق الأمر باسم الموصول وهو ما أنزلت دون غيره من الأسماء نحو الكتاب أو القرآن أو هذا الكتاب إيماء إلى تعليل الأمر بالإيمان به وهو أنه منزل من الله وهم قد أوصوا بالإيمان بكل كتاب يثبت أنه منزل من الله .
ولهذا أتى بالحال التي هي علة الصلة إذ جعل كونه مصدقا لما في التوراة علامة على أنه من عند الله . وهي العلامة الدينية المناسبة لأهل العلم من أهل الكتاب فكما جعل الإعجاز اللفظي علامة على كون القرآن من عند الله لأهل الفصاحة والبلاغة من العرب كما أشير إليه بقوله الم ذلك الكتاب إلى قوله فأتوا بسورة من مثله كذلك جعل الإعجاز المعنوي وهو اشتماله على الهدى الذي هو شأن الكتب الإلهية علامة على أنه من عنده لأهل الدين والعلم بالشرائع . ثم الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بالذي جاء به وبالذي أنزله . والمراد بما معهم كتب التوراة الأربعة وما ألحق بها من كتب الأنبياء من بني إسرائيل [ ص: 459 ] كالزبور ، وكتاب أشعياء ، وأرمياء ، وحزقيال ، ودانيال ، وغيرها ولذا اختير التعبير بما معكم دون التوراة مع أنها عبر بها في مواضع غير هذا لأن في كتب الأنبياء من بعد موسى عليه السلام بشارات ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - أصرح مما في التوراة فكان التنبيه إليها أوقع .
والمراد من كون القرآن مصدقا لما معهم أنه يشتمل على الهدى الذي دعت إليه أنبياؤهم من التوحيد والأمر بالفضائل واجتناب الرذائل وإقامة العدل ومن الوعد والوعيد والمواعظ والقصص ؛ فما تماثل منه بها فأمره ظاهر وما اختلف فإنما هو لاختلاف المصالح والعصور مع دخول الجميع تحت أصل واحد . ولذلك سمي ذلك الاختلاف نسخا لأن النسخ إزالة حكم ثابت ولم يسم إبطالا أو تكذيبا فظهر أنه مصدق لما معهم حتى فيما جاء مخالفا فيه لما معهم لأنه ينادي على أن المخالفة تغيير أحكام تبعا لتغير أحوال المصالح والمفاسد بسبب تفاوت الأعصار بحيث يكون المغير والمغير حقا بحسب زمانه وليس ذلك إبطالا ولا تكذيبا قال تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات الآية . فالإيمان بالقرآن لا ينافي تمسكهم القديم بدينهم ولا ما سبق من أخذ رسلهم عليهم العهد باتباعه . ومما يشمله تصديق القرآن لما معهم أن الصفات التي اشتمل عليها القرآن ودين الإسلام والجائي به موافقة لما بشرت به كتبهم فيكون وروده معجزة لأنبيائهم وتصديقا آخر لدينهم وهو أحد وجهين ذكرهما الفخر والبيضاوي فيلزم تأويل التصديق بالتحقيق لأن التصديق في إعلام المخبر بفتح الباء بأن خبر المخبر مطابق للواقع إما بقوله صدقت أو صدق فلان كما ورد في حديث جبريل في صحيح لما سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان أنه لما أخبره قال السائل البخاري ، وإما بأن يخبر الرجل بخبر مثل ما أخبر به غيره فيكون إخباره الثاني تصديقا لإخبار الأول . وأما إطلاق التصديق على دلالة شيء على صدق خبر ما فهو إطلاق مجازي والمقصود وصف القرآن بكونه مصدقا لما معهم بأخباره وأحكامه لا وصف الدين والنبوة كما لا يخفى . صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه